حروف لاطینیہ
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
اصناف
إلى القارئ
القسم الأول
المطلب الأول
المطلب الثاني
المطلب الثالث
القسم الثاني
اقتراح اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم الكتابة العربية
ملاحق
إلى القارئ
القسم الأول
نامعلوم صفحہ
المطلب الأول
المطلب الثاني
المطلب الثالث
القسم الثاني
اقتراح اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم الكتابة العربية
ملاحق
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
تأليف
عبد العزيز فهمي
نامعلوم صفحہ
إلى القارئ
هذا الكتيب قسمان، في أولهما ثلاثة مطالب؛ في المطلب الأول أقدم لك بيانا لما جرى بالمجمع اللغوي في مسألة رسم الكتابة، وكيف اقترحت لها الحروف اللاتينية، وكيف أني في كلامي على صعوبات العربية ونسبتها إلى غيرها من اللغات ونسبة أهلها إلى غيرهم من الأمم، قد نهجت طريقة الوصف الواقعي الصادق القاسي، دون الوصف العاطفي الكاذب الرقيق. وأقدم لك في المطلب الثاني تفصيلا لجميع ما وصل لعلمي من الاعتراضات على اقتراحي، ثم ردي على كل منها. وفي المطلب الثالث أضع تحت نظرك نماذج لخير الطرق التي اقترحت لتعديل الرسم مع استبقاء الحروف العربية.
وقد جعلت المطلب الأول إحدى عشرة فقرة متتابعة بحسب ما به من الفكرات الرئيسية المختلفة. أما المطلب الثاني فيقع في فقرة واحدة؛ هي فقرة 12، تحتها أدرجت الاعتراضات بالترتيب العددي من الأول إلى الثالث والعشرين. وجعلت المطلب الثالث فقرة واحدة أيضا هي رقم 13. وكل أرقام الفقرات الثلاث عشرة المذكورة مطبوعة في هذا الكتيب بالحجم الكبير.
أما القسم الثاني فإنه صورة حرفية لبيان اقتراحي الذي قدمته لمؤتمر المجمع، وكان قد طبع بالمطبعة الأميرية ونفدت نسخه. فأنا أعيد طبعه الآن كما هو مع ما كان يتلوه من النماذج، ولم أزد عليه إلا بضعة بيانات وضعتها عند تمثيل هذا الكتيب للطبع، وقد جعلتها هوامش في ذيل صحائف المتن حتى لا تختلط بأصله.
وترى فيما بعد فهرسا حاويا لرءوس مسائل القسم الأول بمطالبه الثلاثة على الترتيب المتقدم.
وأسترعي نظرك:
أولا:
إلى أن هذا الكتيب تم إعداده للطبع، وقدم للمطبعة فعلا في أواخر يونيو سنة 1944، وأخذت هي في عملها في غضون شهر يوليو. وحينئذ كانت الاعتراضات اثنين وعشرين فقط، غير أني وجدت مجلة «الثقافة» نشرت تباعا في أعدادها الصادرة في 18 و25 يوليو وأول أغسطس سنة 1944 اعتراضا آخر لحضرة الأستاذ يوسف العش من دمشق، فرأيت الرد عليه هو أيضا. وبما أن المطبعة كانت قد أتمت نهائيا تهيئة جميع الاعتراضات المدرجة بالمطلب الثاني من القسم الأول للطبع، وتجاوزتها فعلا إلى المطلب الثالث فهيأت بعضه تهيئة ابتدائية؛ فقد وجهت نظرها كيما تحتاط لإدراج ردي على اعتراض حضرة الأستاذ المومأ إليه عقب الاعتراضات الأخرى، وقد فعلت. فتكون الاعتراضات ثلاثة وعشرين لا اثنين وعشرين فقط، كما أشير إليه في صلب الكتيب في صدر المطلب الثاني المذكور.
ثانيا:
إلى أني لم يكن من نيتي أن أطبع - بهذا الكتيب - سوى الاعتراض الثاني والعشرين الذي نشرته «المجلة» البغدادية، أما سائر الاعتراضات الأخرى فكنت معولا على إيداعها - هي وتعقيباتي عليها - إدارة المجمع ليطلع عليها حضرات أعضائه ومن يريدون من حضرات المعترضين؛ لأني بطبعي أكره مساجلة الناس والأخذ والرد معهم بطريق النشر العلني. لكن بعض المهتمين بهذه المشكلة ألحوا في وجوب طبع جميع الاعتراضات والتعقيبات؛ لما في هذا من تجلية الأمر للجمهور وتمكينه من تقدير الآراء وإبداء ما قد يكون لديه من أسباب الموافقة أو المخالفة، مما هو مدعاة للتمحيص الذي قد يؤدي إلى الاستقرار على شيء بعينه. وقد توارد علي هذا الإلحاح من كل جانب، فقبلت وقدمت الكتيب للطبع مع كل تلك الاعتراضات والردود كما تقدم. على أني حرصت على عدم ذكر اسم أحد من المعترضين سوى حضرتي الفاضلين صاحبي الاعتراضين الأخيرين؛ وأولهما من العراق والثاني من دمشق. وقد رميت بهذا التجهيل إلى التهوين من وقع ما يكون في ردودي من بعض العبارات القاسية.
نامعلوم صفحہ
ثالثا:
إلى أني في الفهرس لم أشر إلا إلى ما في الاعتراضات من النقط الأساسية، وأما تعقيباتي فلم ألخص شيئا من نقاطها، بل تركت للقارئ أن يطلع على أصلها ذاته إن أراد.
هذا، ومن الناس من يتساءلون كيف يمر بخاطري - وأنا ممن يعتزون بقوميتهم وبلغتهم العربية - أن أستبدل الحروف اللاتينية بالحروف العربية لرسم الكتابة؟ لهؤلاء المتسائلين كل العذر، لكني أعرف أيضا كيف أفهم واجبي وأؤديه في أي وضع أكون. تركت العمل وعولت على قضاء ما بقي من زمني بقريتي، هادئا بعيدا عن المغامرات والمساجلات والمناصبات في أي منحى من مناحي الحياة العامة، لكن لشقوتي لم يذرني القدر أهدأ، بل فوجئت في عزلتي - فيما فوجئت به - بتعييني عضوا بمجمعنا اللغوي. ترددت بين القبول والرفض، في القبول مشقة، وفي رفض المقدور عليه في ظن الناس ما يشبه فرار الجبان، وفكرة الجبن شر ما تضيق به نفسي. قبلت على مضة معللا النفس بأن الأمر خدمة للعربية بمعهد هادئ بين نخبة من خيرة علمائنا وأدبائنا الأفاضل، إن قصرت في مجاراتهم كان لي من رجاحة عقولهم ورحابة صدورهم وكرم أخلاقهم ما يسع قصوري أو تقصيري، ولا يشعرني بشيء من قلة غنائي. وأول ما عنيت به بداهة معرفة واجب عضو هذا المجمع اللغوي. قرأت في مرسوم تأليفه أن من لب مهمته المحافظة على سلامة العربية، وأن يحقق ما يصدره وزير المعارف لهذا الغرض من القرارات، ثم قرأت في لائحته أن عليه النظر في تيسير الكتابة العربية. وفي قرار لوزير المعارف: أن عليه أن يبحث أمر تيسير هذه الكتابة تيسيرا يقي ألسنة قرائها من اللحن والخطأ، فواجب المجمع في هذا الصدد معين بالنصوص الصريحة، وأنا من ضمن أعضاء لجنة الأصول المكلفة تأدية هذا الواجب ضمن ما عليها من التكليفات. واجبي إذن بين؛ هو المحافظة على الفصحى، وجعل قارئ ما هو مكتوب بها لا يلحن في قراءته ولا يخطئ. وإذ قبلت عضوية المجمع فإما أن أؤدي هذا الواجب بحسب ما أراه، وإما أن أفارق. ولا سبيل في رأيي لتأديته حق التأدية إلا باتخاذ الحروف اللاتينية وفيها حروف الحركات، لا إطلاقا، بل على وجه خاص رأيته. أما «الشكل» الكلي أو الجزئي أو حروف أو ذنبات توضع للحركات في غضون الرسم العربي، فقد فكرت فيها كثيرا ولم أجد شيئا منها صالحا.
فتأدية الواجب هي التي أمرت بخاطري اتخاذ الحروف اللاتينية ودفعتني إلى اقتراحها، فليعلمه المتسائلون . ثم ليعلموا أن الكتابة الراهنة إنما تصلح لتصوير العامية فقط، فإن استطاعوا أن يجعلوا أولي الأمر يقررون اتخاذ هذه العامية لغة رسمية للبلاد، ويعدلون اختصاص المجمع اللغوي، فعندها أستبصر لنفسي، وهيهات أن يستطيعوا شيئا من هذا، هيهات!
ولا يفوتني هنا التنويه بذكر رجلين من ذوي الجد والرأي الناضج؛ الأستاذ شوقي أمين من موظفي المجمع، ومحمود عمر رئيس الكتاب بمحكمة النقض والإبرام. أمليت ثانيهما ما وضعته من المسودات، وتكفل بتبييضه وإعداده للطبع، ولقد نبهني - في بعض المواضع - إلى قصور العبارة عن أداء المعنى المقصود، فأصلحت ما نبهني إليه مغتبطا بسلامة نظره كل الاغتباط. أما أولهما الأستاذ شوقي، فقد تولى عني تصحيح تجارب (بروفات) المطبعة، ولقد وجدته من المتحرجين، بل المتحنثين
المتأثمين في مفردات اللغة، لا يطيق أن يرى لفظا لم تجمع كل المعاجم عليه أو على وجه استعماله. وإليك ما استعملت من الألفاظ فلم يرضه: «احتاس، يساوي (بحذف المفعول)، غبآء، تندر، نضوج، عديدون (بمعنى متعددين)، نبوءة، تأكد الرجل من كذا، مران، معدن (بمعنى منجم) كشارة.» لم يرض، بل رأى أن أستبدل بها على الترتيب: «انحاس، يساوي كذا (بذكر المفعول)، غباوة، تنادر، نضاج أو نضج، متعددون، تكهن، تأكد للرجل كذا، مرانة، منجم، قطوب.» ومع اعتقادي بأن ما استعملته من الألفاظ سائغ لا تأباه أقيسة العربية ولا ذوق كتابها، غير أني - إعجابا بتحرجه - قبلت تغيير بعضها بما أشار به أو بغير ما أشار. إنما هناك مسألة لم أستطع زحزحته فيها عن رأيه: في الجمل الاقترانية؛ وهي ما يكون حدث إحداها واقعا في الزمن نفسه الواقع فيه حدث الأخرى؛ مثل: «زيد كان يقرأ في الوقت الذي فيه عمرو كان يأكل.» لا أرى أي مانع في العربية من أن يقال: «كان زيد يقرأ بينما كان عمرو يأكل.» كما يقال: «بينما كان عمرو يأكل كان زيد يقرأ.»
غاية الأمر أن استعمال إحدى العبارتين يكون تبعا لما يهتم بالإخبار عنه من فاعليهما، لكن سيدنا شوقي يمنع التعبير الأول بتاتا، ويرى أن «بينما» لها الصدارة كحروف الاستفهام وأسمائه ، وأن التعبير الثاني هو وحده الصحيح، ويقول: إن هذا منبه عليه في كتب النحاة، وإن من يريد استعمال التعبير الأول فعليه أن يستبدل بكلمة «بينما» كلمتي «على حين» أو «في حين» مثلا؛ فيقول: «كان زيد يقرأ في حين عمرو كان يأكل.» ولقد حاولت إقناعه بأن في العبارة جملتين، وأن «بينما» لها الصدارة في الجملة الثانية التي هي فيها، وأني لم أنزلها عن صدارتها، وأن هذا لا تأباه أساليب العربية على الرغم مما يحتج به من أقوال النحاة. ولكنه توقف وتأبى وكاد يغوث، فاحتراما لفضيلة ثباته على ما يعتقده الصواب المتعين، وإشفاقا عليه من التغويث، قد حرمت على نفسي استعمال «بينما» واستعضت عنها بكلمتي «على حين» أو «في حين»، وهما على كل حال عربيتان صحيحتان كل الصحة، ومطروقتان في الاستعمال، فلحضرته كل إعجاب به وكل شكر له واحترام.
عبد العزيز فهمي
15 أغسطس سنة 1944
القسم الأول
نامعلوم صفحہ
المطلب الأول
1
آمنت بالعقل ورضيت منه بالحاصل، وجريت وأجريت في السبيل التي هدى، والحلبة التي اختار. وفيما أنا آخذ بسنته إذا به يرطمني في تلك المسألة الوحلة؛ مسألة رسم الكتابة العربية، التي شقي بها الأوائل واحتاس فيها الأواخر. أدليت فيها برأيي الذي كونته على هدى هذا العقل، وهو حاضري ومجري قلمي ومحرك لساني، فإذا هو كان يخدعني، وإذا هو ختال!
ألم تر كيف أني ما كدت أنطق بهذا الرأي حتى هبت من صفوف الخاصة والعامة، ممن يساوي ومن لا يساوي، جماهير هائجة هيجان جماعات الدبر وأرجال الجراد، تعول وتولول صاخبة مستصرخة من يعديها على مرتكب هذا الحنث العظيم؟
بل إن سيدا من أغزر الناس علما، وأكثرهم عملا، وأقومهم تدينا، بل حتى هذا السيد المتزن الكريم قد انساق مع التيار فظن الظنون فجمح قلمه، فأباتني، من رحمة له وإشفاق عليه، غير موسد.
ماذا عساني إذن أن أقول أمام تلك الهبات والصيحات والمرازءات؟ أقول ... أقول ... أظن أني مخطئ!
أما سمعت ووعيت منذ الصغر قولهم: «ألسنة الخلق أقلام الحق»؟
هاك ألسنة الجماهير من مخاليق الله تقول إني مخطئ.
إذن أنا مخطئ حقا، بهذا يقضي القياس الذي شرعه أرستطاليس، عابد النجوم اللعين.
لكن أظن أني غير مخطئ!
نامعلوم صفحہ
ألم يبلغك أن الجماهير لا عقل لها؟ أولم تقرأ عن «بيكون» فيلسوف الإنجليز أنه قال: «أخس ضروب الرياء مصانعة الدهماء»؟ أولم تقرأ ما أثر عن ذلك البطل الخطيب اليوناني من أنه إذا صفق له الجمهور وهو يخطب، التفت إلى من حوله قائلا: «ترى أي خطأ فرط مني؟» بل ما لي وللماضي البعيد؟ أولم تسمع من بعض الأحياء أن رجلا من خيرة أساتذة العربية هوسته السياسة فكلف بالمظاهرات، وبينما جمهور أرباب الحناجر يزفه عالي الهتاف، إذا بأحد الظرفاء يندس صائحا بكلمة حسنة الرنين قبيحة المدلول، فاستطاب الجمهور رنينها وطفق يرددها، وامتثل المزفوف الذي يفهم معناها، بعد أن لم يغن عنه صوته الذي بح من المعارضة ولكن أذابته حماسة الغوغاء؟
وإذن فأظنني لم أخطئ ما دامت تلك الجماهير من مخلوقات الله لم تصفق، بل تلقتني بالصفير، بهذا يقضى أيضا قياسا لمولانا أرستطاليس العظيم.
مخطئ؟ غير مخطئ؟ «
That is the question
هذه هي المسألة.»
وإنها لأحجية أعقد من ذنب الضب، ومشكلة غبراء عسراء بالغة في الاعتياص! فمن لي بحلها وإنقاذي مما يساورني، في صحة رأيي أو فساده، من الشك الأليم؟ رحماك اللهم! إذا كنت تدرك الأبصار فإنك سبحانك لا تدركك الأبصار، وقد حكمت بانقطاع وحيك بعد نبيك الكريم، فإلى من تكلني؟ إنه ليس أمامي في هذه الدنيا من أهل العلم الذين نصبوا أنفسهم للفتوى في مثل هذه البلوى إلا اثنان لا ثالث لهما؛ العقل والهوى. أما العقل فقد استضعفني واستوطأ حائطي فتسورها علي، ثم دلف نحوي وتزلف وداهن وألقى في روعي أنك خلقته من نور، فأنست به واصطفيته لنفسي، ثم هش وبش وتطامن وهز ذنبه متملقا، وأوهمني أنك أمرت الشيطان فقبض قبضة من حمأة آسنة منتنة، فخلقت منها الهوى والزئبق والحرباء، وأنك أودعت فيها خصائصها فاستبد الهوى بأخويه فكان جماع تلك الخصائص، فهو أثير طيار طياش، همزة لمزة، هراج هباج، لا حد لأفاعيله في الزمان ولا في المكان. وهو إذا تجسم كان زئبقا زلجا زلقا لا تمسكه اليد ولا تضبطه البنان، ولو أبصره مبصر لما ظفرت عيناه بطائل؛ لأنه حرباءة خنثى مشكل هلوك، تقلبت عبثا بين البعولة، ولما استيأست ارتدت عن مذهب أمها، وصبأت إلى عبادة الشمس، فعوقبت بالتهاويل في إهابها، فيها كل لون وليس لها لون.
هذا الكلام المعسول الطريف الظريف كره إلي الهوى، فلن أستفتيه أبدا ما حييت.
لم يبق لي بعد من أهل الفتيا إلا العقل، وها أنا ذا أرى أن ما قسمت لي منه فركنت إليه وصحبني كريما راضيا مرضيا، قد غرر بي في الساعة الأخيرة من صحبته التي امتد أجلها.
أرى هذا، وأرى ما أودعته منه في الناس قد أفلس، وقلت قيمته وكسد سومه، وأن التقول والتأفك والزور والبهتان، وهي من بنات الهوى، أصبحت هي الصائح المحكي، وليس لغيرها صوت ولا همس ولا صدى.
عفوك اللهم! أإلى هذا العقل المفلس الذي أضحى هو والهوى سيين في قرن، بل الذي طعنه الهوى في النوادي والمجتمعات فأسال دمه، وأقصاه عن مقعده ذات اليمين إلى مزجرة مستوبلة مستحقرة ذات الشمال، بل الذي تبلد واستخذى وسفه نفسه فحجر عليه المحتسب، وقتر عليه رزقه فهزل وبدت من هزاله كلاه، فسامه من شكوله كل مفلس؟ أإلى مثله تشاء إرادتك أن تكلني لحل معمى تلك الأحجية، وتقرير خطئي من صوابي؟! لا. لا. لا! إنك لأعدل من أن تريد بي هذا الشر المستطير، وأحكم من أن تكلفني توجيه وجهي في الاستفتاء والاستقدار والاستبصار إلى الجامدين من مفلسة العقول. •••
نامعلوم صفحہ
رب إنه لا عصمة إلا لك وحدك، وأما مثلي من بني الإنسان فقد كتبت عليه النسيان، والحوادث تنسي، والموقف كيوم الساعة، ترى الناس سكارى وما هم بسكارى. إني نسيت، لكني ذكرت الآن! ذكرت أني ظلمت نفسي بما أثمت عقلي، فأستغفرك مما رميته به من تهمة التغرير بي في هذا الرأي الذي أقام قيامة الفارغين. أشهدك أنه لم يأل جهدا من قبل في تبصيري بهذه القيامة الهوجاء، فاغفر لي ما فرطت في جنبه، فإنك أنت العفو الغفور . •••
ها إني أشعر باستجابة استغفاري، وها قد صرح المحض عن الزبد، وبان الصبح لذي عينين - كما قال بعض المتقولين - وانجاب عن البصر الغطاء، وانقشعت سحابة ذلك الشك الأليم، واطمأننت إلى أني لم أخطئ، بل إني بفضل الله جد مصيب.
فإليك عني ودعني من عبدة الأوهام، واستمع لما أقص عليك من نبأ المشكلة القائمة، مشكلة رسم الكتابة العربية التي يدور عليها الكلام، ويكثر فيها الملام، وتطيش الأحلام.
2
إني رجل من أهل العربية، نشأت في حجرها ومارستها إلى الشيخوخة، وسأمارسها ما دام في الأجل انفساح. وليست ممارسة العربية بالأمر الهين؛ فقد شقيت أنا وغيري بها شقاء مرا: (1)
لأن
كان هؤلاء الأولون يتفاهمون بها وينطقون عباراتها نطقا صحيحا بالسجية، والسجية لا كلفة فيها ولا عناء ولا استكراه؛ لأنها عادة ينطبع عليها اللسان، كسجيتك في النطق بلهجتك العامية سواء بسواء. لو كنت شاهدهم - عصر النبوة، ومن قبل عصر النبوة - لرأيت الفصحى تتدفق من أفواههم زاكية زاهرة باهرة، معتدلة القوام، سليمة من الآفات، لا يجدون في أنفسهم ضيقا بها ولا حرجا، ولا يحتاجون في تقويمها لمتون ولا لشروح وحواش وحواشي حواش، ولا يلجئون لابن من أبناء مالك أو عقيل، ولا لأشموني، ولا صبان. (2)
ولأن قواعد نحو الفصحى وصرفها بالغة في الصعوبة والتعقد والعسر والارتباك، ترغمك الآن على الرجوع إلى تلك المتون والشروح، والتعرف إلى أولئك العلماء الأجلاء. (3)
ولأنها - كما وصلت إلينا - ليست لغة واحدة يخف حملها، بل هي جملة لهجات جمعها أوائل المسلمين وكدسوا في المعاجم مفرداتها جميعا، وشواهدها جميعا، فألقوا على كواهلنا في المدارسة والاصطناع أضعافا مضاعفة من الأوقار والأوزار والأحمال الثقال، وزادونا في الدرس والتحصيل عناء وشقاء وبلاء، وبغوا علينا، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وظلمونا ظلما عظيما، وجعلوا من بالعدوة القصوى من النظارة والمراقبين يتفرجون بنا ويبتسمون لقوة صبرنا على احتمال تلك المكاره والأوزار؛ إذ يرون أنفسهم قد خفت عليهم مئونة لغاتهم، فهم يحلقون فوق رءوسنا في جو السماء ، ويروننا كالبراذين الدبرة المجرحة نجر حمل لغتنا ومن ورائنا سائق غليظ يسومنا صعود الجبل، وليس لنا من منجد ولا مغيث. (4)
ولأن خير متعلميها - من شبان وشيوخ بلا استثناء - يتعذر على الواحد منهم أن يقرأ أمامك صحيفة واحدة من أي كتاب، أو نهرا واحدا من أية جريدة؛ قراءة متتابعة متصلة الأجزاء، من غير أن يلحن لحنا فاحشا أو غير فاحش، أو على الأقل من غير أن يتوقف ويقطع أوصال العبارات. وهو في قراءته مشغول أبدا بتحديد البصر وإعمال الفكر تحسسا لمعنى ما يقرأ، قبل أن يقرأ؛ حتى يستطيع أن يقرأ. وتراه في تلك الحال كالمجذوب المتوجد، أو المكروب المتجلد، جاحظ العينين تارة، أخزرهما أو أحوصهما تارة أخرى، مضروب اللسان باللعثمة والغمغمة والفأفأة وغيرها من ضروب الارتتاج.
نامعلوم صفحہ
إن كنت من الذين يقتنعون بالدليل وينصاعون لموجبه؛ فالدليل في متناول يدك، إنك تعرفه من نفسك في قراءتك حين تتعمد النطق العربي الصحيح، وتعرفه في قراءة غيرك من خريج جامعة، أو أستاذ في جامعة، أو عضو في مجمع لغوي، وتعرفه على الأخص فيما تسمع من الخطب الارتجالية أو من الخطب المتلوة أو المذاعة، ما لم يكن صاحبها قد شكلها أو شكلوها له وكررها في خلوته مرارا من قبل؛ حتى لا يلحن فيها لحنا شائنا يزري بمكانته لدى جمهور السامعين.
أما إن كنت من الذين لا ينصاعون للدليل، فأنت متعنت مدع فارغ، ونفسي على الرغم منك كبيرة، وهي أكرم علي من أن أجشمها خطاب المدعين الفارغين.
3
لكن هذه اللغة العربية على ما بها من الصعوبات الجسام، هي في جوهر حقيقتها من أقوم اللغات، بل لا أبعد إذا قلت إنها - من كثير من الوجوه - أقوم اللغات.
ولا تصدق أن المجمع اللغوي أو غير المجمع اللغوي يستطيع أن يمس شيئا ذا قيمة من مفرداتها أو من أصول قواعدها في نحوها وصرفها. ولو فرض - ما لم يقع للآن - أنه عالج شيئا من هذا - كما هو مكلف به في أمر تشكيله - فلن يكون ذلك إلا علاجا في القشر دون اللب ، وتهذيبا في الظاهر دون الباطن، وتشذيبا في الشوى دون مساس بجوهر الهيكل. ومن تراوده نفسه بالنفوذ إلى اللب فليس منا؛ لأنه يفسد ذاتية اللغة، ويحرمنا من تفهم ما تركه الأولون في المناحي الأدبية من التحف والآثار.
4
إنما لهذه اللغة الجميلة آفة خبيثة هي رسم كتابتها. إن هذا الرسم، على ما في مظهره الآن من جمال، لهو علة العلل، وأس الداء، ورأس البلاء. إنه سرطان أزمن فشوه منظر العربية وغشى جمالها، ونفر منها الولي القريب والخاطب الغريب. وإذ أقول «سرطان» فإني أعني ما أقول؛ لأنه كالسرطان حسا ومعنى. اصرف النظر عما هو معروف للجميع، وما أشرت إليه في أصل بياني من مساوئ هذا الرسم، وانظر هل تجد في رسم أية لغة من لغات أمم الحضارة أن هيكلا واحدا يحوي في تجاويفه أربع كلمات أو ثلاثا أو حتى اثنتين، كما يحوي - في الرسم العربي - هيكل «علمتنيه» أربع كلمات، وهيكل «علمته» ثلاثا، وهيكل «علمت» اثنتين؟ ألا ترى أن تلك الهياكل العربية هي أشكال سرطانية، وأن فعلها في من يريد قراءتها غير مشكولة بدقة هو فعل السرطان المخيف؟
5
لقد لاحظ المسلمون في الصدر الأول ما نلاحظه الآن من أن هذا الرسم مصيبة على العربية؛ لأنه مضلل لا يشخصها ولا يقي من تصحيفها وتغيير أصل المراد بعباراتها، فعالجوا الأمر أولا بالنقط، ولما وجدوا النقط وحده لا يغني عمدوا إلى تكملة العلاج «بالشكل»، وجعلوا الشكلات مجرد نقطات بمداد أحمر، كما جعلوا الهمزات نقطات بمداد أصفر، فكان الكاتب مضطرا إلى استعمال ثلاثة ألوان من المداد، أسود وأحمر وأصفر. ثم خرجوا من هذا التكلف المضني إلى اتخاذ الشكلات بحسب ما هي عليه اليوم، مرسومة بالمداد المرسومة به الكلمات. كما جعلوا للهمزة علامتها الخاصة ورسموها بهذا المداد. ولا زال أهل العربية إلى اليوم - بعد ألف وثلاثمائة وثلاث وستين سنة من الهجرة - يختلفون في كتابة الهمزة وفي كتابة الألف المقصورة وغيرها، ولا زال بين رسم القرآن وبين رسم غيره من المكتوبات بون غير قريب، ولا زالت مصيبة الرسم قائمة لم يحلها «الشكل» الذي أفلس بإجماع العارفين، ولا زالت هذه المصيبة مانعة من إمكان قراءة العربية قراءة صحيحة موحدة الأداء لدى جميع القارئين.
6
نامعلوم صفحہ
ولقد اهتم المجمع اللغوي من زيادة عن خمس سنوات بأمر هذا الرسم القاصر المضلل، كما اهتمت به الحكومة، واشتغلت ببحث مشكلته لجنة عمادها حضرة الأستاذ الكبير والمربي القدير علي الجارم بك، وقد انتهى حضرته أول مرة بأن قدم للجنة الأصول بالمجمع (بجلسة 24 أبريل سنة 1941) مشروعه الخاص بتيسير الكتابة، مصحوبا بتقرير قال فيه عن مساوئ الرسم الحالي ما يأتي حرفيا بغباره:
وبقي علينا أن ننقذ قراء العربية من اللحن الشائن والخطأ المعيب، وأن نجعل لغتنا الشريفة في صف مع جميع اللغات الحية التي لا تحتاج في قراءتها صحيحة إلا أن تترجم الأصوات عن رسوم الحروف.
وفي الحق، إن القراءة أصبحت عندنا عملا علميا دقيقا كثير التعقيد والتركيب، وصارت فنا من الفنون أو عبئا من الأعباء، وإن شئت أن تقول إنها أصبحت لغزا من الألغاز فقل. إنك لا تستطيع القراءة العربية على وجهها إلا إذا كنت لغويا صرفيا نحويا معا، فإن لم تكن كل هؤلاء جميعا عجزت عن أن تكون قارئا أو شبه قارئ.
فإن قالوا إن الشكل يسد هذه الحاجة ويذلل تلك الصعوبة. قلنا إن الشكل لا ينقذ من الخطأ، بل إنه قد يكون مدعاة للخطأ! وكيف تستطيع العين أن تدرك الحروف وما تحتها وما فوقها في آن واحد مع الضبط والدقة، ثم تنقله إلى أعصاب المخ فتنقله هذه إلى أعصاب اللسان سليما صحيحا؟ لقد جربنا في مدارسنا أن التلاميذ يخطئون في قراءة المشكول خطأهم في قراءة غير المشكول. جربنا أن الطالب المثقف لا يستطيع قراءة القرآن الكريم وهو مشكول على أدق ما يكون الشكل وأحكم ما يكون الضبط. ثم إن الشكل كثيرا ما ينقل عن مواضعه عند الطبع، فتنقل حركة المفتوح إلى المضموم، وتنقل الحركة من حرف يجب شكله إلى حرف لا يتطلب لضبطه شكلا. وأخرى أن الشكل عمل شاق جدا في الطباعة يحتاج إلى دقة وإلى زمن وإلى أجر مضاعف؛ لذلك قل من الكتب المشكول، ورأى أصحاب الصحف والمجلات أن الشكل صعوبة مادية لا تذلل.
تلك شهادة خبير تعدل ألف شهادة من غيره. كان من كبار مفتشي اللغة العربية، وكان وكيل دار العلوم ومربي كثير فيها وفي غيرها من أساتذة العربية. هاكه يقول - وصاحب الدار أدرى بما فيها: إن قراءة العربية برسمها الحالي أصبحت لغزا من الألغاز، وإن قارئها إن لم يكن لغويا نحويا صرفيا في آن لعجز أن يكون قارئا أو شبه قارئ. وإن الشكل مجلبة للخطأ لا تستطيع الأعضاء الموكلة بالنطق الاهتداء به. وإن تلاميذ المدارس يخطئون في قراءة المشكول خطأهم في قراءة غير المشكول، وإن الطالب المثقف لا يستطيع قراءة القرآن وهو مشكول على أدق ما يكون. وليس بعد شهادة هذا الخبير قول لقائل، إلا من كانوا يحلون الأمر عاما ويحرمونه عاما، ومثل هؤلاء لا قيمة لهم بين الرجال.
على أن حضرة الجارم بك قد لبث من بعد يكد ويستعين بالاختصاصيين في فني الخط والطباعة؛ رجاء تحسين مشروعه هذا الذي قال إنه ييسر الرسم ويقي من اللحن في القراءة. ولما عدت للعمل بالمجمع بعد غيبة طويلة بسبب المرض، وجدت هذا المشروع قد أعيد عرضه في صيغته النهائية على لجنة الأصول التي أنا من أعضائها، وكان ذلك في منتصف شهر نوفمبر سنة 1943. فلم أوافق أنا ولا غيري عليه، بل نقدته نقدا قاسيا، ثم أخذت أفكر في هذه المصيبة التي حيرت الأولين والآخرين، وفي طريقة لإطلاق العربية من عقالها حرة كريمة كما ولدتها أمها وكما نشأها آباؤها الأولون، أولئك الذين يلوح أن فقدانهم الدربة والمرانة أقعدهم عن اصطناع ثوب لها مقيس على قدها، فحشروها في قماط ومخنقة مما لا يتخذ إلا للرضع من الأطفال، فجنوا عليها جناية كبرى؛ إذ ضغطوا أعضاءها وكبتوها عن النمو وبلوغ ما هي ميسرة له من الكمال.
7
فكرت جديا في الأمر، وقلبته على كل وجوهه، فاتجه فكري إلى النظر في اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم العربية، فنظرت واستيقنت أن لا محيص من هذا الاتخاذ، إنقاذا للعربية من مساوئ رسمها التي نعرفها جميعا والتي أشار إليها حضرة الجارم بك بكل صراحة وجلاء في تقريره المذكور آنفا.
وفي الجلسة الثانية أو الثالثة من جلسات مؤتمر المجمع الذي افتتح في 15 يناير سنة 1944 تكلمت في هذه المسألة الأساسية التي لا يدانيها في أهميتها شيء مما يشتغل به المجمع ومؤتمره، فاقترحت لحلها ما انتهى إليه رأيي من وجوب اتخاذ تلك الحروف اللاتينية، حتى تضبط كلمات اللغة وتسهل قراءتها على الكافة - مثقفين وغير مثقفين، شيوخا أو شبانا أو أطفالا، عربا أو عجما - قراءة صحيحة موحدة الأداء في ألسن الجميع. فطلب إلي المؤتمر تقديم اقتراحي هذا بالكتابة، فكتبته وتلوته بجلستي 24 و31 من يناير المذكور، فرأى المؤتمر طبعه وتوزيعه على حضرات الأعضاء كيما يستطيعوا المناقشة فيه. وقد كان.
8
نامعلوم صفحہ
كان لا بد لي في تفصيل هذا الاقتراح من وصف حال العربية وبيان صعوباتها، ونسبتها، من حيث تلك الصعوبات إلى اللغات الأخرى، وبيان حال أهلها المتحملين بها، ونسبتهم في الرقي أو التأخر إلى غيرهم من الأمم. وكان لا بد في هذا الوصف والبيان من تقرير الواقع فعلا، وكان لا بد في تقريره تقريرا صادقا من أن أجرد نفسي تجريدا تاما من التأثر بشيء من الميول والعواطف، تلك الصوارف والمشوشات التي أشار الحكماء - معلمو الإنسانية - بوجوب التجرد منها كلما أريد تقرير الواقع في أي شأن من الشئون، أو الأخذ في تعرف حقيقة من الحقائق المقدورة معرفتها للإنسان. جردت نفسي فعلا من كل مؤثر عاطفي، وتناولت الأمر كما لو كنت أجنبيا عن العربية وأهلها لا حق لها ولا لهم عندي ولا مجاملة بيننا ولا ولاء. فخرج الوصف في الفقرات الثماني الأولى - التي ستقرؤها - وصفا بالغا في التصوير الواقعي
Trés réaliste ، لا يماري في صدقه أقل مثقف يعرف الفرق بين الوصف الواقعي الواجب في مثل هذا البحث وبين الوصف العاطفي
Idéaliste
الذي يرفضه أئمة الإنسانية؛ لأنه هذر لا غناء فيه. كما خرج ذلك الوصف من أقسى ما يكون في النعي على حال العربية وحال أهلها من خياليين وغير خياليين.
فمما أوردت فيه من الحقائق الواقعية الأربع الآتية التي يغض بعض قومنا بصرهم دون رؤيتها كما تخفي النعامة رأسها بين رجليها، حاسبة في غباوتها أنها بهذا التواري المضحك تحمي نفسها من سهام الصائدين:
أولا:
قلت: «إن المستشرقين من الأمم المختلفة ليعجبون منا، نحن الضعاف الذين يطأطئون كواهلهم أمام تمثال اللغة لحمل أوزار ألف وخمسمائة سنة مضت.»
وهذا تقرير صادق لا يحتمل المماراة؛ فإن المعروف عن اللغة العربية أنها مضى عليها - على أقل تقدير - ألف وخمسمائة سنة وهي على حالها في مفرداتها ونحوها وصرفها. وقل أن توجد لغة بقيت على حال واحدة مثل هذا الزمن الطويل؛ إذ اللغات في تطور مستمر يعرفه من ألقى البال وهو شهيد. وكلما تقادم العهد ازداد التطور وأصبح قديم اللغة عبئا ووزرا ينقض ظهر المحدثين؛ لبعد ما بينها وبين ما نشأ فيهم واعتادوه من مختلف اللهجات. ومن يقل عن الأوزار والأثقال إنها أوزار وأثقال فقوله حق لا ريب فيه، ومن يراقب إبهاظ هذه الأوزار كواهل حامليها وير صبرهم عليها وتعبدهم لصنمها صاغرين، فهو إن يعجب فعجبه طبيعي لا تصنع فيه.
ثانيا:
قلت: «إن العربية قد سرى قانون التطور في مفاصلها وحتتها في عدة بلاد بآسية وأفريقية إلى لهجات يخطئها الحصر، وإنه لم يخطر ببال أي بلد من تلك البلاد المنفصلة سياسيا أن يتخذ من لهجة أهله لغة قائمة بذاتها لها نحوها وصرفها كيما يسهل عليهم أمور الحياة.»
نامعلوم صفحہ
والواقع الذي لا شك فيه هو هو الذي قررت، مهما يهرف الفارغون الذين لا يميزون بين تقرير الواقع وبين إرادة شيء مما لهذا التقرير من المفهومات.
ثالثا:
قلت: «إن أهل العربية مستكرهون على تعرف فصحاها؛ كيما تصح كتابتهم وقراءتهم.» وهذا الاستكراه صحيح مطابق للواقع المحسوس، وهو كما قلت وأقول: «ظلم وبغي؛ لأنه تكليف للناس بما لا يطيقون.»
ومن أظرف الأشياء أن أستاذا كبيرا من أساتذة العربية، ممن يبتغون الإعلان عن أنفسهم أنهم من حماة العربية - كما أعلن موسوليني وغير موسوليني أنهم حماة الإسلام - هذا الأستاذ العظيم قابلني مصادفة فسألني: «كيف تقول إننا مستكرهون على تعرف الفصحى؟» سألني متصورا أني كبعض من يعرفهم ممن يكتمون الحق وهم يعلمون. فقلت لغبطته ببساطة تفك قطوب تزمته: «يا سيدي، إنها ليست لغة الحارة، وإنك لو لم تكن أكرهت عليها وتعلمتها بعرك أذنيك وبالنبوت لما وصلت إلى مركزك. ولو أن تلاميذك لا يتعلمونها طوعا أو كرها فإنهم لا يظفرون بالشهادات ولا يجدون لهم مرتزقا في الحياة، بل يقضونها أذلاء متعطلين.»
رابعا:
قلت: «إن اللغة العربية ليست لغة واحدة لقوم بعينهم، بل هي مجموع لهجات أهل جزيرة العرب، أودعت المعاجم لتكون كلها هي العربية، ويكون مجموعها حجة على من ينتسب للعربية. وإن هذه اللهجات قد ماج بعضها في بعض فانعجنت واختلطت، وإن أية منها لو أمكن فصلها لكانت دراستها أشق على دارسها من تعلم جملة لغات حية تيسر عليه سبيل الحياة. وإن من الظلم إلزام المصريين وغير المصريين بتعرف كل تلك اللهجات كيما تصح كتابتهم وقراءتهم.»
قلت هذا وهو الحق الواقع؛ فإن العربية - كما يدرك كل خبير بها - خضم يحتشد في عبابه جملة بحور، وراكبه لا يأمن فيه الغرق. وإذا ادعى العكس أحد من القصار المتطاولين فليتقدم للامتحان، وعنده يكرم أو يهان. وواضح أن من تلزمه ركوب هذا الخضم الطامي فقد ظلمته ظلما مبينا. •••
بهذه الصراحة الواجبة على المتصدي للبحث وللوصف الواقعي الصحيح، ممن تقتضيه مهمته نبذ الشعر والخيال، وأن يسمي الوردة وردة والشوكة المدمية المؤلمة شوكة، بهذه الصراحة وتلك القسوة التي لا محاباة فيها لعاطفة ولا مجاملة لآصرة ولا لولاء مكسوب أو موروث، نقدت العربية وبينت أن الطرق إليها متشعبة وكلها أشواك وعقبات، وأن تعلم أية لغة من اللغات الحية، بل تعلم عدة منها، أيسر وأهون من تعلم أية لهجة من تلك اللهجات العربية الأولى.
9
على أني إذ رأيت مما يلائم طبعي ويعلي نفسي أمام نفسي، ويرضي نفسي عن نفسي أن أجهر بالحق في مواطن الحق غير هياب ولا وكل، وقد صدعت به فعلا عريان مكشوفا لاشية عليه ولا قترة تغشيه دون متوسميه ؛ إذ رأيت وصدعت، فإنه لم يغب عني أن كثيرا من قومنا خياليون سطحيون لا يفرقون - عند التقدير - بين ما في الواقع وما في الخيال، بل يخلطون بينهما ويقيسون ما يسمعون وما يشهدون من الأقوال والأفعال بقياس عقليتهم هم وما في أدمغتهم هم من ألوان التوهمات والتخيلات. ولقد خفت فعلا من ضلالات هذه العقلية على الحق وعلى أربابها، خشيت أن بعضهم إذ يرون هذه الصراحة في الوصف والقسوة فيه، والتنويه بسهولة اللغات الأجنبية، بالإضافة إلى ما في العربية من الصعوبات الجسام - والصراحة واد لم يسيموا من قبل فيه حتى يألفوه - ربما تحكمت فيهم تلك العقلية المختلطة المخلطة وطوحت بهم - خطأ وجهلا - إلى مهاوي التظنن وسوء التأويل، فتوهموا في غباوتهم أني أكره العربية وأبتغي حذفها من الوجود والاستعاضة عنها بغيرها من تلك اللغات.
نامعلوم صفحہ
من أجل هذا سارعت (في الفقرة التاسعة) بالإشارة إلى ما قد يقوم من هذا التظنن الذميم، ووصفت مقترفيه بالبلادة واستنزلت عليهم غضب الله، في عبارة هي أشد ما في العربية من عبارات الزجر والقمع والاستبراء. قلت - كما ستقرؤه - بالحرف الواحد: «لعل البعض يتساءل: ما بال هذا الرجل ينحي هكذا باللائمة على العربية ويصعب من أمرها؟ ألعله يريد نبذها والاستعاضة عنها بلغة أجنبية من اللغات الحية؟» ثم أردفت هذا التساؤل بالإجابة الآتية: «حاش لله! وبعدا لهذا الظن البليد كما بعدت ثمود! وشقحا له وحجرا محجورا!»
ثم استطردت فبينت موقفي من الفصحى وموقفها مني. وأخذت من بعد في تقديم علل جنوحي إلى اتخاذ الحروف اللاتينية، وبينت طريقتي فيها، وفاضلت بينها وبين غيرها، ثم فصلت مزاياها، وأقمت أثناء البحث كل ما قدرت أن يرد من الشبه والاعتراضات ورددت عليها. ولم أحجم عن مجابهة كل بما تحسسته لديه من وجه اعتراض، وكل هذا في عبارات عربية صريحة لا مداورة فيها ولا التواء.
10
وسواء أكنت من النافرين من اتخاذ الحروف اللاتينية أم كنت من غير النافرين، فإني أنصح لك أن تقرأ بيان اقتراحي الذي طبعته لك مع هذا بنصه الحرفي،
1
وأن تجشم نفسك الصبر على القراءة في تؤدة وإمعان، مهما يكن الفارغون قد أوهموك بأنه من الضلالات. إن لك ولي فائدة في الأخذ بنصيحتي. أما فائدتك فإنك قد تكسب منه لعقلك ولخلقك الشيء الكثير، وليس لعاقل أن يأبى الاستفادة لعقله ولخلقه. والمسلم - على الخصوص - مكلف بطلب العلم ولو بالصين، وكل أهلها يوم هذا التكليف وثنيون، بل إن جامعاتنا أصبحت تدرس فيها الفلسفة، وأئمتها من جبابرة العقول المارقين، بل ليست هذه أول شردة للمسلمين؛ فإن كثيرا من رجال الصدر الأول لجئوا من قبل إلى الحكمة والفلسفة يغترفونهما من فيض عقول اليونانيين الملاعين.
وأما فائدتي فأن تتحقق أنت والمتصلون بك أن الناس إزاء هذا الاقتراح ثلاثة أفرقاء؛ فريق من الإمعات سماعون للكذب، لا يقرءون وإنما تصف ألسنتهم السوء تقليدا ورجما بالغيب. وفريق ثان يقرءون ولا يفهمون؛ لأن التفكير في موضوع اقتراحي يسمو على مستوى عقولهم، ولغة البيان أيضا فوق طاقتهم، لكن الواحد منهم إذا سئل عما قرأ حمله سوء خلقه وقلة بضاعته أن يدعي لنفسه ما ليس لها؛ فهو يزعم أنه فهم ما قرأ. ثم إذا سئل عما فهم لجأ إلى ما هو أوجز وأكثر انفهاما وقبولا عند العوام؛ إنه يقول: كل الحاصل من هذه الثرثة واللت والعجن أن صاحبها يريد أن ينبذ لغة القرآن. وإن استحيا شيئا ما قال: إنه يريد تغيير كتابة اللغة العربية، وأن يجعلها ككتابة يني وكرالمبو وكيرياكو من جرسونات قهاوي الأروام. أما الفريق الثالث فإنه يقرأ ويفهم، ولكن صدره يتطاحن فيه عاملان: عامل الإنصاف، وعامل ضرورات العيش أو إرضاء شهوة من شهوات الأمارة بالسوء. ومتى قضت ضرورات العيش أو شهوات النفس خرس عامل الإنصاف قليلا ثم عبس وبسر، ثم ولى مدبرا وتوارى. وهذا الفريق شر الثلاثة؛ لأنه يتناول العبارة فيعمد منها إلى ما ينفعه ويصد عما يضره، فهو ينتقر ويختزل ويمسخ ويشوه، ثم يبني على هذا الانتقار والاختزال والمسخ والتشويه ما شاء من شوامخ الأباطيل ويبيعها للناس. وهو في كل ذلك على بينة من إجرامه وشنيع إصراره، لا شيء يردعه من عقل أو من ضمير؛ إذ عامل الإنصاف حين ولى عنه قد مرض ومات وانقبر. ومهما يكن أهل هذا الفريق قد قرءوا «أن الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها.» بل مهما يكن الله أنذرهم بأنه إنما يملي لهم ليزدادوا إثما، فإنهم لا يأبهون لذلك التبكيت ولا لهذا النذير. ألم يقرءوا أن الله إنما «يضع الموازين القسط ليوم القيامة» لا لما قبل يوم القيامة؟ أولم يسمعوا أن الحساب لن يكون إلا في الآخرة، وأن رحمة ربك وسعت كل شيء؟ أولم يحفظوا في كتب الهجاء أن عصفورا في اليد خير من كركي في جو السماء؟ وإذن فلينتهزوا شهود العاجلة وليسعوا لها سعيها وهم مجرمون، وليرفسوا تلك الآجلة التي كلها عليهم هم وغم وبلاء مبين. وكل هذه المحادة لله وللضمير، إنما يأتونها - على ما ترى - اجترارا لغنم حقير، أو إرضاء لشهوة من خسيس الشهوات. ألست معي في أنهم شر الثلاثة؟ ألا إن ابن حواء عيبة أعاجيب!
11
ذكرت في بياني صعوبات العربية، ونعيت على سوء رسمها الحاضر، وعلى زيادة الطريقة الجارمية لهذا السوء. وتعهدت بأن أكافئ جهد استطاعتي من يصل إلى طريقة لكتابة العربية بالحروف العربية ذاتها كتابة فيها يؤدي الحرف بذاته صورته الصوتية أداء صادقا (العبارة الأخيرة من فقرة 58).
2
نامعلوم صفحہ
وبينت (في فقرة 68) أنه يحزنني اطراح الحروف العربية والاستعاضة عنها بالحروف اللاتينية، وأن ضرورة المحافظة على كيان العربية هي التي تضطرني لهذا الاقتراح البغيض.
وعباراتي في تينك الفقرتين مكتوبة بالعربية لا بالصينية ولا بالهيروغليفية، ومفهومها أن الحروف ليست بذاتها محلا للحب ولا للكره، وإنما هي تستحسن إذا وفت بالغرض منها فيحتفظ بها، وتستقبح إذا قصرت عن هذا الوفاء وعجزت كل حيلة عن علاج قصورها فتطرح وترمى في سلة المهملات.
المطلب الثاني
12
قام على رأيي كثير من الاعتراضات وصل إلى علمي منها اثنان وعشرون سأذكرها لك فيما يلي، مردفا كلا منها بردي عليه. وقد صغت هذه الاعتراضات صياغة عربية تحريت فيها دقة التعبير عن مراد بعض المعترضين الذين قصر لسانهم أو قلمهم عن الإبانة بوضوح. وإذا لاحظت في ردودي شيئا من التكرار، فعلته أولا: أن كل اعتراض كنت أدون ردي عليه بمجرد وصوله إلى علمي. وثانيا: أن هذه الاعتراضات متداخل بعضها في البعض، وقد حرصت على أن يكون كل رد مواجها لكل اعتراض، وأن يكون مستقلا برأسه، حتى يسهل على كل معرفة جوابي عليه.
الأول:
قيل إني أريد نبذ العربية ذاتها،
قال هذا من القوم كبار وصغار، وهو كما ترى اختلاق صبياني سخيف.
الثاني:
قيل إن الحروف اللاتينية لا
نامعلوم صفحہ
الحاء هاء، والصاد سينا، والضاد دالا ... إلخ.
وموردو هذا الاعتراض إما أنهم لم يقرءوا بياني ولم يعرفوا كيف لاحظت هذا الذي يعترضون به، وكيف عالجته، فهم معذورون. وما عليهم سوى أن يقرءوا البيان، فإنهم يجدون (في الفقرات من 28 إلى 39) ما يسقط اعتراضهم ويردهم من هذه الناحية مطمئنين. وإما أنهم قرءوا ولكنهم متعنتون، والمتعنت مراء شغاب لا يستأهل الخطاب.
الثالث:
يقولون إن اتخاذ الحروف
الانتفاع بآثار السلف في العلوم والفنون والآداب.
وهذا الاعتراض قد استثرته أنا نفسي في فقرة 25 من البيان، وهو اعتراض جدي وجيه، لكنه كالطبل يطن وجوفه خلاء. إن علاجه مالي بحت، وكل ما كانت ديته المال فهو من الهنات الهينات، مليون من الجنيهات أو مليونان على الأكثر أو ثلاثة ملايين مع شدة الإسراف في التقدير، تصرفها الحكومة لا دفعة واحدة في سنة واحدة، بل على التوالي في بضع سنين، فتطبع لك كل أمهات معاجم اللغة، وكل المهم من كتب الآداب منظومها ومنثورها، وكل المهم من كتب العلوم والفنون إن كان عندنا منها مهم. والإغضاء عن هذا العلاج المالي الميسور، ثم اللجوء إلى تصعيب الأمر والتخويف من عواقبه، لا يراه العاقل إلا ضربا من التعاجز والتباكي لمجرد الإيهام واستبقاء اللغة المسكينة تتكمش في ثوبها الخلق الذي كله تنكير وتبهيم وإضلال.
واجه الحقائق، ولا تصدق الخالين الذين يخيلون إليك الحبة قبة. ارجع إلى كليات العلوم والطب والصيدلة والهندسة والزراعة والحقوق، وهي عندنا معاهد العلم الصحيح الذي عليه الاعتماد في إنهاض البلاد، ثم ارجع إلى مدارس الصنائع والفنون، وإلى معاهد الفنون الجميلة من موسيقى ونقش وتصوير. ارجع إليها وسل أساتذتها المصريين، فإنهم جميعا ينبئونك أن الدراسة في كلياتهم ومعاهدهم قائمة على علم الأوروبيين وفن الأوروبيين وكتب الأوروبيين، وأن خيارهم إنما هم أولئك الذين بعثتهم الحكومة لأوروبا وأمريكا فدرسوا هناك صنوف العلوم والفنون، ثم عادوا يعلمونها المصريين. كما يقولون لك إننا - نحن العرب - إذا كنا في زمن حضارتنا عالجنا شيئا من المسائل العلمية، مما فضلنا فيه معترف به من العدو قبل الصديق، فإن ذلك إنما كان قدرا جزئيا ضئيلا لا يسمن الآن ولا يغني بالإضافة إلى ما وصل إليه الأوروبيون، وإن أي كتاب عربي علمي قديم إذا اقتناه أحدنا الآن، وقلما يقتنيه أحد؛ فإن ذلك لا يكون إلا لمجرد الموازنة بين العلم في طفولته وبينه في دور الاكتمال. هذا ما تسمعه من أولئك الأساتذة العلماء، منه تعرف أننا الآن في العلم والفن عيال على الأوروبيين لا على أسلافنا الأولين. كما تدرك أن بعضهم إذا كان يلذ جمع المشرقيات العربية من قديم الكتب وقطع الفنون، فإن سواد الأمة لا حاجة بهم إلى مثل هذه اللذاذات، بل يكفيهم أن تحفظ لهم في دور الكتب والآثار الحكومية العامة يراجعها منهم من قد تصبوا أنفسهم للاشتغال بتاريخ مسألة من مسائل العلوم والفنون. وإن وجد بينهم من يريدون أن يجهدوا في هذا السبيل كما يجهد الأجانب من المستشرقين، فليجهدوا؛ فالبيئة بيئتهم، واللغة العربية لغتهم، ودور الكتب والآثار أقرب إليهم منها إلى أولئك المستشرقين.
إذن لا تسمع لمن يفتنك بقالة الانقطاع عن آثار السلف في العلوم والفنون؛ فإن تلك الآثار أصبحت - بالقياس إلى ما عند الأوروبيين - سرابا موهما إذا جئته لم تجده شيئا، ووجدت الحقيقة المرة تصدمك وتردك خائرا إلى الصواب.
إن لم يعجبك قولي ولم ترد الرجوع إلى أساتذة الكليات ومعاهد الصنائع والفنون كيما تثق بأننا حقا في العلم والفن عيال على الأجانب، فارجع ولو إلى الصحيفة الأخيرة من ذلك التقرير الجامع الذي وضعه الهلالي باشا وزير المعارف وقدمه للبرلمان. وإن لم ترد فارجع إلى ما قالته اللجنة المالية بمجلس النواب في تقريرها الخاص بميزانية هذا العام، ترها تشير على الحكومة بمواصلة إرسال البعثات إلى أوروبا لتحصيل العلوم التي تنقصنا، وعلى الأخص لتعلم الصنائع والفنون. ولو أن الأمر كان كقالة القائلين لنصحت بإرسال البعوث إلى دور الكتب والآثار بمصر لتلقي العلم والفن فيها عن مؤلفات السلف وما تركوا من مصنوعات، ولكان ذلك أخصر الطرق وأيسرها نفقة، وأكثرها سالكين. فاسمع كلامي أو لا تسمعه، وأعف نفسك أو لا تعفها، لكن أعفني أنا من كلام غير المسئولين.
الرابع:
نامعلوم صفحہ
يقولون كيف لا تحترم رسم القرآن؟
أنا أحترم القرآن لأنه كتاب الله وأساس الدين ومفخرة العربية.
ولكني لست مأمورا ديانة باحترام رسم القرآن: (1) لأن الله لم ينزل به من سلطان، ولم يفرض علينا التعبد له برسم القرآن. و(2) لأنه إذا كان بعض الحمقى تورطوا فادعوا أن رسم كتابة اللغات جميعها - لا رسم العربية فقط ولا رسم القرآن فقط - هو توقيفي علمه الله آدم، فسوى آدم أحرف كل لغة وطبخها كالآجر، ولما هبط إلى الأرض وأتى الطوفان فبعد انحسار مائه وجد أهل كل جهة حروف لغتهم حاضرة لديهم فاستعملوها، إذا كان ذلك البعض تورط في هذا الزعم؛ فإنه - كما ترى - زعم كله بلاهة وتخريف واختلاق، ما كان لعاقل أن يعيره أدنى التفات. و(3) لأنه إذا كان بعض متهوسي الصوفية وبعض المبتدعة قد زعموا أن الحروف والأصوات قديمة، وأنها إذا رسم بها كلام الله أصبحت هي قديمة كقدم كلام الله، فإن عقلاء السنيين قاوموا هذه الفرية ونعوا على أصحابها جهلهم المطبق، وقرروا الحق من أن رسم القرآن، كرسم كل كتابة أخرى، إنما هو من اختراع الإنسان؛ أي إنه حادث لا قديم، ومهما يكتب به القرآن فلن يزال حادثا لا قديما. و(4) لأن صورة هذا الرسم كانت في عهد عثمان بن عفان وكتب مصاحفه بها إنما كانت صورة بدائية سقيمة قاصرة
1
خيف من سخافتها وقصورها أن تضلل المسلمين في قراءة القرآن، فسارع الخليفة عبد الملك بن مروان إلى كشف هذه الغمة، وتولى الحجاج بن يوسف عامله في العراق تنقيط القرآن؛ منعا لالتباس بعض حروف كلماته ببعض، وباشر له التنقيط جماعة من خيرة الحفاظ. ولما لوحظ مع الزمن أن النقط إذا كان يضبط الحروف ويمنع تبديل حرف منها بحرف يماثله في الهيكل، فإنه - كما أسلفت - لا يضبط صورة أداء الحرف من ناحية الحركات والسكون، ولا يمنع التصحيف من هذا الباب، فقد فكر المسلمون في أن كشف هذه الغمة يكون بشكل حروف كلمات القرآن، فشكلوه أولا بالنقط بمداد مخالف، ثم عدلوا إلى شكله بالطريقة الجارية الآن. ولو أن رسم القرآن الذي كتبت به صحف النبي
صلى الله عليه وسلم
والذي نقل بذاته في مصاحف عثمان بن عفان كانت له أدنى قدسية، لما جرأ ابن مروان ولا الحجاج ولا أحد ممن بعدهما - كبر أو صغر - على أن يمس هذا الرسم أدنى مساس. و(5) لأن الكتابة العربية التي اتخذها عثمان بن عفان لرسم القرآن كان جمهور المسلمين يقولون إنها مستمدة من خط الجزم الكوفي، ويظنون أن الكوفي مستمد من المسند الحميري خط أهل اليمن.
2
وما زالوا على هذا الفهم حتى جاء المستشرقون الأوروبيون في القرن التاسع عشر - أي بعد زيادة عن ألف ومائتي سنة من الهجرة - وبحثوا ونقبوا بحثا لا عاطفيا خياليا، بل علميا واقعيا، استنطقوا فيه الجوامد وهي لا تكذب؛ لأنها ليست لها لسان كلسان الإنسان تذبذبه بالإفك والبهتان، استنطقوها ثم بينوا لنا، نحن أهل العربية الساهين، أن النقوش دلتهم على أن كتابتنا أصلها نبطي. كما علمونا - بفضل بحوثهم التاريخية - أن النبط كانوا قوما أشداء من العرب العاربة، منازلهم القسم الشمالي من الجزيرة جنوبي الشام وفلسطين، وأنه كان لهم مملكة قامت من سنة 169 قبل المسيح إلى سنة 106 من بعده، ثم استولى عليها الرومان وأزالوها، وأن عاصمة ملكهم جهة الشمال «سلع» وكان اسمها عند قدماء المؤرخين من الفرنجة «بطرا
»؛ أي
نامعلوم صفحہ
«الحجر»، وهي المعروفة الآن باسم مدائن صالح على خط سكة حديد الحجاز، وأن هؤلاء النبطيين كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وهبل، وأنه للاتصال المستمر بينهم وبين أهل الحجاز نقل الحجازيون عنهم رسم كتابتهم، بل وعبادة آلهتهم. هذا هو الثابت للآن والمأخوذ به في جامعة فؤاد الأول.
3
وسواء كان رسم العربية الذي رسم به القرآن منقولا عن النبطيين من شمال الجزيرة؛ كما قال المستشرقون المتأخرون، أو عن اليمنيين من جنوبها؛ كما قال المتقدمون، فإنه في الحالتين رسم وثني بلا نزاع. بل اللغة العربية نفسها التي نزل بها القرآن لم ينشئها القرآن، بل هي كانت لسان قريش وغيرهم من قبائل العرب، وقد كانوا جميعا وثنيين، إلا عددا نزرا من أهل الكتاب. فهي لغة هؤلاء الوثنيين، وقد نزل بها القرآن، وما كان يمكن أن ينزل إلا بها؛ فإن الله تعالى يقول:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان
.
إذا كان هذا هو الحق، وكان الله يقول:
والله لا يستحيي
، ويقول:
أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع
، ثم يردف هذا بالنعي على المنصرفين عن حكم العقل فيقول:
نامعلوم صفحہ
فما لكم
، يقول هذا إيذانا لنا بأن الحق وحده هو الواجب الاحترام، وأنه وحده الذي لا يستحى من الجهر به، وبأن الباطل ممقوت وعباده مأفونون سيئو الحكم والتقدير. إذا كان هذا هو الحق فإني، احتراما للحق، واحتراما للقرآن، وعملا بوصايا القرآن، أقرر بأني لست مكلفا باحترام رسم القرآن، ولست ألغي عقلي لمجرد أن بعض الناس أو كلهم يريدون إلغاء عقولهم، ولا يميزون بين القرآن العظيم، كلام الله القديم، وبين رسمه السخيف الذي هو من وضع الوثنيين القاصرين.
افهم عني هذا. وما يهمني أن ترى رأيي أو لا تراه؛ فإن الله يقول:
إنك لا تهدي من أحببت
.
شكل 1: صورة النقش الذي عثر عليه المرحوم حسن أفندي الهواري [منقولة عن كتاب أصل الخط العربي للأستاذ خليل يحيى نامق].
وهذه قراءته مفصولا بين كل سطر وما بعده بخط:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا القبر ---
لعبد الرحمن بن جبير (أو جبر، أو جبار، أو خير) الحجازي (أو الحجري) اللهم اغفر له ---
وأدخله في رحمة منك وآتنا معه ---
نامعلوم صفحہ
استغفر له إذا قرأ(ت) هذا الكتب (الكتاب) ---
وقل آمين وكتب هذا ---
الكتب (الكتاب) في حمدى (جمادى) الأ ---
خر من سنت (سنة) إحدى و ---
ثلثين (ثلاثين).
الخامس:
يقولون كيف تريد أن ترسم القرآن؟ وكيف تخالف الدين بمخالفتك إجماع المسلمين؟ بل إن أحدهم أرسل لي صورة برقية بعث بها لجلالة الملك يطلب إليه حماية الدين من هذا الشر المبين.
أما كيف أريد أن أرسم القرآن، فإنك لا شك علمت أن أسعد يوم في حياتي هو اليوم الذي أرى فيه كتاب الله مرسوما رسما يضبط بذاته كيفية أداء كلماته بلسان العالم والجاهل والمسلم وغير المسلم والعربي والأعجمي، أداء صحيحا لا يحتمل لحنا ولا تصحيفا. علمت هذا وعلمت أن الحروف اللاتينية بما فيها من حروف الحركات وما يضاف إليها من حروفنا العربية ذات النغمات التي لا تؤديها الحروف اللاتينية هي وحدها إلى الآن - في رأيي - التي توصل إلى تحقيق هذه الأمنية. وإذ كان أول ما يهمني هو المحافظة على سلامة أداء القرآن فرأيي بالبداهة إنما هو رسم القرآن بهذه الحروف اللاتينية وما أضيف إليها من العربية، وإني أعالنك بهذا مطمئن الضمير، مراقبا الله وحده فيما أقول وما أعالن به.
يهب الهبابون صائحين قائلين إن هذا حرام؛ لمخالفته إجماع المسلمين الذين تواضعوا من عهد النبي الكريم على رسم القرآن بالحروف العربية. وأقل ما يجاب به هؤلاء الهبابون أن المسلمين في عهد عبد الملك قد خرقوا إجماع من قبلهم إلى عهد النبي؛ فوضعوا النقطات التي لم تكن في صحف النبي ولا في مصاحف عثمان بن عفان. ثم خرقوه بعد عبد الملك بن مروان؛ فوضعوا الشكل بطريقة ثم بأخرى. ولست أعترض عليهم في خرق الإجماع ثلاث مرات؛ فإنهم إنما أرادوا الإصلاح ما استطاعوا. والإجماع الفاسد لا حجة فيه على أحد من المسلمين ، وأنا أيضا أريد الإصلاح ما أستطيع، فأبدل الحروف اللاتينية من الحروف العربية وأكفي المسلمين سوء رسم العربية الذي يشكو منه الناس أجمعون، والذي قال عنه الجارم بك، ما موجزه: «إن هذا الرسم أصبح فنا من الفنون، بل لغزا من الألغاز، وإنك إن لم تكن لغويا نحويا صرفيا معا لما كنت قارئا ولا شبه قارئ، وإن الشكل لا يقي من اللحن والخطأ، وإنه جرب في المدارس أن الطالب المثقف لا يستطيع قراءة القرآن مع أنه مشكول على أدق ما يكون.»
وإذا كانت الحروف العربية وثنية منقولة مباشرة عن الوثنيين فإن اللاتينية إنما أنقلها الآن عن النصارى وهم أهل كتاب أقرب من الوثنيين إلينا نحن المسلمين. بل إن المتفق عليه أن حروف الكتابة عند جميع أمم أوروبا مأخوذة عن اليونانيين الذين أخذوا حروفهم عن الفنيقيين، وأن جميع الكتابات السامية والآرامية وفروعها التي منها العربي النبطي أصلها أيضا مأخوذة من الفنيقيين، فاتخاذ الحروف اللاتينية لرسم العربية ليس فيه إلا مجرد استرداد لعاريتنا نحن الشرقيين بعد أن هذبها العقل اليوناني وأشاعها في بلاد أوروبا.
نامعلوم صفحہ
على أن الاعتراض بمسألة «الإجماع» هو تكأة العاجزين، وهم أناس مقلدون غلف العقول، إذا صرعهم الحق لملموا أشلاءهم وهرولوا لاجئين إلى قدس الدين، بل إلى لفظ الدين، يرمون عن قوسه، ويتخذونه مجنا يتقون به ما للحق من طعنات مصميات. والدين في قداسته - كما يعرف رجاله المحترمون - لا شأن له برسم كتابة العربية، وحروف لفظ الدين (ألف، لام، دال، ياء، نون) أوهى من أن يكون لها أي أثر في هذا السبيل، لكنهم في كل حركة وسكنة هكذا يفعلون، ترهيبا للبسطاء وإيهاما وخداعا باسم الدين، والله يشهد إنهم لكاذبون.
اعلم أن الدليلين؛ أي المصدرين الأساسيين الوحيدين في الشرع الإسلامي، هما كتاب الله والصحيح من سنة نبيه الكريم لا غير. وأن هذين المصدرين لما لم يكونا شاملين بالتفصيل لكل أحكام العبادات ولكل الأحكام الأخرى التي تطبق عند طروء ما يطرأ على المسلمين من الأحداث، وما يقوم بينهم من أقضية المعاملات؛ فقد اضطر المسلمون أن يرجعوا إلى الكتاب وصحيح السنة كيما يستنبطوا منهما تفصيل الأحكام في تلك الشئون. ولما كانت الحوادث دائمة التقلب والتجدد، وكان معظم تقريرات ذينك المصدرين واردا في حوادث وأقضية بخصوصها، اضطر المسلمون أن يقيسوا الحوادث والأقضية بأشباهها ونظائرها مما تناوله الكتاب والسنة، وأن يطبقوا عليها ما قرراه من الأحكام في تلك النظائر والأشباه؛ ومن أجل هذا جعلوا القياس من المصادر المعتبرة في الشريعة. وهذا أمر تدعو إليه الضرورة وتأمر به البداهة العقلية تحقيقا لمصلحة الاجتماع. ثم نظروا فوجدوا أن أحوالا قائمة أو تقوم في الناس - وعلى الأخص فيما فتحه المسلمون من الأمصار - من عادات في آداب السلوك، وفي كيفية تناول وسائل الحياة والاستمتاع بها، ومن اصطلاحات ومواضعات وعرف في المعاملات، لم يأمر بها كتاب ولا سنة، ولم يمنع منها كتاب ولا سنة، فأوجبوا بقاء تلك الأحوال - ما هو قائم منها وما يقوم - على ما هي عليه، واعتبارها أصلا يصار إليه إذا حدث بسبب حال منها نزاع. وسموا علة هذا الاعتبار «الإجماع»، وجعلوه من أدلة التشريع الإسلامي ومصادره. وكان هذا الجعل أمرا لازما تدعو إليه أيضا ضرورات الاجتماع، لكن هذا «الإجماع» الذي عبر العلماء عن قوته بكليات من القول المحكم الوجيز؛ كقاعدة «العادة محكمة»، وقاعدة «المعروف عرفا كالمشروط شرطا»، وقاعدة «القديم على قدمه»، هذا الإجماع لا يجوز ألبتة أن يعطل مصلحة من مصالح المسلمين، بل إنه إذا كشفت ظروف الأحوال عن ضرره بالمجموع، وكان في اطراحه والاستبدال به خير للمسلمين، فإن واجب الحاكم الشرعي أن يأمر باطراحه والاستعاضة عنه من الأنظمة والأحكام بما يحقق مصلحة الاجتماع. وإلى هذا الواجب أشاروا أيضا بقواعد منها «الضروريات تبيح المحظورات»، و«درء المفاسد أولى من جلب المصالح»، و«الضرر يزال».
هذا هو مركز «الإجماع» الذي يقولون عنه عند المسلمين. وإذ كانت طريقتي في رسم العربية ورسم القرآن الكريم تزيل الضرر وتحقق مصلحة المسلمين تمام التحقيق، فأعفني من زيادة الكلام في وهانة هذا الاعتراض.
على أن العربية ستبقى بفضل الله دائما هي العربية، فإذا كان بعض رجال الدين المحترمين يجدون - كما قد يلوح لي - على أنفسهم غضاضة ما أو مشقة ما من ترك القديم، فليبق لهم رسم القرآن وصحيح الحديث على ما هو عليه الآن - كما قلت في بعض المواقف - وليكتبا لجماهير الناس بالرسم الجديد. بهذه المثابة يبقى القرآن وصحيح الحديث مقروءين قراءة صحيحة من جميع الناس، محفوظين عند جميع الناس. وإن لدينا الآن بالمعاهد الدينية كثيرا من العلماء وآلافا من الطلبة، وهؤلاء إذا بقي لهم رسم العربية كما هو، واستمروا في قراءة كتبهم برسمها الحاضر، فإنهم سيكونون أيضا في طليعة قراء العربية بالرسم الجديد؛ إذ يكفيهم معرفة حروف الهجاء الجديدة وحروف الحركات الثلاث حتى يستطيعوا القراءة بلا أدنى عناء. وإذا قدر لمشروعي النجاح، وهو ما أعتقد أن سيكون عاجلا أو آجلا، فلعل لنا فائدة في بقاء حضراتهم على استعمال الرسم الحاضر، هي أن يؤدوا لنا في المستقبل عمل المستشرقين، ويحلوا لنا رموز ما لم يطبع بالرسم الجديد من قديم الكتب والمؤلفات. بل لعل ما نحن فيه يكون فرصة ساقها الله لحضرات علمائنا الأجلاء وهو ينظر إليهم هل يهتبلونها فيشمروا عن ساعد الجد لتنقية كتب الحديث الشريف مما وضعه ودسه علينا الزنادقة والخوارج والقصاصون والسذج من الصالحين وهواة الإسرائيليات والمتزلفون لذوي السلطان؛ وذلك حتى لا يكتب بالرسم الجديد وينشر للجماهير من الأحاديث إلا ما صحته لا شك فيها ولا ارتياب؟ لعلها تكون فرصة هيأتها يد القدر، فهل هم منتهزوها ففاعلون، كيما ينالوا ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وهو ثواب ضمنه الله للعاملين المحسنين؟
السادس:
كتب بعضهم يقول:
والحديث بالحروف العربية فمن يقرؤهما في المستقبل؟ ألا تكون الكتابة العربية حينئذ بمنزلة الكتابات التي اندرست كالقبطية القديمة (هو يعني كتابة قدماء المصريين) وغيرها؟
كلا يا سيدي، ها أنت ذا ترى فيما أسلفت ما يطمئنك على بقاء القرآن والحديث مكتوبين بالرسم الحالي، فلن يندرس هذا الرسم، بل سيكون له دائما من رجال الدين وطلبة المعاهد الدينية من يقرءونه ويحافظون عليه.
على أنه لا يغيب عن سيدي أن اختراع الطباعة والفوتوغرافيا والفونوجراف كدس في عدد عظيم من دور الكتب بمشارق الأرض ومغاربها أكداسا من الكتب العربية، قديمها وحديثها، مطبوعها ومصورها، كما كدس أقراصا تشخص جرس ما للحروف العربية من النغمات. وليس تكديس ذلك في البلاد الأجنبية لهوا من أهلها ولعبا، بل إن هناك من العلماء من يعكفون على قراءتها للوقوف على ما بها، لا لاستفادة فلسفة أو علم أو فن أو أدب هم في حاجة إليه، بل للوقوف على تاريخ الفلسفة والعلوم والفنون والآداب ومراحلها التي تكون قطعتها من قبل في بلاد العربية، ثم للوقوف على كيفية النطق بالعربية الفصيحة، بل وعلى كيفية النطق بلهجاتها العامية في مختلف البيئات. فإذا كان هؤلاء العلماء المستشرقون يقرءون هذا الرسم ويحددون جرس العربية وهي غير لغتهم، كما قرءوا من قبل لغة قدماء المصريين البائدة وإن لم يصلوا لتحديد جرسها لانقراض الناطقين بها، أفتظن أننا نعدم، واللغة لغتنا، أن يقوم من بيننا الكثيرون يعملون عمل المستشرقين، حتى لو فرضنا أن المعاهد الدينية عندنا لا تحافظ على الرسم القديم؟ إنك يا سيدي جد متشائم، ولكنك تخلق لنفسك هذا التشاؤم بالصناعة لتخلق الاستشكال. أما أنا فجد متفائل. وكل يعمل على شاكلته، وربك أعلم بأينا هو الأقرب للعربية رحما، وأينا هو الأهدى إليها سبيلا. ولو كان في علم الله تعالى أن تشاؤمك حق، وأن تفاؤلي وحسن ظني بقومنا باطل، لوجب أن أواري أنا وكل قومنا انحطاطنا عن أعين الناس، وأن ندفن رءوسنا في الطين.
السابع:
نامعلوم صفحہ
يقولون إن رسم الحروف
وهذا اعتراض غريب. الحق الذي لا ريب فيه أن مشخصات كل أمة في يوم الناس هذا، اثنان لا ثالث لهما: وحدة الوطن الإقليمية والسياسية ووحدة اللغة. أما وحدة رسم الكتابة فلا يقول أحد إنها من مشخصات الأمم، لا هي ولا وحدة الزي، كلا ولا وحدة الدين. إن الفرنسيين والإنجليز والأمريكان والطليان والأسبان والبلج وغيرهم، كلهم يتخذون حروفا واحدة لرسم كتابتهم، وكلهم يتخذون زيا واحدا للباسهم من الرءوس إلى الأقدام، وكلهم نصارى على دين المسيح، ولم يقل أحد إنهم جميعا أولو قومية واحدة، أو إنهم جميعا أمة واحدة يشخصها الزي أو رسم الكتابة أو تشخصها وحدة الدين. وكذلك الإيرانيون والجاويون لا يقول أحد الآن إنهم هم والعرب أمة واحدة لمجرد أنهم يشتركون معهم في رسم الكتابة، وأنهم كسواد العرب يدينون بالإسلام. بل إن كلا من تلك الأمم إنما يشخصها استقلالها سياسيا بأرض وطنها ثم وحدة لغتها فحسب. وها أنت ذا ترى الحرب قائمة على قدم وساق بين أمم كلهم مسيحيون ومتشابهون في رسم الكتابة وفي الأزياء. فلا تسمع لكلام المهوشين الذين يوهمونك بالباطل لمصلحة مزاعمهم التي يناقضها الواقع المحسوس في كل بلاد الله.
الثامن:
من أطرف الاعتراضات
حاصله، بما يقرب من لغته ويبرز فكرته: «أما كفانا أن الساعة بعد ما كانت بالعربي عملوها بالإفرنجي، وأن الأشهر بعد ما كانت بالعربي عملوها بالإفرنجي، ولم يبق لنا إلا الكتابة بالعربي، فحتى هذه البقية الباقية تريد أن تفرنجها؟ يا شيخ فضك من التخريف.»
قد تسخر من هذا الرجل وتقول إنه عامي ساذج، أو إنه من قبيل أولاد النكتة من المصريين الذين قال أحدهم تنادرا باقتراحي: «بقى خرجنا من الفرعونية وقعنا في اللاتينية؟» وقال آخر عند ما بلغه قولي إن اقتراحي من مزاياه أن يعمم العربية: «هو لا يعممها بل يبرنطها.» لا تسخر من مرسل تلك التذكرة المفتوحة؛ فإني أراه خيرا من جميع المعترضين؛ ذلك بأن الساعات إذ اتخذت ابتداء من الزوال وساعته كانت تبتدئ من الغروب، فقد اختلط عليه حساب أذان المغرب، ثم معرفة باقي أوقات الصلاة، ومدفع الزوال لا يفيده علما بها. وإذ كان هو فراشا أو ساعيا أو كاتبا صغيرا في مصلحة يصرف له راتبه بحساب الشهر الإفرنجي، فكثيرا ما يفاجئه أهل منزله بطلعة رجب، وليلة نصف شعبان، وليلة عاشوراء، مما يقتضي نفقات يسهو المسكين عن الاحتياط لها أول الشهر يوم «القبضية»، وفي ذلك حرج عليه. وإذا تغيرت الحروف العربية كان تغيرها عليه مصيبة ثالثة؛ لأنه لا يستطيع أن يقرأ حساب الخباز والخضري والجزار. أقل ما في اعتراض الرجل أن له أسبابا يبينها ليدفع عن نفسه بلوى الحروف اللاتينية. ولكن ما ظنك بمن يعترضون لوجه الشيطان، ويخيلون إليك مع هذا أنهم باعتراضهم إنما يبتغون وجه الله والمحافظة على دين الإسلام؟
التاسع:
يقولون إن رسم الكتابة
«جاوه وسومطره وغيرهما»، فكلها تابعة للعرب في هذا الشأن، وإن المسلمين هناك، وعددهم لا يحصى، يكتبون ويقرءون القرآن والحديث بهذا الرسم العربي، فكيف تريد حرمانهم من هذه المزية وحرمان العرب من هذا الشرف الكبير؟
سبحان الله! لئن كانت لغات تلك البلاد مبتلاة بمثل ما العربية مبتلاة به في حركات كلماتها، فالأخلق بالمعترض أن يقلب سؤاله فيقول: كيف أن العرب - وهم إخوان أهل تلك البلاد في الدين - قد رزءوهم بمصيبة الرسم العربي السخيف، ووضعوا غله في عنق لغاتهم، وجعلوهم عليهم بلسان الحال من الساخطين؟
نامعلوم صفحہ