استقلت جولييت الحافلة من قلب مدينة فانكوفر إلى هورس شو باي، ثم استقلت إحدى العبارات، ومرت بعد ذلك من شبه الجزيرة بالبر الرئيسي، ثم عبارة أخرى ثم إلى اليابسة ثانية، وهكذا حتى بلغت المدينة التي يقطن بها الرجل الذي أرسل الخطاب، وهي مدينة ويل باي. ويا لها من سرعة كبيرة تلك التي ينتقل بها المرء من المدينة إلى البرية، حتى قبل بلوغ هورس شو باي! وكانت جولييت طوال فترة الفصل الدراسي تعيش وسط المروج والحدائق بكيريسديل بما فيها من جبال الشاطئ الشمالي، التي تبدو أشبه بستارة المسرح عندما تنقشع عنها الغيوم، ويصبح الطقس صافيا. لقد كانت ملاعب المدرسة محمية، وحضارية تحيط بها الأشجار والزهور اليانعة طوال العام، وتحتضنها الجدران الحجرية، وكانت أراضي البيوت المحيطة تشبه ملاعب المدرسة. وقد تمثلت تلك الوفرة والجمال في زهور: الوردية، البهشية، والغار والحلوة. ولكن قبل أن تتوغل بعيدا لتصل هورس شو باي، تقترب الغابات من الرائي، وهي غابات حقيقية وليست حدائق الغابات، وانطلاقا من هذه المنطقة وعلى امتداد البصر لا توجد سوى مناظر المياه والصخور، والأشجار الداكنة، والطحالب المعلقة. وبين الحين والآخر، تجد آثار الدخان متصاعدة من بعض المنازل الصغيرة المتهدمة والرطبة والتي تحيط بها أفنية مليئة بالحطب، وألواح الخشب، والسيارات، وبعض أجزاء من السيارات، والدراجات المستعملة أو المكسورة، وبعض اللعب، وسائر الأشياء الأخرى التي يضعها الأشخاص بالخارج عندما يفتقرون إلى وجود مرأب أو قبو بالمنزل.
ولم تكن المدن التي توقفت بها الحافلة بالمدن المنظمة على الإطلاق. وفي بعض الأماكن، شيدت بعض البيوت المتجاورة المتشابهة - التابعة لشركة ما - وعلى مقربة شديدة بعضها من بعض، غير أن معظم تلك البيوت كانت مشابهة للبيوت التي تقع في الغابات؛ حيث تجد كل منزل يحيط به فناؤه الذي تتراكم فيه أشياء متناثرة، كما لو أن هذه البيوت بني كل منها على مرأى من الآخر من قبيل المصادفة فقط . لم تكن هناك طرق ممهدة، فيما عدا الطريق السريع الذي يمتد بينها، ولا أرصفة جانبية، ولم توجد مبان ضخمة متراصة لتضم «مكاتب البريد»، أو «مكاتب البلدية»، ولم تحتو هذه المدن أيضا على أي أبنية بها متاجر مزينة ومنمقة، ولا يوجد بها أثر لتماثيل تخلد ذكرى الحروب، أو أي نافورة للشرب، أو حتى متنزه صغير تكسوه الزهور. قد ترى في ناحية ما أحد الفنادق، ولكنه عادة ما كان يشبه الحانة الصغيرة، أو تجد مدرسة حديثة أو مستشفى ... قد يتسم أي منهما بالوقار والاحترام، لكنه بسيط ومتواضع كالحظيرة.
وقد شعرت في لحظة ما - وخاصة عند العبارة الثانية - ببعض الشكوك التي قلبت لها معدتها حول الأمر برمته. «أفكر فيك دائما.» «دائما ما أفكر فيك.»
هذه هي دوما الأشياء التي يعمد بعض الناس لقولها لإراحة الآخرين، أو بدافع رغبة قوية لإحكام السيطرة على شخص ما.
ولكن لا بد وأن هناك فندقا ما، أو كبائن للسائحين على الأقل، في ويل باي. ستذهب إلى هناك. كانت قد تركت حقيبتها الضخمة في المدرسة، على أن تعود لإحضارها لاحقا؛ فهي لا تحمل سوى حقيبة ترحال صغيرة تضعها على كتفها، حتى لا تكون لافتة للنظر. ستمضي ليلة واحدة فقط. ربما تهاتفه.
وماذا تقول؟
تصادف أنها مرت من ذلك الطريق لزيارة صديقة لها؛ وهي خوانيتا صديقتها من المدرسة؛ حيث تمتلك مكانا هنا لتمضي به الصيف ... أين؟ لدى خوانيتا كوخ في الغابة؛ فهي من ذلك النوع من النساء اللواتي يتسمن بالجرأة ويفضلن الانطلاق (على خلاف خوانيتا الحقيقية التي نادرا ما تتخلى عن حذائها ذي الكعب العالي). واتضح أن الكوخ لا يبعد عن جنوب ويل باي. وحالما أنهت زيارتها إلى الكوخ وإلى خوانيتا، أخذت جولييت تفكر ... لقد كانت تفكر - بما أنها كانت هناك بالفعل - أنه ربما بمقدورها أيضا أن ... •••
الصخور، والأشجار، والمياه، والثلوج؛ كانت هذه الأشياء، التي يتغير ترتيبها ومكانها باستمرار، هي ما تزين المشهد منذ ستة أشهر مضت وهي تطل من نافذة أحد القطارات في صباح أحد الأيام ما بين أعياد الميلاد والسنة الجديدة. كانت الصخور ضخمة، ذات بروز في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى ناعمة مثل الجلمود، وقد يتباين لونها ما بين الرمادي الداكن، أو الأسود. أما الأشجار فكانت دائمة الخضرة في أغلبها؛ سواء أشجار الصنوبر، أو الراتينج، أو الأرز. وكانت أشجار الراتينج - وخاصة السوداء منها - تحتوي على ما يشبه الأشجار الصغيرة الزائدة؛ أي شجيرات صغيرة منفصلة قائمة في الجزء العلوي منها. أما الأشجار التي لم تكن دائمة الخضرة فكانت ضعيفة وعارية؛ مثل أشجار الحور، أو الطمراق، أو جار الماء. وكان لهذه الأشجار بعض الجذوع المبقعة. وقد استقرت الثلوج بكثافة فوق قمم الصخور، والتصقت على جانبي الأشجار ناحية اتجاه الرياح، أو كونت غطاء رقيقا وناعما فوق أسطح العديد من البحيرات المتجمدة سواء الصغيرة أو الكبيرة. ولا تتحرر المياه من الثلوج إلا قليلا في الجداول الضيقة المظلمة التي تنساب بسرعة شديدة.
وضعت جولييت كتابا مفتوحا على ركبتها، ولكنها لم تكن تقرأ، فلم ترفع عينيها عما مرت به من مناظر طبيعية. جلست وحيدة على مقعد مزدوج، وفي مواجهتها مقعد آخر كان شاغرا، وكان هذا هو المكان الذي يتحول فيه مقعدها لفراش في المساء. وبدا الحمال في تلك اللحظة منهمكا في إعداد عربة النوم، وإجراء بعض الترتيبات من أجل المساء. وفي بعض الأماكن من العربة كانت الأغطية الخضراء الداكنة ذات السحابات لا تزال تلامس الأرض، وكانت تنبعث رائحة من أقمشتها، التي تشبه قماش المخيمات، وقد انبعثت أيضا بعض روائح ملابس النوم ودورات المياه. وكلما فتح الباب في أي من طرفي العربة هبت لفحة من هواء الشتاء البارد. وقد ذهبت الدفعة الأخيرة من الناس إلى تناول طعام الإفطار، في حين عاد آخرون.
كان هناك آثار أقدام وسط الثلوج؛ آثار أقدام حيوانات صغيرة، وكأنها أعقاد مكونة من حبات صغيرة تتحلق ثم تغيب عن الأنظار.
نامعلوم صفحہ