وهنا آخذك لمعنى جديد وهام وفهم جميل يدل على السلام؛ ذلك أن كلمة أول بيت تدل على أنه قد لحقه بيوت وبيوت للناس وقد تبعته مواقع ومناطق للسكن والاستئناس، هذا ما تدل عليه كلمة (أول) فما هي البيوت التي تلته ؟ إن هذا يجرنا إلى أن نفهم أن المعنى أن مكة أو بالأصح بكه هي أول منطقة أرضيه صلحت للإنسان ليسكن ويستقر بعد أن كانت الأرض مغمورة بالمياه والمحيطات المتأججة الحرارة لكن مكة أو بالأصح بكه هي أول بقعة في الأرض جفت وانحسر عنها الماء المضطرب الأمواج بشكل هائج .فأصبحت هذه المنطقة آمنة من الهياج وبيتا صالحا للإنسان القادم إلى الأرض خليفة بعد أن لم يكن له ذكر قبل ذلك من الأزمان.وللتدليل على هذا المعنى جاءت كلمة بكه ولم تأت كلمة مكه ، والبك هو المص والشفط والتجفيف فهي منطقة انبك عنها الماء وجف وأصبحت صالحة للإنسان المستخلف فهي أول بيت وضع ولا بد أن تليه بيوت وتوسع وهكذا استمر البك في مواقع أخرى وتوالى الانحسار المائي حتى أصبح للإنسان بيوتا ومواقع وقطع في الأرض صالحة للحياة والسكن وفيها له مأمن ومأوى من الماء الهائج الغامر لما تبقى ، وهكذا بقيت المحيطات والبحار الصغرى تحيط بالأرض الجافة الصالحة المرتفعة عن سطح الماء لتصلح للسكن ولتستمد من البحار الرطوبة والرخاء والبخار الذي يجعل الجو ناعما سلسلا طريا ، الهواء منعشا للحياة والأحياء ، وهكذا يتضح لنا أن مكة أو بكه هي أول أرض وضعت للإنسان بإذن الرحمن، وتلتها العديد من الأوطان ، لتصلح لنمو الناس وتكاثر السكان وعليه فلا غرو ولا غرابة أن يجعل الله في بكة هذه آية للناس ، ذلك هو هذا البيت الحرام الذي يستحق أن يحج إليه الناس بشكل عام وأن يجعلوه هو المثابة لهم والقيام وأن يكون أنموذجا للأمن والسلام ، ليصبح أنموذجه معمما في كل الأوطان ، فتكون بيوتا آمنة للخاص والعام ، على مدى الأيام. ولهذا كان البيت الأول أو أول بيت موصوفا بأنه (مباركا) ، (وهدى للعالمين)، وأن يوصف بأنه (فيه آيات بينات)، ثم أن يلزم الله الناس أن يجعلوه أبدا ، متسما بسمة هامة ، وعلامة عامة ، هي : (ومن دخله كان آمنا) ولأنه هكذا فهو (مقام إبراهيم) وما هو إبراهيم؟ إنه الإنسان الذي جعله ربه العلام ، للناس الإمام ، على مدى الأجيال والأعوام ، إلى يوم القيام .ولأن هذا البيت الأول المبارك ، والهدي الأمثل، له هذا الصفات التي لا تماثل ، فإن لله على الناس واجبا به تنصل هو قوله : (ولله على الناس حج البيت) فهل كلهم مدعو لهذا الحج بلا عذر كلا بل أن فضل الله تضاعف فقال (من استطاع إليه سبيلا) فمن استطاع فقد وجب عليه الحج ، وليس له أي عذر أو حجج ، فإذا تخلف فقد استغنى ، وعن فضل الله خرج ، ولهذا قال الله ببيان أبلج (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) نعم إنه إنما يدعونا لفضله وعطائه ولنتعلم بالحج من هداه ولننال من بركاته وآياته ما يرضاه ، فإذا أبينا ذلك الفضل المبين ، فإنما حرمنا أنفسنا وكنا لها ظالمين ، وكفرنا بالله ذي القوة المتين ، واعتمدنا على المتاع التافه المهين .أما الله فهو الذي لا يزيد في ملكه العظيم كل العباد العابدين ، ولا ينقصه كفر الكافرين (فإن الله غني عن العالمين) أليس هذا هو البيان التام الذي يدلنا على أن البيت هو المنطقة الحرام وليس هو المبنى الصغير الذي لقواعده إبراهيم رفع وأقام بل أنه جزء من البيت ومركز الدائرة الهام .
ثم هل أزيدكم تأكيدا على أن البيت هو المنطقة الحرام؟!اقرءوا معي من سورة قريش قوله تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت) 3 ، ثم قوله تعالى في سورة النمل ملقنا رسوله محمدا أن يقول : (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) 91 ، إذن فالبيت الذي في سورة قريش وفي سورة النمل هو البلد كاملا ورب ذلك وهذا هو الله الذي حرمها وله كل شيء والذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، ثم لنقرأ معا سورة التين :(والتين والزيتون ?1? وطور سينين ?2? وهذا البلد الأمين ?3?) 1-3 فالبلد الأمين هو البيت الأمين ، وهو الذي من دخله كان آمنا ، ثم لنقرأ سورة البلد : (لا أقسم بهذا البلد ?1? وأنت حل بهذا البلد ?2?) 1,2 فهل كان النبي حالا في البيت الذي يتعهدون أم في البلد الحرام الذي هو البيت الحرام ، أي الذي هو المنطقة الحرام . وهو الذي يقول الله عنه في سورة القصص (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) هكذا قال أهل مكة مدعين أنهم حماة أنفسهم لكن الله يجيب (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) القصص 57 فهل الثمرات تجنى إلى البيت بمعنى المبنى المحدد والمعروف؟ كلا . ولكن إلى البلد كلها وأهلها. ثم قال الله في سورة العنكبوت :(أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) 67. فالحرم الآمن هو البيت الآمن ، وهو المنطقة الحرام كلها فمن دخلها من أي اتجاه ومن أي زاوية ومن أي مكان كان آمنا ، ولهذا كان سوق عكاظ مكانا آمنا ، فمن دخله كان آمنا ولم يتعرض لأذى .
والآن وقد عرفنا أن هذا هو أول بيت وضع للناس بالمعنى الذي شرحناه أفليس من المتوقع أن يكون - بل من اليقين أن يكون (فيه آيات بينات) ولا بد أن تتضح للناس على السنوات لاسيما للباحثين في هذه الآيات والمسلحين بعلم الجيولوجيا وعلم ما في الأرض من طبقات. ولعلي بهذا أكتفي لأختم قولي بأن من المناسب جدا أن يسمى البيت العتيق ، أو أن يوصف بأنه (البيت العتيق) كما جاء مرتين في سورة الحج (ثم محلها إلى البيت العتيق) (وليطوفوا بالبيت العتيق) فهو العتيق أي القديم الأصيل ، الأول على سواه كما وصفه الله الجليل (إن أول بيت وضع
(الكعبة)
وبعد هذا أدعوكم الآن إلى كلمة أخرى هي (الكعبة) فلقد وردت في القرآن. فهل هي تعني هذا المبنى الذي رفع قواعده إبراهيم؟ وهل هي إذا وردت تطلق عليه؟ أم لها معنى آخر تدل عليه؟؟ لعلكم ستفاجئون إذا قلت لكم أن كلمة (الكعبة) لا تعني هذا المبنى الصغير أو المبنى الذي أقامه إبراهيم بل تعني شيئا آخرا. فما هو؟ انتظر الجواب يا أخي القارئ وتأمل الكلام تأمل أولى الألباب ، وأنا لا أسألك أن تستقبل كلامي بالترحاب ، حتى تتأكد من صحة القول وسلامة الأدلة وسأوردها من القرآن الذي هو علم الله .
لقد وردت الكعبة مرتين في القرآن ، أي في آيتين فقط وفي سورة المائدة فقط ، هي أولا قوله تعالى :(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97 ، أما الثانية فهي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) المائدة 95 .
إن المفسرين يقولون أن البيت الحرام في الآية الأولى رقم (97) هي عطف بيان للكعبة ، أو هي بدل على جهة المدح لا على جهة التوضيح ، لكن هذا التأويل غير مقنع لأن البيان أو البدل لا يأتي للمدح إلا قليلا أو نادرا ، لكن الواقع هو أن الكعبة هي نفسها البيت الحرام بمعناه العام الذي فهمناه فالبيت الحرام بدل أو عطف بيان للبيان لا للمدح ، فالأسلوب هنا يريد أن يقول لنا أن الكعبة اسم للبيت الحرام الذي يعني كل المنطقة الحرام ، بما يعني أن هذا البيت الحرام موصوف بأنه الكعبة. إذن فالكلام مبني على إشعارنا بمعنى جديد وحقيقة جديدة هي أن الكعبة قد بينت بأنها البيت الحرام ، فكلمة البيت الحرام عطف بيان أو بدل ، وهذا هو الفهم الأمثل ،
وإذا اردنا الدليل فإن الآية الثانية التي وردت فيها كلمة الكعبة تقدم الدليل الذي لا ينكر بل يدعم ما نقوله بشكل واضح وأمثل فاقرءوا معي الآية 95 لتتضح لكم القضية يقول الله مخاطبا المؤمنين : (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) إن الله يوجب على من قتل الصيد وهو حرم أن يكون جزاؤه حيوانا مقوما مثل الصيد المقتول ويكون من الأنعام يحكم به ذوا عدل من الناس أولى الأفهام ، فإذا تحدد هذا الجزاء فإنه سياق ينحر في مكان النحر المحدد وبالغا إليه بلا تردد ، ولهذا يقول موضحا هذا (هديا بالغ الكعبة) هذا هو الجزاء لمن صاد وهو حرم. وهنا أسأل هل الهدي الذي ينحر يساق إلى غير منى؟؟ فلماذا قال الله (هديا بالغ الكعبة) فهل الكعبة أو المبنى الصغير بالمعنى الذي تفهمونه من التفاسير؟ هل هذه الكعبة بهذا المعنى هي محل النحر للهدي؟؟ كلا. بل محل نحر الهدي هو منى ، كما هو معروف لنا ولمن قبلنا ، أليس هذا الواقع الذي يعرفه الناس على المدى؟ فلماذا قال (هديا بالغ الكعبة)؟؟
إذن فإن (الكعبة) هي اسم آخر للبيت الحرام وهي اسم أراده الله ليدلنا على أن معاني هذا البيت متنوعة وأسمائه وسماته متعددة ، كما أن آياته غير محدودة ، فهو البيت الحرام وهو الكعبة ، بل وله أسماء أخرى وأوصاف أخرى تدل على الاهتمام ، سيتضح لكم ذلك فيما سيأتي من الكلام. أكتفي هنا بشأن (الكعبة) ، بهذا الدليل الواضح البيان لكل ذي عقل وجنان ، وممن تدبر القرآن بإمعان..
قد يسأل سائل إذا كانت كلمة (الكعبة) لا تعني المبنى الصغير الذي رفعه إبراهيم وأنها تعني كل المنطقة الحرام ، فلماذا تسمى هذه المنطقة كلها (الكعبة) ؟ إنه سؤال جيد .ولهذا تعالوا معي إلى معرفة معنى كعب في اللغة العربية ، ولن نطوف في كتب المعجمات ولكن لنقرأ ما جاء في المنجد فقط ، فمما قال في وسط المادة كعب كعوبا (الجارية نهد ثديها) كعب الأناه ثلاثة ، كعب الشيء جعله مكعبا ، الكعب جمعه كعوب كلما ارتفع من الأرض ، الشرف والمجد ، بل وقال الكعب كل مفصل للعظام : العظم الناشئ ، العظم الذي يلعب به ، العقدة من عقد الرمح ، الكعب في علم الهندسة : المجسم الذي له ستة سطوح مربعه متساوية ، كل بيت مربع الغرفة ، أكعاب نصوص النرد ، الكعبة بكارة الجارية جمعه كعاب ، يقال جاء به كعاب وكعب إذا نهد ثديها ، ويقال وجه مكعب إذا كان جافيا ناتئا ، ثم قال أخيرا "وهذا شيء هام في الموضوع" المكعب المجسم الذي له ستة سطوح مربعة متساوية وما كان على هيئته. وختم المادة بقوله : وفي الحساب (مكعب العدد) هو الحاصل من ضربه بمربعة ، فثمانية هو مكعب اثنين.هذا هو أهم ما جاء في المادة كعب وقد جاء ضمنها (الكعبة البيت الحرام بمكة) وليس المهم ما قاله عن الكعبة أو أين وضعها من المادة لكن المهم هو معنى المادة واشتقاقاتها فلو رجعنا نستقرء المعاني والمشتقات لوجدنا (البكارة) التي تعني البداية ولوجدنا العلو والرفعة ولوجدنا الاستدارة والتسديس والتربيع ولوجدنا البروز والظهور ولوجدنا الجمال والحسن ولوجدنا القوة والجلادة والفتوه والجفاف والتجمع والانضمام ثم التضاعف والتزايد الذي يعني البركة والنماء .
نامعلوم صفحہ