وبهذا يتأكد أن الخطر الداخلي أخطر على الناس وأشق؛ فلا بد له من صفات يستعاذ بها تساوي قوته ومعه تتفق، (رب الناس* ملك الناس* إله الناس) فانظروا كيف اتسمت السورة بهذه الصفات الهامة!! وكيف انسجمت مع المهمة!! إن الإنسان مكرم عند الله الكريم، وهو مخلوق له شأن عظيم، وكيف لا وقد علمنا أنه سجدت له الملائكة بأمر الله العليم، وعلمه الله من علمه ما لم يعلمه حتى الملائكة في الملإ الأعلى وفضله على كثير من خلقه تفضيلا.
فكيف لا يكون القرآن له هاديا ودليلا؛ إلى المقام الذي أعده الله له وهيأه للسمو إليه، ووعده بالوصول إليه؛ ذلك هو القرب من رب العالمين مع عباده السابقين المقربين، ومع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وما دام شأن الإنسان مع القرآن هو هذا الشأن؛ فليتبع هدى الله فيه ليكون من المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولوتبع هدى الله يرتفع به إلى المقام الأسمى، ويرتقي فلا يضل الطريق إليه ولا يشقى. فالناس والقرآن متلازمان على طريق السعادة والخلود. والناس والقرآن إذا افترقا حلت بالناس الحياة النكداء وعيش الكنود، وكانت النهاية هي الهلاك والسقوط في النار ذات الوقود.
وإذن فلا بد أن يتمسك الإنسان بهذا الحبل الجميل؛ الذي يصله بربه الجليل، ويرتقي به إلى الكمال، ويستعيذ برب الناس ملك الناس إله الناس؛ من كل معيق يعيقه عن هذا السمو والارتفاع في مقام الأمان والجمال، ولا معيق للإنسان عن هذا الطريق إلا طاعة نفسه لهواه؛ إنه الخطر الذي به يحيق، والذي لا يراه ولا له يطيق. فهو بالاستعاذة بربه الملك خليق، وهو له مجيب ومعيذ وبه شفيق.
إذا استعاذ الناس بربهم وملكهم وإلههم من شرور أنفسهم وشر وسواسهم فإنه معيذهم لا سواه، وهو المجيب لمن دعاه، وهذا هو سيبل الفوز والنجاة، وإلا فهو الهلاك والضلال في المتاه؛ فالوسواس هو الذي أخرج آدم من الجنة وأزله وأغواه. والوسواس هو الذي طوع لابن آدم قتل أخيه فأرداه. إن الوسواس قد طوع له القتل وسهل له الجريمة ودله على الوسيلة القاتلة، ولكنه أعماه عن وسيلة تدفن وتواري الجريمة الماثلة، وتغطي الفعلة الفاشلة، وتصون الجثة المتآكلة. ولا يزال هذا هو شأن الإنسان يخترع وسائل الدمار الشامل، ويتراجع أمام إنفاق درهم لإنتاج علاج نافع، أو إنقاذ إنسان جائع، فيا له من غافل هلوع ، للخير منوع، ولن يخرجه من هذا السرداب المظلم؛ إلا القرآن المنزل من ربه الأكرم، فبه فليعمل، وعليه فليرتفع إلى المقام الأجمل، وبربه فليستعذ من (الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس).
إنه يوسوس باستمرار، لكنه يخنس من الصدور بالذكر لله القهار. وإنه يتحين فترات الغفلة في الناس ليخنس إلى الصدور بالوسواس؛ فإذا ذكر الله أصابه الإبلاس. فهو خناس شرير، وهو يدمر الانشراح في الصدور ويتسلل إليها بكر وتكرير؛ ليعمي القلب البصير، ولكن التقي بذكر الله ينتصر، فإذا هو مبصر، وسواء كان هذا المتقي من الجن أو من الإنس فكلهم يتعرض للوسواس الخناس ويصاب بشره، في أعماق صدره؛ فإذا ذكر الله ربه الغفار، واعتصم بربه الملك الجبار. وإذا استعاذ بربه الإله القهار اندحر كيد الأشرار، وخنس الوسواس بانكسار وانشرح الصدر واطمأن القلب (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
فعلى من يؤمن بالقرآن من الإنس والجان؛ أن يستعيذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس؛ ليبقى على اتصال بالقرآن، وعلى طريق ربه الرحمن الذي أنزل القرآن (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان). إن الوسواس الشرير هو الذي جرأ الناس على تكذيب الرسل والاستهزاء بهم، وهو الذي صرف الناس عن هدى ربهم، وهو الذي أشعل الحروب والخصام بينهم، وهو الذي إلى الحياة التعيسة ساقهم ، وعلى نار القلق والضيق ألقى بهم، وهو الذي إلى نار الجحيم سيرديهم. إنهم لو استمروا على وسواسهم ولم يستعيذوا منه بربهم وملكهم وإلههم ولم يستجيبوا لهداه الذي أنزله إليهم في القرآن ؛ فإنهم إلى الهلاك سائرون، وإلى سوء المصير قادمون، ولن ينفعهم مال ولا بنون، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
فلنستعذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، في كل حال من شر الوسواس؛ لننال الخير والسلام وحسن المآل.المعوذتان حرز القرآن وأهل القرآن ¶ كثير من الناس لا يلتفت في صلاته ولا في حياته لقراءة سورتين هامتين من سور القرآن، فهما في التلاوة والحياة شبه مهملتان، وهذا غفول من الناس، وعزوف عن كنز من ألماس، بل أغلى مما في أيدي الناس. ¶ لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نزلت السورتان ما معناه: [لقد نزلت علي اليوم سورتان هما من خير ما نزل]، ولقد كان يقرأهما في أواخر صلاة الليل وأول صلاة النهار، وكان يقرأهما في الوتر، بل كان يقرأهما ثلاث مرات قبل نومه فيختم بها جهاد يومه، ويقرأهما عند صحوه فيبدأ بهما سعي يومه، وهذا لأنه يدرك أن السورتين هامتان. ¶ وإن اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسورتين لا يأتي من معنى عادي، ولا ينطلق من المعنى الذي قيل عنهما "أنها نزلت عليه عندما أصابه سحر اليهود" فهذا بهتان لا يليق بالرسول المرصود بحراسة ربه المعبود، فلقد قال الله (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا(26)إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا(27)ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا(28)) [سورة الجن]. ¶ وعليه فإن اهتمام الرسول بالسورتين لمعنى أهم وأعمق يتعلق بالقرآن المبين. لن أطيل عليكم المقدمات، ولن أستطرد في الخواطر، ولكني سأدخل في الموضوع بشكل مباشر. ¶ السورتان لهما أهمية رائعة عظيمة، ودلالات واسعة حكيمة، ومنافع جامعة مستديمة، لكل من قرأ القرآن وتمسك بآياته الكريمة. إنهما ختام يحمي الآيات وحاملها من كل سوء خارج قلبه، ومن كل وسواس داخل صدره. وهما يحميان حامل القرآن من عوامل الانحراف والغفول عن ربه، وتقيانه من الانسلاخ عن آيات ربه. فالقرآن نزل ليعلم الإنسان كيف يعبد الله ربه، ويدله على طريق السعادة والسلام في دنياه وأخراه، ويفتح له أبواب الرحمة من ربه الذي سواه، ولكن المؤمن قد يتعرض للشرور والفتنة من الكفار، وقد يتعرض للمكر والكيد من المنافقين الأشرار. بل وقد يتعرض المجتمع المؤمن للدسائس النفاثات في عقود العهود والعلاقات ومفاصل اللقاء والتعارف والتعاون بين الجماعات، فنتفرط العرى، وتنتقض العهود والقوى. وقد يشتغل الحسد في قلوب المحرومين من الإيمان فيطلقون الشائعات والأقاويل بالتهاون حسدا من عند أنفسهم التي يدمرها الخسران. ¶ نعم هذا ما يتعرض له المؤمن منفردا والمؤمنون مجتمعين من مكائد الكفر والجحود ومن دسائس النفث والحسود، وبالتالي فإن المؤمن قد تتراخى صلته بالقرآن، وقد يتأثر بالأذى الذي يأتيه من أهل النفاق والخسران، فينسى الآيات، ويتخلى عن البينات، ويميل إلى الإدهان مع أولي البغي والتكذيب، أو يظن أن الإدهان لهم قد يجنبه البغي المريب. وعليه فإن المؤمن يحب أن يستقيم ويستعيذ، ولا معيذ له من ذلك إلا الاستعاذة بربه الخلاق العليم ولا عاصم له إلا الاعتصام بربه العزيز الحكيم. وهذا ما تضمنه له السورتان وتعلنه بأوضح البيان أمام كل ذي لب وفهم لآيات القرآن، ولنعد إلى السورتين ليتضح لنا ولكم ما نريد أن نقول ولينفلق لنا النور المبين من مشكاة الجليل. ¶ لقد فسر المفسرون الآيات بتفاسير لا تليق بجلال الله العلي العظيم فقالوا إن (تفسير النفاثات) مثلا هي العجائز التي تنفث في عقد الخيوط المفتولة ليصاب الناس بالسحر وبالآفات المرذولة، وهذا وهم واهن، وظن للقرآن بائن، وجهل بجلال الله العليم القدير، الذي هو عليم بذات الصدور وهو اللطيف الخبير، وهو الذي أنزل القرآن ليبصر الناس بنوره وهداه . فلنتجاوز تلك التفاسير، ولنصعد إلى التفسير الذي به الله جدير، وهو الذي يليق بالعليم القدير. ¶ لقد عرفنا أن السورتين حلتا في نهاية القرآن، وهذا الترتيب الذي احتلته السورتان ليس صدفة وليس من عمل الإنسان، بل توقيفي وهو من اختيار الرحمن، إذن فالسورتان حلتا هذا المحل لأمر جلل، ولعمل عظيم أراده الله الأجل. ¶ إن الإنسان الذي يقرأ القرآن ويجعله خلقه في حياته ودليله إلى السعادة في حياته ومماته لا بد أن يجد في القرآن حياة مترفقة، وطمأنينة ونورا يقربه من ربه، ويضيء له خفايا دربه. وعليه أن يتمسك بهذه الحياة المترفقة، وبهذه الأنوار المشرقة، ولا يتخلى عنها في أي لحظة ضعف مخفقة، ولا يستطيع ذلك إلا بالاعتصام برب الحياة والنور، والاستعاذة بربه الخلاق العليم، وهنا يأتيه الدليل إلى المعيذ الحق، تحمله إليه سورة الفلق، تدله بمن يلوذ ومن هو الذي به يستعيذ. وتختار له الصفة المناسبة من صفات ربه المعيذ، فماذا اختارت له من صفات ربه؟. ¶ لنقرأ: (قل أعوذ برب الفلق) إنه الله رب الفلق، ماذا يعني الفلق؟ لو عدنا إلى القرآن لعرفنا المعنى الأصدق، فالله يقول (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنا تؤفكون(95)فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم(96) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون(97)وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون(98)) [سورة الأنعام]. ¶ وتستمر الآيات تصف الله الفالق فماذا تقول (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم(101)ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل(102) لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير(103)). ¶ إذن فرب الفلق يعني رب الحياة ورب النور، وهكذا فإنك يا أيها الحي المستنير بالقرآن الحكيم تستعيذ برب الحياة والنور، الخالق لكل شيء وهو به عليم. الحياة والنور التي نفخها فيك القرآن وبه يكتب الله في قلبك الإيمان، ويؤيدك بروح منه مدى الزمان، وكيف لا يؤيدك الله ويعيذك مما تخشاه وأنت قد استعذت بالمنبع الأصيل، والمصدر الجليل ، والخالق الحق والمبدع الجميل، الذي من استعاذ به أمن من كل أمر وبيل، واستقام على الصراط المستقيم، فقل مؤمنا قل موقنا قل مطمئنا (أعوذ برب الفلق)؛ تجد رب الفلق معك يحميك ويصون، فلا يعجزه شيء وهو آخذ بناصية كل حي، فأنت أيها المؤمن المستعيذ بقوته أنت الأجدر والأحق برعايته، فكن مطمئنا بأنه المعيذ الأقوى والنصير الأوفى، وهداه هو الهدى، فمن اهتدي به اهتدى، ومن استعاذ به نال ما تمنى، وعاش في أمان من كل أذى. ¶ وبعد فمن ما تستعيذ برب الفلق؟ وماذا تريد من رب الحياة والنور أن يحقق؟ إن السورة تبدأ بأهم أعداء القرآن، وأشد أعداء الحياة والكارهين للنور الفارين من ضياه، ولهذا فإنهم يوضعون في أول القائمة وذلك هو قوله (من شر ما خلق).. ما هو هذا الشر ومن هم أصحابه ومن هم مصدره ومن ذا الذي يتصف به من خلق الله؟ إن الله يوضحه بلا لبس ولا خفاء، فيقول: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون) [الأنفال:55]. فهم من الدواب التي لا تعقل بل هم أكثر شرا منها، بل إنها لا شر فيها ولكن الشر مجسد في هؤلاء؛ لأنهم لا يؤمنون ومن لا يؤمن فهو لا يعقل، ومن لا يعقل فهو أضل من الدواب، وهو مصدر الشر والخراب، والشر مجسد فيه بلا ارتياب؛ ولهذا يقول الله موضحا هذه الحقيقة: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون(22)ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون(23)) [سورة الأنفال]. ¶ وهكذا فإن هؤلاء هم شر ما خلق الله رب الفلق، هو الله عليم بهم فهو يعلم أن لا خير فيهم، بل الشر مجسد فيهم فهم معرضون في كل حال عن كلما يهد الله نافرون عن كل ما يحييهم، إنهم جرثومة عفنة تدمر الحياة، وتنشر الفساد والأوبئة في كل اتجاه. ولهذا فإن الله يؤكد شرهم بشكل أوسع، ويجعلهم أكثر شرا من كل ما خلق الله وبرأه فيقول: ¶ (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية) [البينة: 6]. ¶ إنهم مشار إليهم بأولئك لوضوح خطرهم وشرهم على الحياة؛ وكيف لا وهم قد كفروا بما أنزل الله من الآيات، وتعاموا عن البينات فكانوا هم أشد شرا من المخلوقات. إن كل ما برى الله وسواه في الأرض والسماوات، وما لا نعلمه من البرايا كله خير، لكن هؤلاء هم وحدهم الشر الذي لا يخفى، والخطر الذي ينشر وينفث الوباء، ويذر الحياة والأحياء، ويشوه الجمال ويطفئ الضياء، فهم أعداء الهدى، وهم خطر على من آمن واهتدى. ¶ فإذن فالاستعاذة منهم برب الفلق هو الحق، وهو الطريق الأبلق، وهو الذي بالمؤمن أليق، فقل أيها المؤمن، قل وأنت مؤمن موقن: (قل أعوذ برب الفلق* من شر ما خلق) فإن ذلك هو الطريق الحق لحماية القرآن في قلبك، ولاستقامتك على صراط ربك، فالكافرون هم الشر الذي لا يحب الخير أبدا، وهم للحياة والنور ألد الأعداء. ¶ فإذا أردت أن تستمر عاقلا مستنيرا بالقرآن، فاستعذ برب الفلق، من شر هذا النوع البشري الذي يكره الحق ويكره الفلق، ويكره النور والحياة، ويهوى الظلام والظلمات، ويرتدي لباس الموت والأموات، فهو خطر على الحياة والأحياء، وهو عدوها الذي لا يقبل الحق ولا بأهله يرضى، بل يعرض ويأبى، ويريد أن يطفئ النور المبين (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)، فاستعذ به تكن من المؤمنين الآمنين، في الدنيا ويوم الدين. ¶ نعم إن كل فرد مؤمن بهذا القرآن، وكل أمة تؤمن بهذا القرآن وتعمل به وتتخذه خلقها ودليلها الحق، يجب أن تستعيذ برب الفلق، من الكفر والكافرين؛ فإنهم كما قال الله وصدق (شر ما خلق).هم شر ما خلق في ذاتهم، وفي ذرات أجسادهم؛ لأنهم بلا عقول وإذا تجرد الإنسان من عقله فلا يمكن أن تستفيد منه الحياة بل تتضرر، إنهم جرثومة مدمرة، وجمرة مستعرة، في جسد الحياة المزهرة، فلا معيذ منهم إلا الذي فلق الحياة والنور والحق، فالق الحب والنوى في أعماق الثرى، فالق الإصباح والضياء في آفاق الفضاء، فالق الهدى في قلوب المؤمنين الأتقياء. ¶ وكما أن أولئك الكافرين هم شر ما خلق الله في ذواتهم، فإنهم شر ما خلق الله في أعمالهم وسعيهم، فهم ضالون ويحسبون أنهم يحسنون، وهم فاسدون مفسدون، ويزعمون أنهم مصلحون، وهم جاهلون غافلون، ويظنون أنهم علماء مبدعون، وهم ضرر على الحياة ويتوهمون أنهم أصحاب الحياة، فهم مغرورون بالدنيا، مستكبرون عن الهدى؛ ولهذا فهم يتآمرون على الحياة، ويرمون الشر في ظلمات الدجى ضد من اهتدى، ويدلسون الشرور الماحقة، تحت جناح الظلمات والليالي الغاسقة؛ على حياة الناس الذين قلوبهم للنور عاشقة. ¶ ولهذا جاء بعد ذلك عنهم ما يوضح هذه الحقيقة فيقول الله: (ومن شر غاسق إذا وقب). إن الغاسق هو الذي يختبئ في الظلام ، ويختفي في الغسق ليدبر الضرر بالمؤمنين والحق، ولينصر الباطل بإصرار أحمق، وينشر الشر في كل مجال ومرفق. فاسق إنه فاسق، يترقب كل ظلام غاسق؛ ليغير فيه على كل نور مشرق، وليطفئ فيه كل ضياء متألق. إنه للحق محارب، ولهدمه واقب، ولكل صالح ناقب، ولكل سليم ثاقب، يغير على الخير ليمنعه، ويثب إلى الشر ليشيعه، وهو بالشر والباطل يسعى، ويحسب أنه يحسن صنعا، فهو في ضلال وخسران، وهو عدو للحياة والنور والإيمان، وهو مخاصم للجمال والإحسان. ¶ إن الخلق العظيم هو خلق القرآن الحكيم، والجاهل محارب لكل عقل سليم، ويكره الوئام، وينصر الخصام، ويتآمر على حياة السلام، وهذا هو عدو القرآن وأهل القرآن، وهو يفرق من الفرقان، ويهوى الظلام والطغيان، فالاستعاذة من شره واجب على كل ذي لب، فأهل الألباب هم المستهدفون لكل واقب مرتاب، فالكافر غاسق خطر، يحبذ الشر المستطر، ضد أهل التذكر والتفكر، لآيات القرآن والذكر المنير، وضد كل من تدبر آيات الله العليم القدير. ¶ فيا لهذا النوع من البشر، كم يحملون من شر وخطر، لكل من تذكر آيات الله وتدبر، فلتستعذ منهم برب الفلق، فهو بهم أبصر وأخبر، وهو عليهم أقدر، فهو الذي خلق وهو الذي صور، وهو الملجأ والمستنصر، إن الخلق العظيم هو خلق القرآن الحكيم، ومن جهل العلم والخلق السليم ؛ فإنه يعاديه ويفر من صراطه المستقيم، ولا غرو فإن من كذب بالقرآن المبين، فإن سلوكه مشين، كما يصفه رب العالمين: (ولا تطع كل حلاف مهين(10) هماز مشاء بنميم(11)مناع للخير معتد أثيم(12)عتل بعد ذلك زنيم(13)أن كان ذا مال وبنين(14)إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين(15)) [سورة القلم]. ¶ هذا هو خلق أعداء القرآن المكذبين بالحق والبيان، فالبعد عنهم والاستعاذة منهم مسلك كل المؤمنين، ولا معيذ منهم إلا رب العالمين، فهم يتآمرون في الظلام الغاسق، بشكل لازب، وكل واحد منهم على الخير واقب، وللنور مغالب، لكنه هو المغلوب بالله الغلاب، المعيذ الناصر لأولي الألباب، فبه نستعيذ من كل غاسق إذا وقب، ولو استعرضنا القرآن لوجدنا هذا النوع من الناس موجودون في كل زمان؛ فلقد تآمروا على الرسول صالح (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون(48)قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون(49)) [سورة النمل]. لكن الله كان معيذا لرسوله ولمن معه من المؤمنين من مكر الماكرين (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون(50)فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين(51)) [سورة النمل]. ¶ ولقد تآمروا على المسيح: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين(54)إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا.. ) إلى آخر الآيات من 54 إلى 56 [سورة آل عمران]. ولقد تآمروا على موسى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) [الأعراف:127]. ¶ ولقد تآمروا على محمد والمؤمنين معه: (وإذ قالت طائفة منهم ياأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) [الأحزاب:13]. (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) [المنافقون:7]. هذا بعض تآمر المنافقين على القرآن وأهل القرآن، أما اليهود فقد تآمروا بجهل مشين على الرسول ومن معه من المؤمنين وظنوا أن الله لا يعلم ما يعملون مع أنهم أهل كتاب يعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) [البقرة:77]. نعم لقد جاء قبل ذلك عن هؤلاء اليهود: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون) [البقرة:76]. ويتواصل التامر بينهم:(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) [آل عمران: 72]. كأنهم يظنون أن الله لا يعلم هذا العمل الفاسق والتآمر الغاسق، ولهذا فهم يواصلون الأقوال والله يسمع: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا) [آل عمران:181]. (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) [المائدة:64]. ¶ نعم إنهم مفسدون، ولهذا استحقوا الغضب واللعن من الله، وإن الله لا يحبهم، وكيف لا وهم يتآمرون على الحق ورسول الحق، ويكرهون الهدى ورب الهدى، فهم لا يحبون إلا الهوى؛ (يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) [المائدة:41]. ¶ هذه بعض إشارات من الآيات التي تتناول تآمر الكفر والكافرين على أهل القرآن من المؤمنين. إنها تجسد معنى العمل في الظلام الغاسق في قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب). ولو استسقينا الآيات لطال المقال، ولكن إذا كنت أيها القارئ لهذا المقال ممن تفهم القرآن وتحب أهل القرآن فارجع إلى السور التالية لتجد القضية واضحة وغير خافية؛ إنها البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات. ومع كل هذه السور فإن الجزء الثامن والعشرون من القرآن الذي يبدأ بسورة المجادلة وينتهي بالتحريم مكرس لتسجيل هذا النوع من التآمر المشين اللئيم من قبل الكافرين والمنافقين ضد حملة القرآن من المؤمنين ، وضد الرسول الأمين. وكلها تدور في الغسق المظلم، وتظن أن الفاسق إذا وقب سيطفئ النور الذي في صدور المؤمنين وبه يذهب؛ (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون). ¶ وإذا عرفنا أن الغاسق هو هذا النوع الكافر المنافق من الناس، وتأكد لنا ذلك بدون إلباس؛ فإن من الغريب أن الزمخشري يورد في كشافه رواية فقال: "وعن عائشة رضي الله عنها: [أخذ رسول الله بيدي فأشار إلى القمر فقال تعوذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب]. هكذا وردت. لا شك أن هذا من روايات المنافقين الغاسقين الواقبين، الذين جعلوا القرآن عضين، وحولوه عن قصده المبين إلى الخرافات والبهتان المبين، فسبحان الله رب العالمين؛ أنى يراد بالغاسق هذا المخلوق الجميل والآية الجليلة ؟. ¶ وكم من الروايات المظلمة التي تحول القرآن إلى حكايا مبكية؛ ولعل من المفيد أن لا نشغل أنفسنا بهذه التخرصات التي تقلق، وأن نعود إلى آيات سورة الفلق، فلقد جاء بعد ذلك قوله تعالى: (ومن شر النفاثات في العقد). لنعد إلى الزمخشري لنرى ماذا يحشر في التفسير من مفهوم بشري لا يليق بالله العلي العظيم: "قال: النفاثات: النساء أو النفوس أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين" ثم قال: "والنفث : النفخ مع ريق". إن هذا التفسير سقوط بالقرآن إلى أدنى دركات جهل الإشارة، وإساءة إلى الرحمن الذي خلق الإنسان، علمه البيان. ولو سردنا إضافة إلى ذلك من التخرصات؛ لاشتركنا معه في تحريف الآيات، ولكنا نحاول أن نفهم معنى الآية الكريمة كما يريده الله، وبما يتسق مع ما قدمناه. ¶ فالنفث هو فعلا كما قال الزمخشري: النفخ مع ريق، ولكن لا يراد به هنا النفخ الحقيقي والريق الحقيقي، ولكنه معنى ينبثق مما سبقه وينطلق من ظلمة الغاسق الواقب، ومن شر الكافرين الذين هم شر ما خلق الله رب العالمين.فالأشرار يتآمرون في الغسق ضد الأبرار، ويقبون في خفاء ومكر مشين ضد أهل القرآن المؤمنين، وإذا لم يستطيعوا التأثير بشرورهم وفسادهم وكفرهم، انتقلوا إلى التآمر الغاسق، وإلى الأسلوب الماكر المنافق، فإذا لم يتضرر المؤمنون بهذا العمل الفاسق، ولم يتفرقوا عن الهدى بهذا الوقب الغاسق انتقل الأشرار إلى النفث في مفاصل الإخاء، وفي عقد اللقاء، عسى أن ينفرط عقد الإيمان الأقوى، وأن تتراخى العروة الوثقى، وينتقض عهد الوفاء بين الله وبين هؤلاء الأتقياء. ¶ فالأشرار يلجأون إلى النفث الخفي في عقد التلاقي بين المؤمنين ليفكوا هذا العقد الوثيقة، ويدمروا هذه العهود الصادقة. إن هؤلاء الأشرار يكرهون كل جمال وخصب وأثمار، ويخافون الفلق والأنوار، ويحاربون الحياة الحرة الطاهرة، ويقلقهم نمو المجتمعات الحية الناضرة، والأمم المؤمنة المتضافرة؛ التي برضوان ربها ظافرة، فهم ضدها بالنفث في العقد الخفية والظاهرة، ليدمروا هذه البنية النامية المتآزرة.وكيف لا والحياة كلها تقوم على العقد والمفاصل، بل إن العقد هي سر الحياة والحركة والتواصل. فالأشجار لا ينبثق منها غصن إلا من عقدة متدفقة وافرة، ولا يبسم فيها زهر ولا ينجم منها ثمر إلا من عقدة مخضرة، ولا ينتشر لها ظل إلا من عقد ظاهرة ومضمرة. فإذا يبست هذه العقد وجفت هذه المفاصل فصلت منافذ العطاء والجمال، وسقطت الثمار وانكمش الظلال، وتقطع معين الاتصال، وتعطل منبع الاخضلال، فإذا الحياة قاع عاطل قاحل، ولظى لاهب وجسم ناحل متآكل، والموت عليه حوام صائل، والجو مكفهر الإصباح والأصايل، فيا لها من حياة معطلة العقد، نفخها الريح الصرصر، وبدد ونفث فيها القر بأنيابه وشدد، وهكذا كل عناصر الحياة المعطية الرخية، الأرضية والسماوية؛ لها عقد هي سر حركاتها وتفاعلها وعطائها ومحط التقائها وافتراقها في مسيرة العطاء والجمال المتدفق منها، والإنسان له عقد في جسمه وفي علاقاته مع أبناء جنسه، فلولا مفاصل الكعوب في الأقدام، وعقد الركب بين الساق والأفخاذ؛ لما استطاع أن يسير ولا يتحرك إلى خلف وإلى الأمام، ولولا عقد الخصر والقوام لما انحرف ولا التفت لعمل ولا رهام، ولولا فقرات العنق وفقرات العمود الفقري في الظهر التي تعمل بانسجام؛ لما استطاع أن يقوم ولا أن ينام، ولا أن يجلس ولا ينهض بسلاسة وسهولة على الدوام. ¶ إن العقد في جسمه وسيلة لنموه، وحركته وسعيه لما يهمه؛ ولولا ذلك لتصلبت الحركة وتيبست الحياة وأصبح كالصخرة الصماء؛ (ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) [يس:67]. فالعقد هي سر الحياة والنمو في الأجسام وهي منابع التفوق ومناجم القوة التي تيسر ما يشق. نعم لقد خلق الإنسان في كبد؛ ثم هو يظن أن لن يقدر عليه أحد، وينسى أنه معاذ بالله الأحد، فبه يستعين ويحمد، لكنه رغم ذلك ألحد، وها هو ينفث في العقد. نعم إن للمجتمعات كذلك عقدا منها تنطلق الحركة وتنشط. إن اختلاف اللغات والبلدان، والأعمال والألوان، والشعوب والقبائل والأوطان؛ يجب أن يكون وسيلة للتعاون والتعارف بين الإنسان. فالاختلاف ينفلق منه الإبداع، واستمرار الحياة وتدفق النماء ينطلق من تنوع الطباع ووفرة الغلات والثمار، وتواصل الخبرات والخيرات منبعه تعدد الشعوب والبقاع، وتعدد الألوان والأنواع .بهذه العقد المتلافية المتفارقة تكون الحياة الرغدة غدقة؛ لكن شر ما خلق الله من البشر هم الذين يحاولون تعطيل هذه النقاط والمفاصل المثمرة، وتدمير هذه العقد المخضرة المتحضرة، وتحويلها إلى نقاط متنافرة متناحرة، وإلى عقد متشاجرة، إن الأشرار الفاسقين في كل بلد ينفثون في العقد ويريدون أن يفرقوا بين الجماعات والأمم، وأن يدمروا ما بينها من أسباب اللقاء المؤمن المحترم. ¶ إنهم ينفخون في كل عقد الأمان والإيمان، ويحاولون أن ينفثوا السموم في قلوب وعقول حملة القرآن ليتفرق الناس ويتحول التعاون إلى عدوان، والتعارف إلى خصام وطعان، واللقاء السليم الودود، إلى جفاء عنود، والسلام بين الأمم، إلى حروب تشتعل وتضرم، وتدمر كل جمال، وتبكي كل عين وتطفئ كل اخضلال، فلا نجاة من النفاثات في العقد، إلا الاستعاذة بالله الصمد، ولا خلاص من النفاثات في منابع الحياة التي تتدفق، إلا بالاستعاذة برب الفلق، وهذا هو سبيل حامل القرآن، الذي يريد الخير والسلام للإنسان، ويدعو إلى الله ذي الجلال والإكرام، على بصيرة وعلى طريق نعمة الإسلام. ¶ إذن فالنفاثات في العقد هي التي تدمر بالأقوال الكاذبة، علامات القلوب المتحابة، وتفكك بالتخرصات الواهمة، عرى العلاقات المسلمة السالمة، وتنفث في نقاط اللقاء الإنساني، أحقاد الخفاء العدواني، وتبدد بالأقوال الضالة الكافرة، الحياة المؤمنة المزدهرة، وتحول حياة الأحياء البررة، إلى قبور مبعثرة، وعلاقات مدمرة. فنعوذ بالله الأحد من شر النفاثات في العقد. ولو عدنا إلى آيات القرآن لوجدنا هذا النوع من النفث الحقود موجودا في كل العهود، ومع كل نبي ورسول يدعو الناس إلى الله الودود، ليكون لهم الرب المعبود، فهو الذي بيده ملكوت كل شيء موجود، وما عنده لا ينفد وليس له حدود. ولا نستطيع أن نوردها الآن، ولكن الذين يقرأون القرآن يستطيعون معرفة ذلك بوضوح وبيان. ولهذا فإنا سننتقل بهم إلى الآية الأخيرة من السورة، وهي قوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد). ¶ نعم إن الكافرين الذين هم شر ما خلق رب الفلق، يبدأون في حرب أهل القرآن بالشر الواضح المحارب، فإذا فشلوا عدلوا إلى الفسق الواقب، وإلى التآمر في الظلام والغياهب، فإذا لم يؤثر هذا في أهل الإيمان ولم يضرهم؛ لجأ الأشرار إلى النفث في أسباب اللقاء والإخاء عسى أن يمكنهم من أغراضهم؛ فإذا رجعوا بغيظهم ولم ينالوا خيرا من نفثهم؛ انطووا على شرهم وظلامهم ونفثهم في لظى الحسد واصطلوا مع شرهم وغسقهم وحقدهم بنار حسدهم المحرق فأكلهم ومحق؛ لأن المؤمنين مستعيذون برب الفلق. فكيف للحسد المحترق المتأكل في لظى الماحق، أن يؤثر في المؤمن المستعيذ برب الفلق!! كلا إن المؤمن هو المنتصر؛ لأنه صاحب الحق، وإن الحاسد هو الخاسر لأنه لنفسه أرهق فوقب وأخفى التآمر في الغسق، ونفث حاقدا بالباطل في العقد، الصالحة فانسحق، وهلك بما أنفق وبغيظه تمزق، وبحسده احترق؛ لأن الإيمان المحسود محروس برب الفلق. ¶ إن هذا الحسد لمستمر من أهل الكفر لأهل الإيمان، ومن حملة الجهل لحملة القرآن؛ ذلك أن العاطل من الأمان والطمأنينة، الفاقد الطهر والسكينة؛ يحسد الآمن المطمئن، ويحاول أن يخرج الناس من الطهر والسكينة؛ ليكونوا معه ومثله في حقد وضغينة. ولقد أكد الله ذلك بآيات مبينة؛ فلقد خاطب المؤمنين بقوله: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [البقرة:105]. بل لقد صرح بالحسد وأوضح بقوله للمؤمنين: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) [البقرة:109]. ¶ إن أمر الله لقادم بلا تأخير؛ لأنه على كل شيء قدير، وإنه لينصر الحق؛ لأنه رب الفلق، فلتستعذ به حتى يأتي أمره الذي يدمر من كذب وفسق. بل إن الكافرين والمنافقين يحسدون المؤمنين على كل نصر وغنيمة، ويتمنون أن ينالوا ذلك بلا جهاد ولا عزيمة. فالله يقول عن هؤلاء مخاطبا المؤمنين: (فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا(72) ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما(73)) [سورة النساء]. (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا).إنهم يتهمون المؤمنين بأنهم يحسدونهم؛ لكن الواقع أن الحسد إنما هو منهم للمؤمنين؛ لأن الله يرعاهم وينصرهم في كل حين؛ ولهذا يختم الله الآية بقوله: (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) [الفتح:15]. ¶ ولأن الحسد يعمي البصائر والأبصار؛ فأهل الكتاب يشهدون زورا للكافرين الأشرار؛ (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا(51)أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا(52)أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا(53) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما(54)فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا(55)) [سورة النساء]. ¶ وهكذا فإن الحسد يشتعل في قلب كل أثيم ، عدو للحق مليم.إن القلب السقيم، يحسد القلب السليم.وإن الوجه القبيح، لا بد أن يحسد الوجه الصحيح.وإن كل قلب قلق مضطغن، يتقد غيظا على كل قلب مؤمن مطمئن. وهذا هو شأن الكافرين والمنافقين في كل زمان. إنهم حساد لأهل الحق وحملة القرآن، ولا غرو فالأضداد لا تتفق؛ فالكافرون هم من شر ما خلق الله، والمؤمنون هم من خير ما خلق الله. وأولئك هم شر البرية والمؤمنون هم خير البرية. فكيف يلتقي الضدان!! وكيف يلتقي العلم والإيمان مع الجهل والكفران!! ¶ وكيف يلتقي الهوى والشيطان مع الهدى والقرآن!!كلا إن الحسد للكافرين يحرق، ولكن المؤمنين مستعيذون برب الفلق. ¶ وبعد فلقد أدركنا من هذا التحليل أن السورة الأولى من المعوذتين تعلم أهل الإيمان وحملة القرآن أن يستعيذوا برب الفلق؛ من كل أعداء الحق، وبرب النور والحياة، من كل أعداء النور والحياة، وبرب الخلق والبركات، من كل من يريد خنق الخلق وحبس البركات، وتدمير الخير في الإنسان وقطع العلاقات، وهؤلاء هم شر ما خلق، فمنهم نستعيذ برب الفلق. ¶ إن السورة تحصي أعداء حامل القرآن؛ الذين هم خارج نفس الإنسان وحوله في كل زمان ومكان، وتدله على الاستعاذة من هؤلاء برب الفلق ومنبع الحياة ومبدع الخلق، إنه الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وهو المعيذ لكل من اتبع هداه، وهو الناصر لكل من تدبر القرآن وعمل بما تلاه. فلتستعذ برب الفلق، من شر ما خلق، وما شر ما خلق إلا الكافرون أعداء الحق، فالله يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق، وهو الله يدافع عن المؤمن الصادق. ¶ وما دامت السورة الأولى تعلمنا الاستعاذة برب الفلق من المخاطر التي تحيط بنا من خارج أنفسنا، فإن السورة الثانية وهي سورة الناس تعلمنا الاستعاذة برب الناس، من أهم خطر وأقوى مدبر لنفس الإنسان وهو الوسواس. فلاحظوا معي كيف يتأكد هذا الخطر الذي يهدد النفوس الإنسانية!! وكيف يتجسد هذا العدو الذي يدمر النبتة الإيمانية يتجسد من خلال اسم السورة!! ¶ فهي سورة (الناس)، كأن الناس هم الهدف الأول والأهم للقرآن، وكأن صدور الناس هي المنبت الأساسي والأكرم لثمار الإيمان، وكأن نفوس الناس هي المهبط الأزكى والأسمى لآيات القرآن. وهكذا فلأجل حماية الناس من نسيان القرآن؛ ولأجل صيانة الصدور من وسواس الشيطان وعصيان الرحمن؛ولأجل تزكية النفوس من طاعة الهوى ومفارقة الهدى؛ لا بد من الاستعاذة بالمعيذ الأقوى. ولأن الخطر النفسي أشد على الإنسان وأرهب؛ فلا بد من الاستعاذة بالمعيذ الأقوى والأقرب، وهو الرب، الذي يعلم ما توسوس به نفس الإنسان وهو أقرب إليه من حبل الوريد. ¶ ومع أن السورة تبدأ بهذه الصفة الهامة من صفات الله فهي لا تكتفي بهذه الصفة ، بل تضيف إليها صفتين أقوى وأسمى، وهما: "ملك الناس"، "إله الناس". إذن فالأمر خطير، أخطر من كل شر خارجي على الإنسان.إنه خطر داخلي يتغلغل في النفوس، ويعيث في الصدور. إنه خطر لا مناص منه ولا فرار؛ لأنه ملازم للإنسان في كل حال وقرار، ومعه في كل مكان ودار. إنه الوسواس الخناس، الذي يصاحب الصحو والمنام والنعاس، ويجري مع الدم في الشرايين ويتسابق مع الأنفاس. فلا خلاص منه ولا مناص، إلا بمعيذ قادر يفوق كل قوة، ويتميز على كل من سواه. بل وله من الصفات ما يقهر بها كل خطر ملموس أو غير محسوس؛ إنه الله. ولقد اختار للإنسان المؤمن أن يستعيذ في هذه الحال، بصفات ربه ذي الجلال، وأقربها إلى النفوس وأقواها أثرا في كل الأحوال. ¶ فلنقرأ كيف هي البداية في السورة؛ لتتضح الصورة؛ (قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* إله الناس). إنها صفات ثلاث متضافرة في المهمة. والمهمة هي نفوس الناس في كل زمان وفي كل أمة، ولهذا تكررت كلمة الناس ثلاث مرات مع كل صفة تعاد بصفة مستقلة، وكأن كل صفة من صفات الله الحسنى والعظمى، مركزة متفرغة لهذه المهمة الكبرى؛ التي اختيرت لها في الناس هؤلاء. أليس الهدف من إنزال القرآن هو الناس؟ إذن فليكن الرب والملك والإله معهم ومعيذهم من شرور نفوسهم. وهكذا يكون الناس هم الهدف الأسمى للقرآن المنزل للناس هدى، (ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)). فهو العليم بكل شيء، والمدبر لكل شيء في الأرض والسماء وتحت الثرى، والإنسان أين هو من هذا العلم وهذا العطاء!! ها هو يبرز بجلاء في قوله تعالى موجها الخطاب إلى الإنسان: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى(8)). ¶ فالقرآن يبدأ بإسم الله الرحمن الرحيم، وينتهي بكلمة الناس. نعم إن آخر كلمة فيه هي كلمة الناس، فكأن الناس هم الهدف والأساس. وإذن فليحتموا بالرب الملك الإله من شر الوسواس الذي يدمر كل بناء من الأساس، وهكذا فإن السورة تعلمنا أن نستعيذ من الوسواس المدمر لكل النفوس بصفات ثلاث من صفات الله القدوس. إنه خطر واحد نفسي يستعاذ له بثلاث صفات قدسية؛ بينما تعلمنا السورة السابقة أن نستعيذ من أخطار أربعة خارج النفوس بصفة واحدة من صفات الله هي "رب الفلق". ¶ وبهذا يتأكد أن الخطر الداخلي أخطر على الناس وأشق؛ فلا بد له من صفات يستعاذ بها تساوي قوته ومعه تتفق، (رب الناس* ملك الناس* إله الناس) فانظروا كيف اتسمت السورة بهذه الصفات الهامة!! وكيف انسجمت مع المهمة!! إن الإنسان مكرم عند الله الكريم، وهو مخلوق له شأن عظيم، وكيف لا وقد علمنا أنه سجدت له الملائكة بأمر الله العليم، وعلمه الله من علمه ما لم يعلمه حتى الملائكة في الملإ الأعلى وفضله على كثير من خلقه تفضيلا. ¶ فكيف لا يكون القرآن له هاديا ودليلا؛ إلى المقام الذي أعده الله له وهيأه للسمو إليه، ووعده بالوصول إليه؛ ذلك هو القرب من رب العالمين مع عباده السابقين المقربين، ومع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وما دام شأن الإنسان مع القرآن هو هذا الشأن؛ فليتبع هدى الله فيه ليكون من المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولوتبع هدى الله يرتفع به إلى المقام الأسمى، ويرتقي فلا يضل الطريق إليه ولا يشقى. فالناس والقرآن متلازمان على طريق السعادة والخلود. والناس والقرآن إذا افترقا حلت بالناس الحياة النكداء وعيش الكنود، وكانت النهاية هي الهلاك والسقوط في النار ذات الوقود. ¶ وإذن فلا بد أن يتمسك الإنسان بهذا الحبل الجميل؛ الذي يصله بربه الجليل، ويرتقي به إلى الكمال، ويستعيذ برب الناس ملك الناس إله الناس؛ من كل معيق يعيقه عن هذا السمو والارتفاع في مقام الأمان والجمال، ولا معيق للإنسان عن هذا الطريق إلا طاعة نفسه لهواه؛ إنه الخطر الذي به يحيق، والذي لا يراه ولا له يطيق. فهو بالاستعاذة بربه الملك خليق، وهو له مجيب ومعيذ وبه شفيق. ¶ إذا استعاذ الناس بربهم وملكهم وإلههم من شرور أنفسهم وشر وسواسهم فإنه معيذهم لا سواه، وهو المجيب لمن دعاه، وهذا هو سيبل الفوز والنجاة، وإلا فهو الهلاك والضلال في المتاه؛ فالوسواس هو الذي أخرج آدم من الجنة وأزله وأغواه. والوسواس هو الذي طوع لابن آدم قتل أخيه فأرداه. إن الوسواس قد طوع له القتل وسهل له الجريمة ودله على الوسيلة القاتلة، ولكنه أعماه عن وسيلة تدفن وتواري الجريمة الماثلة، وتغطي الفعلة الفاشلة، وتصون الجثة المتآكلة. ولا يزال هذا هو شأن الإنسان يخترع وسائل الدمار الشامل، ويتراجع أمام إنفاق درهم لإنتاج علاج نافع، أو إنقاذ إنسان جائع، فيا له من غافل هلوع ، للخير منوع، ولن يخرجه من هذا السرداب المظلم؛ إلا القرآن المنزل من ربه الأكرم، فبه فليعمل، وعليه فليرتفع إلى المقام الأجمل، وبربه فليستعذ من (الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس). ¶ إنه يوسوس باستمرار، لكنه يخنس من الصدور بالذكر لله القهار. وإنه يتحين فترات الغفلة في الناس ليخنس إلى الصدور بالوسواس؛ فإذا ذكر الله أصابه الإبلاس. فهو خناس شرير، وهو يدمر الانشراح في الصدور ويتسلل إليها بكر وتكرير؛ ليعمي القلب البصير، ولكن التقي بذكر الله ينتصر، فإذا هو مبصر، وسواء كان هذا المتقي من الجن أو من الإنس فكلهم يتعرض للوسواس الخناس ويصاب بشره، في أعماق صدره؛ فإذا ذكر الله ربه الغفار، واعتصم بربه الملك الجبار. وإذا استعاذ بربه الإله القهار اندحر كيد الأشرار، وخنس الوسواس بانكسار وانشرح الصدر واطمأن القلب (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). ¶ فعلى من يؤمن بالقرآن من الإنس والجان؛ أن يستعيذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس؛ ليبقى على اتصال بالقرآن، وعلى طريق ربه الرحمن الذي أنزل القرآن (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان). إن الوسواس الشرير هو الذي جرأ الناس على تكذيب الرسل والاستهزاء بهم، وهو الذي صرف الناس عن هدى ربهم، وهو الذي أشعل الحروب والخصام بينهم، وهو الذي إلى الحياة التعيسة ساقهم، وعلى نار القلق والضيق ألقى بهم، وهو الذي إلى نار الجحيم سيرديهم. إنهم لو استمروا على وسواسهم ولم يستعيذوا منه بربهم وملكهم وإلههم ولم يستجيبوا لهداه الذي أنزله إليهم في القرآن ؛ فإنهم إلى الهلاك سائرون، وإلى سوء المصير قادمون، ولن ينفعهم مال ولا بنون، يوم يقوم الناس لرب العالمين. ¶ فلنستعذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، في كل حال من شر الوسواس؛ لننال الخير والسلام وحسن المآل.
هل الشفاعة واقعة ،، أم هي أماني ضائعة؟؟
إنه سؤال هام ، بل هو استفهام يجب أن يعم الأنام ، فكم من أمم وأقوام على هذا الحلم اطمئن ونام ، لكن جواب السؤال في الختام ، يمكن أن يوقظ النوام ، ويهتك سجف الأحلام ، ويمزق دجى الظلام ، ويصحح خاطئ الأفهام ، ويفتح العيون والأبصار ، على طريق السلام ، ويسمو بنا إلى مقام ربنا العلام الذي لا يشرك في حكمه أحدا ، ولا يتوسط احد إليه أبدا ، ولا يحول بينه وبين عبيده أحد من البشر ولا يعلم احد عن عبيده منه أكثر ، بل هو العليم والأخبر ، وهو الذي يعلم السر مثلما ظهر ، إنه هو الذي يحول بين المرء وقلبه ، وهو الذي خلق الإنسان وهو أعلم به ، وكيف لا وهو يقول (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ق 16 فهل بعد هذا العلم من مزيد ، وهل هناك شيء أقرب إليك من ربك المجيد ، كلا بل هو اللطيف الخبير والقريب البصير ، وهو العليم بذات الصدور.
وعلى هذا الأساس فلنناقش الشفاعة وعلى هذا الفهم لرب العالمين ، فلنفرد آيات القرآن المبين ، ومن هذا المنطلق الثابت المقدر لله حق قدره ننطلق ثابتين على حكمه وأمره ، ونقترب من الشفاعة مبصرين ، ونناقشها مؤمنين ، ولله مستسلمين وله مقدرين معطين ، وبعلمه المحيط معترفين ، وبجهل سواه موقنين ، فلا نجعل له أندادا ، ولا نسوي به عبادا،فإن فعلنا فإننا إذا من الظالمين ، وإن سوينا به سواه كنا مشركين.
نامعلوم صفحہ