كيف لا والله يعلم كل حال؟ وفعل وسؤال، ويدري بما نخفي وما نعلن من الأعمال، وما ننطق به أو نكتمه من الأقوال، فلا يحتاج إلى من ينبهه إلى الإنزال، ولا هو محتاج ما يدعوه لإيضاح أمر أو إشكال، هو هو المحيط بكل شيء علما، والحفيظ على كل شيء والأحسن حكما، وبهذه الصفات والأسماء الحسنى، أنزل القرآن المبين، الذي هو ذكر للعالمين، فيه بيان لكل شيء، وبه يسعد كل حي. فكل سورة تحمل إلى الناس علما شاملا، وبيانا كاملا، وتجيب من كان سائلا، وتوضح السبيل لمن كان عاملا، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء. (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين)
وبعد: ألم يتقرر لديكم أيها القراء أن القرآن كان يتنزل سورا؟. بلى، فإن أردتم أن نزيد الموضوع يقينا ونورا، فلنقرأ ما ورد في سورة يونس: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [يونس:37]). فهو منزل من رب العالمين الذي لا يخفى عليه منا شيء أينما نكون، فهو المنزل القرآن المبين، وهو خير الحاكمين، فكيف يرتاب المفسدون؟ (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [يونس:38])لقد أكد هنا أن الافتراء محال، ورد على المفترين بأوضح المقال، فقال: (فأتوا بسورة مثله) لقد أكد أن الإنزال إنما هو سور كاملة ولذلك فهو يتحداهم أن يأتوا بسورة مثله كاملة البيان بلا إيهام، واضحة البداية والختام، تسرد الأحداث والأحكام، بإتقان وإحكام، بلا اختلاف ولا تقصير، ولا خفاء ولا اضطراب مثير، كلا لا يمكن أن يكون ذلك الكمال إلا من الله العليم الخبير. ولهذا فإن الله يفتتح سورة هود بهذا الافتتاح المثير المنير: (الر .. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [هود:1]). فهو كتاب منزل بإحكام، مفصل السور بالتمام واهتمام، وهو يتنزل بآيات متعددة لا بآية واحدة، وكيف لا وهو (من لدن حكيم خبير)، فهو الذي لا يقول ولا يفعل إلا الحكمة والكمال، وهو الخبير الذي يعلم ما يحتاج الخلق قبل السؤال. فكيف يحتاج إلى من ينبهه إلى ما يقال؟ كلا إن هذا هو الخبال، الذي لا يليق بذي الجلال، ولهذا كأنه يفند المكذبين ويندد بالمفترين، ويعرض أقوالهم المرتابة بأسلوب مهين، فيقول: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [هود:13]). إن المدعين على النبي أنه افترى القرآن، مدعوون للإتيان بمثله ، بعشر سور مثله في الكمال والجمال والإحكام، وبالتفصيل والتبيين الذي يزيل الإبهام، هل تستطيعون؟ ؟ كلا لا يقدرون حتى ولو دعوا كل أنصارهم من الخلق وافتروا جميعا على الحق، إنهم غير قادرين، فهم لا يستجيبون. وكيف يستجيبون وهم عاجزون؟ ولهذا فإن القرآن هو الحق الذي أنزله الله، وهو الله الحق بالحق، وهو يقول الحق، ويهدي إلى الحق، فمن ذا الذي يستطيع أن يتسجيب لأن يقول مثل قول الله الحق؟ لم يستجب أحد، ولا أحد نطق، ولهذا قال الله مخاطبا كل مؤمن في كل زمان: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [هود:14]).
وهكذا يتأكد أن القرآن نزل سورا، وأن المعهود لدى الجميع أنه يتنزل من الله سورا مرتلة، ، لا كلمات منفصلة، كلا فالله الحكيم الخبير هو الذي أنزله. والآن وقد اتضح الدليل القطعي الذي يدل دلالة مطابقة على ما أردناه فإن لنا دليلا آخرا يدل دلالة ضمنية على ما أوردناه، ذلك هو قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه) [القيامة:19].أربع آيات تدل دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرك لسانه بالقرآن عند تنزله، لعله يحفظ ما يتلى عليه، ولعله يستجمع ما يلقى عليه.إن في هذا دليلا على أن القرآن كان يتنزل سورا عليه فهو يحاول أن يلحق التلاوة بتحريك لسانه، أما لو كان يتنزل آيات معدودة أو آية واحدة لما احتاج إلى هذا العناء والمكابدة، ولما دعاه الله إلى هذا السلوك وأرشده؛ لأن المعروف أن الآيات أو الآية تحفظ بسرعة ولا تحتاج إلى متابعة ومسارعة، ولقد عهدنا العرب في زمن النبي وفي قبله يحفظون القصائد الكاملة والمقاطع والأبيات المتعددة بلا عسر، ويروونها على الناس بيسر فكيف لا يحفظ النبي وهو العربي الفصيح اللسان، المتمرس بالبيان؟ فكيف بالفتى القرشي الذي فاق على الأقران؟
إذن فالقرآن كان يتنزل سورا كاملة، ولهذا كان النبي يحرك لسانه ليمسك بالآيات المتواصلة، ويجمع الفواصل المرتلة، فنهاه ربه عن هذه المحاولة وطمأنه بأن ربه الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، سيتولى جمع القرآن في قلب رسوله المكرم وسيقرن بين آياته في قلبه حتى تستقر السورة وتطبع فيه بقدرة ربه، (إن علينا جمعه وقرآنه) عليه وحده الجمع والقرن بين الآيات التي تكون السور، فإذا انتهت تلاوة السورة، وقرنت الآية بالآية، وأصبحت كاملة وبلغت النهاية، فما على النبي إلا أن يتبع هذا القرآن الذي قرنه الله في قلبه بإتقان (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) وهكذا لا ينتهي النبي من غمرة الوحي حتى تكون السورة قد حلت في قلبه كاملة الآيات، محفوظة الجمل والكلمات، مرسومة الحروف والشكلات، واضحة الدلالات. فما عليه إلا اتباع ما أملي، وإلا تبليغ ما ملي، بشكل مبين جلي. وكيف لا والله يعطف على ذلك بثم للدلالة على علو مرتبة ما يليها من الشأن، فيقول: (ثم إن علينا بيانه). نعم إن على الله وحده البيان لمحمد ولمن استمع القرآن، فإذا هو نور يتلألأ للقلوب، وإذا هو ينير أولي الألباب. وإذن فإن الحقيقة تشع من آيات سورة القيامة بأوضح الدلالة، وتعلن أن القرآن كان ينزل سورا كاملة. ولقد تأكد هذا في سورة طه، حيث يقول الله: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) [طه: 113]. فهو عربي مبين، وهو متنوع التصريف والتلوين، ليكون هاديا للمتقين، وعلما للمتذكرين، ولا يمكن أن يكون القرآن هكذا إلا إذا تنزل بما يبين، وهذا لا يتم إلا بسور كاملة تحتوي على البيان الكامل، وتفصح عن الكلام الحافل، بكامل البيان، وشامل العرفان، أما أن يقطع إلى آيات متباعدة، أو يمزق التنزيل على آية واحدة، فهذا لا يليق بأصحاب البيان، ولا يتفق مع أساليبه المتعاهدة.
فكيف نسلم لشاعر جاهلي أنه لا يمكن أن يمزق القصيدة ولا يفرق أبياتها؛ لأن هذا أمر معيب عليه، ثم نلصق هذا العيب بالله وندعي أن القرآن تنزل ممزقا من لديه ، إن القول بأن القرآن تنزل ممزق الآيات والفواصل متباعد البيان مقطع الكلام غير متواصل، إن هذا لا يليق بالله الكامل. ولهذا فإنه يعلن تعاليه عن هذا الواهم الغافل فيقول عقب الآية السابقة: (فتعالى الله الملك الحق). نعم إنه يتعالى عن الخلق، فهو العالم الحق والملك الحق، فلا يمكن أن ينزل القرآن إلا بما هو أليق، ولا يمكن أن يمزق. ولهذا يكمل الآية فيقول: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) [طه:114].إنه تكرير للنهي الموجه الجانبي وتحديد للوحي بأنه قرآن متكامل البنيان، متتابع الفواصل، يتنزل سورا كاملة تتلى من البداية إلى النهاية بشكل متواصل.
وإذن فعلى الرسول أن يتلقى القرآن الذي يملى غير عجول وعليه الإقبال على القرآن وأن يصغي باستسلام حتى يقضى ما يتلى عليه وأن يسأل الاستزادة من علم الله الوسيع، ويستنير به وينير كل من تلقاه بقلب سميع ففيه البيان والعلم للمتقين ولن يكون في القرآن علما من علم رب العالمين، إلا إذا كان منزلا سورا تبين. فلننزه القرآن من أن يكون عضين، وليتنزه الله من أن ينزل ما لا يستبين، سبحان الله عما يصفون.
وبعد: فإذا أردتم أن نستدل على ما ذهبنا إليه بطريق آخر، فلنعد إلى نفس السور فإن نصوصها تفصح عن الدليل بنور يبهر. إنه نور يسطع، ومن سورة النور يطلع النور، فلتقرأنها من أولها لتستنير: بسم الله الرحمن الرحيم (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) أسمعتم الخبير؟ إن الله نور السماوات والأرض يعلن الخبر فيقول: (سورة أنزلناها وفرضناها)، فهل بعد هذا البيان من عالم الغيب والشهادة تقولون أن القرآن مقطع الإنزال على آية آية؟؟ كلا إن النص يعلن أن القرآن أنزل سورا فيها الآيات بنور الله متكاملة البيان، من البداية حتى النهاية.
فالسورة تبدأ ولا يتوقف تدفقها حتى تنتهي، وهكذا كان يتلقاها النبي من الرحمن فنجد أن ما يتلى عليه قط طبع في قلبه بشكل لا يقبل النسيان. ثم لنقرأ قوله تعالى بعد ذلك: (وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). وهذا هو الحق فالبيان لا يأتي في كل حال، من كلام مقطع الأوصال بلا اتصال، بل بآيات تتواصل بلا انفصال، حتى تفي بالغرض الذي يريده ذو الجلال. كما أن التذكر لا يتوفر بكلام مقطع مبتور، بل بكلام متواصل الألفاظ والمعاني يليق بالله العليم القدير.
وبعد: فلعل سورة النور قد أنارت لنا الطريق بأقوى دليل، وقطعت كل قول في أسلوب التنزيل، وكيف لا وهو من الله العظيم الجليل؟! ولهذا؛ فلأنه يصف نفسه في السورة (الله نور السماوات والأرض)؛ فهل في النور انقطاع؟؟ كلا بل هو متصل يملأ الأصقاع. ثم إن الله يصف نوره بقوله: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) [النور:35]. إن النور متكامل شامل، ولكل ذرة في الوجود واصل، وكل الخلق من منهله ناهل. وهو من القوة والوضوح، بحيث يصل الأعماق قبل السطوح، ويتخلخل في الباطن قبل الظاهر، وينير الأبصار والبصائر، ويضيء العزير قبل البصير، ويبهج العيون ويشرح الصدور، إنه باختصار كما يقول الله: (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء). ومشيئته تبع علمه، فمن علم الله أنه مؤمن متذكر، وأنه مسبح مستغفر، هداه إلى نوره، وجعله من عباده المهتدين الناعمين بخيره. ومن علم الله أنه أعمى مستكبر، مستغن عن ربه مستنفر، صرف عنه الهدى والنور وجعله في (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها). إنه منقطع عن الله نور السماوات والأرض، بعيد عن ربه مشغول بالقرض، فكيف يصله النور؟! وهو في الضلال مغمور، وكيف يجعل الله له سبيلا إلى النور؟! كلا: لقد علم الله أنه نافر كفور، فلم يجعل له نصيبا من عطاء ربه الغزير، (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)، وأنى يكون له نور وقد انفصل عن نور السماوات والأرض.
وهكذا فإن الله العليم، يهدي إلى نوره القلب السليم، ويصرفه عن الكفور الأثيم، (ويضرب الله الأمثال للناس). فلقد ضرب لنا المثل على نوره، وأعلمنا أنه يصل إلى كل شيء وإلى كل ذرة، بصورة واضحة منيرة. وهكذا جاء القرآن واضح النور، ساطع الضوء يشرح الصدور، ويبدد الديجور، وينير سبيل كل المستجيبين لله العليم القدير، وأنه بالاستجابة لجدير، والطاعة والاتباع لهداه خير كثير. إن العلم كله له، والهدى هداه، ومن اهتدى بسوى الله تاه. ولهذا يختم الآية بقوله: (والله بكل شيء عليم). ومن هذا شأنه وهذه صفته فهو الهادي إلى الصراط المستقيم، وهداه هو الهدى وعلمه هو العلم الذي به الحياة تصلح وتستقيم، ويسعد به كل قلب سليم، وكل سمع وسامع كريم.
نامعلوم صفحہ