فكأنما فكرتهم الواحدة هي قاموس المحيط، الذي ما عليك إذا استعصت عليك لفظة أردت معناها، سوى أن تفتح القاموس لتجدها فيه، أو هي كالصيدلية الكبرى التي وضعت فيها صنوف الدواء جميعا لصنوف المرض جميعا، إنهم يرون في فكرتهم الواحدة جوابا عن كل سؤال، وحلا لكل إشكال، وتفسيرا لكل ما غمض واستعجم، وإذا كان ذلك هو أمرها، فلماذا لا يقتلون من أجلها؟ ولماذا لا يضحون بالحرية من أجلها؟ ولماذا لا يسلكون مسالك العنف من أجلها؟ ولماذا لا يفرضون الطغيان من أجلها؟
إن أكبر عيب في عبادة الفكرة الواحدة، هو ما يصابون به من ضيق الخيال؛ فهم يتعلقون بالفكرة في صورتها المجردة، ولو جسدوها في أناس أحياء لأمكنهم رؤية أوجه النقص فيها؛ فلقد أراد أحد القساوسة الذين حكموا على جان دارك بالموت حرقا، أن يشاهد الزنديقة وهي تحترق، فما إن وقعت عينه على ألسنة النار تنهش جسدها، حتى ارتعش رعبا، وأدار وجهه حتى لا يرى ما يراه، فقيل له: لكنك أنت الذي حكمت عليها بهذا المصير، فتمتم قائلا: لم أتصور عندئذ أن تلك هي صورة التنفيذ (أو هكذا روى برنارد شو في مسرحيته «جان دارك»).
وكيف ندهش بعد ذلك إذا عرفنا أنه حيثما ضاقت العقول على فكرة واحدة، ساد الحكم الفردي المستبد؟ إن عبادة الفكرة الواحدة سرعان ما تتحول إلى عبادة الفرد الواحد المسيطر، ثم لا تلبث أن تتبخر في الهواء سيادة القانون؛ لأن السيادة الحقيقية إنما تكون لمن يستطيع، والذي يستطيع في ظل تسلط الفكرة الواحدة على عقول الناس، هو - عادة - الفرد الحاكم.
وما دمت قد بدأت حديثي بذكر الخوارج وعسفهم في قتل من خالفوهم الرأي من المسلمين، فلأختم الحديث بهم كذلك؛ لنرى كيف سهل عليهم الجمع بين النقائض بسبب انحرافهم إلى التطرف؛ فهؤلاء الرجال أنفسهم الذين قتلوا العابد الورع التقي عبد الله بن خباب لمخالفته إياهم في وجهة النظر عن الإمام علي، ما كادوا يفرغون من قتله وقتل زوجته الحبلى معه، وإلقاء جسديهما في الماء، حتى تلفتوا فإذا هناك نخلة يملكها نصراني، وأرادوا شراء ثمارها، فقال لهم الرجل (وكان قد شهد ما فعلوه بابن خباب) إن ثمار نخلتي لكم بغير ثمن؛ فاستنكروا منه أن يظن بهم السوء، فهم لا يأخذون شيئا من صاحبه إلا شراء، فقال لهم الرجل: «وا عجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خباب، ولا تقبلون جني نخلة إلا بثمن؟!»
إن عبيد «الفكرة الواحدة» يغلب أن يعيشوا في عالم تخلقه لهم أوهامهم، وهو عالم يعمرونه ب «القضايا الكبرى» التي تتعلق بالمصير كله للإنسانية كلها، فتمر مشكلات الحياة الجزئية اليومية تحت أنوفهم لا يرونها. إن شاغلهم ليس هنا مع الناس على هذه الأرض، بل هو هناك في طبقات الجو العليا؛ حيث يقاتلون الظلال والأشباح.
آه لو عادت بي الحياة العملية إلى أول يوم بدأتها به؛ إذن لدخلت قاعة الدرس قائلا: موضوع حديثنا اليوم - أيها الطلاب - هو عن وجوب النظر إلى الرأي المعارض، وأولى خطوات السير هي أن نحرر أعناقنا من الفكرة الواحدة حتى لا تطغى، وأن نفك القضايا الذهبية الكبرى إلى قضايا جزئية عملية صغرى، كما تفك الورقة ذات العشرين جنيها إلى جنيهات فرادى وقروش لكي يتاح لنا أن ننزل بها إلى السوق فنشتري خبزا لطعام الغداء.
موقف المتفرج
كثيرا ما تراودني أفكار عن حياتنا التي نحياها في الواقع الفعلي، ثم أتمنى لتلك الأفكار أن تكون خاطئة، برغم أني لا أجد فيها وجها للخطأ؛ ومن تلك الأفكار التي تعاود الظهور في رأسي كلما سنحت لها فرصة للعودة والظهور، فكرة تميل بي إلى الظن بأن مجموعة المثقفين ذوي القدرة الفكرية الإيجابية الخلاقة، يقفون من حياتنا ومشكلاتها الكبرى موقف المتفرج، كأنهم نظارة في مسرح يتابعون التمثيل، فإذا أعجبهم موقف صفقوا له، وإذا لم يعجبهم موقف آخر أمسكوا عن التصفيق، كأنما الأمر لا يعنيهم هم بالدرجة الأولى، لا، بل إن أمرهم أسوأ من ذلك؛ لأنهم قد يصفقون لكل موقف، سواء صادف عندهم القبول أم لم يصادفه، ولذلك يتعذر على الرائي من بعيد أن يفرق بين ما يستحسنونه حقا وما لا يستحسنونه؛ لأن استجابتهم في كلتا الحالتين سواء.
ومن هنا كان الفارق بعيدا بين ما تسمعه في أحاديثهم الخاصة تعليقا على المسائل العامة، وبين ما يعلنونه بالكتابة في الصحف أو بالإذاعة في الراديو والتليفزيون! ولكم سألت نفسي: ماذا في وسع مؤرخ المستقبل إلا أن يرجع إلى المكتوب فيما ننشره من صحف وكتب؟ وعندئذ سيتوهم ذلك المؤرخ أنه إنما وقع على الوثائق المعتمدة الأصلية، إذا أراد أن يستخلص لنفسه صورة عن حياتنا الفكرية، نعم قد يكون هذا التباين بين ما ينشر في الصحف وبين ما تدور به الألسنة في المجالس الخاصة؛ ظاهرة عامة لا يشذ فيها عصر عن عصر، ولا جماعة عن جماعة؛ فللإمام الشيخ محمد عبده مقالة عنوانها «منتدياتنا العامة وأحاديثها» ورد فيها قوله عن الصفوة الممتازة من مثقفي عصره، قوله: «... يوجد بيننا بعض الأذكياء الذين يتحدثون عن المعارف والسياسة، ولكن - فضلا عن كونهم نزرا يسيرا - فإن أعمالهم غير منطبقة على ما يقولون ...» ومن أجل هذا التباين نفسه بين عقائد الناس الحقيقية وبين ما ينشرونه عنها، ترى كثيرين من أعلام النقد يحذروننا من أن نعتمد على فكرة ساقها ناقد أثناء حياة من ينقده؛ لأنك لا تدري ماذا كان بينهما من صداقة أو من عداوة، مما يؤثر حتما في طريقة التفكير كما هو مفروض على الناس (وأذكر أن ت. س. إليوت له مقالة في هذا المعنى) أقول: إن التباين بين اعتقادات الناس الحقيقية عن الأحداث الجارية، وبين ما ينشرونه علانية، قد يكون ظاهرة عامة غير مقصورة علينا نحن في مرحلتنا الفكرية الحاضرة، لكنني أرى الزاوية بين الجانبين عندنا أشد انفراجا منها في فترات زمنية أخرى، وبين أقوام آخرين.
لماذا كان هذا؟ ذلك هو السؤال الذي يحيرني، ما دام الوطن لنا جميعا، وما دام الإخلاص الصادق رائدنا جميعا، فإذا ثبت عن أحدنا أنه إنما يدبر لنا سوءا عن عمد فلنمحقه محقا ليختفي، وأما الكثرة التي تنبض قلوبها حبا لمصر ورجاء لمستقبلها، فلماذا لا يكتبون بمثل ما يتحدثون؟ إنها هي الازدواجية الرهيبة التي نحياها، والتي تشعبت في حياتنا فروعا.
نامعلوم صفحہ