جاءت الصحفية الشابة تطلب مني تعليقا على حديث أملاه عليها صاحبنا، فوجدت الحديث - كما توقعت له أن يكون - ضبابا يحجب الرؤية، وأوهاما يطير بها المهومون في متاهات المجهول، كأننا قد فرغنا من دنيانا هذه دراسة وانتفاعا، فتركنا صخرها وترابها وماءها وهواءها إلى «من يعنيهم الأمر»، ونفذنا نحن بأرواحنا إلى أطباق السماء! فماذا كان بوسعي أن أقوله في التعليق على حديث كهذا؟ أأقول إنه يجمل بنا أولا أن نملأ الصوامع الخاوية بالقمح ليأكل الناس؟ أأقول إن مثل هذا التهويم ينبغي له أن يرجأ إلى أن نفرغ من فلاحة الأرض وتشغيل المصانع؟ إنني لو قلته - وهنا تكمن أعجب العجائب - كان أول من يشيح بوجهه عني هم أولئك أنفسهم الذين يعوزهم القمح ليأكلوا، والثياب ليكتسوا!
سر المأساة - إذن - هو في الثغرة المحفورة في حياتنا بين من يمسك العقل بزمامهم في ناحية، وبين من يهيمون في عماء اللاعقل في ناحية أخرى؛ فترى الأولين يرسمون ويخططون «كما لو كان» الذين سيتولون التنفيذ مثلهم إيمانا بعقولهم، ولقد وضعت «كما لو كان» بين أقواس؛ لألفت إليها الأنظار؛ لأنها كانت - لأهميتها - عنوانا على فلسفة بأسرها، أشاعها في الثلث الأول من هذا القرن، فيلسوف ألماني (هو هانس فاينجر)، وخلاصتها أن الإنسان يصوغ لنفسه أفكارا ويزعم لنفسه أنها أفكار تصور له الواقع كما هو واقع، فإذا هي في حقيقتها إنما تصور له ما يحب هو أن يتصوره عن ذلك الواقع لينعم بالراحة، وحتى لو جاءته الخبرة الشخصية صارخة ببطلان أفكاره تلك، فالأغلب أنه لا يعدل عنها إلى سواها، ولماذا يعدل عنها إذا كانت مريحة وسواها يؤلمه ويشقيه؟ واختصارا فإن الإنسان بمثابة من يحبك لنفسه قصة لذيذة عن العالم، يحياها «كما لو كان» العالم يجري على منوالها ... وسواء أصابت تلك الفلسفة في تحليل الإنسان أم أخطأت، فهي بغير شك تصف شيئا مما يقع في حياتنا نحن، حين نبني من الأوهام صورة نتشبث بها «كما لو كانت» هي صورة الواقع.
وإن علماء الإنسان ليتساءلون أحيانا: كيف أمكن للإنسان أن يكون له هذا العقل بذكائه الذي اخترق به حجب السماء، وأن يكون له في الوقت نفسه تلك الأوهام العجيبة التي كثيرا ما يلوذ بنعيمها فرارا من عذاب العقل وشقائه؟ كيف حدث هذا التناقض في تركيب الإنسان دون سائر الحيوان؟ إن القط والكلب والسبع والنمر والغزالة والزرافة، كلها تحيا حياة ذات بعد واحد مطرد منسجم لا تناقض فيه، وأما الإنسان فهو وحده المنكوب بالتمزق بين ذكاء العقل وعماء العاطفة، فكان فيه العلم، وكانت فيه الخرافة في آن معا.
هي مسألة تستوقف النظر وتستحق التعليل، وكان من أحدث (وأغرب) ما قرأته في تفسيرها، نظرية يطلق عليها اسم صاحبيها «بابيز» و«ماكلين» وهما من علماء البيولوجيا، وتقول النظرية ما خلاصته أن المخ البشري مؤلف من ثلاثة أجزاء، تمثل ثلاثة أدوار من التطور، فأحدها لا يزال يختزن حياة الزواحف، والثاني لا يزال يختزن حياة الثدييات الدنيا، والثالث هو ذلك الذي يؤدي لنا وظائف العقل كما نعرفها وليس بين الطبقة الدنيا التي ترسب فيها الماضي القديم، والطبقة العليا التي تؤدي الوظائف العقلية، لا تعاون ولا اتساق، وكذلك فهما كثيرا ما يتعارضان، من الأولى تنبثق كل النزوات الانفعالية اللاعقلية، ومن الثانية يأتي الفكر المنطقي، ثم اتسعت الهوة بين الجانبين، حين ظلت الأولى على حالها، وقفزت الثانية في قدراتها تلك القفزات المعجزة التي عرفناها للعلوم في تاريخ الإنسانية الحديث.
ذلك ما يقال، وقد يكون من الهدى وقد يكون من الضلال، لكن الذي لا شك عندي فيه، هو أن في حياتنا الفكرية شيئا منه؛ فقسم منا يفكر ويرسم ويخطط ويهدي، وقسم آخر يعبث بنزواته فيما رسم الأول وخطط، فكان ما كان مما نرى من خطوات تتعثر على الطريق.
ثقافة الغد
ثقافة المرء هي وجهة نظره. ومن ليس له وجهة نظر يقيس إليها مواقف الحياة فليس هو بذي ثقافة حتى ولو كان أعلم علماء عصره في فرع من فروع العلم.
ليختلف المتحدثون عن «الثقافة» ما شاء لهم الاختلاف، فلا أظنك واجدا بين المعاني الهامة التي تشغلنا هذه الأيام، معنى بلغ من السعة ومن السخاء، ما بلغه معنى «الثقافة»؛ فهو يعطي كل من شاء ما شاء، دون أن يكون هناك المعيار الواحد الوحيد، الذي يمكن أن يحتكم إليه المتحدثون، فيقضي في الأمر قضاء يميز بين الهدى والضلال.
وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا لا أملأ إنائي من هذا البحر الواسع كما يملأ الآخرون آنيتهم، فيكون لي رأي في حياتنا الثقافية بمثل ما يكون لسواي؟ على أنني أوثر أن أمد نظرتي إلى الغد، حتى إذا ما استرجعت شيئا من الماضي القريب أو البعيد، وإذا ما وجهت البصر إلى ثقافتنا في حاضرها الراهن، كان ذلك كله من أجل تصور أتصوره لحياتنا الثقافية في غدها، بحيث تجيء غنية بالجديد، لكنه الجديد الذي يصلح أن يكون خطوة على طريقنا نحن، لا على طريق أحد سوانا؛ لأنه بغير هذه الاستمرارية في السير، محال أن يكون لحياتنا الثقافية «تاريخ» تتصل حلقاته اتصالا يجعل كل حلقة منها مرحلة وسطى بين سابقة ولاحقة.
ثقافة المرء - عندي - هي وجهة نظره، ومن ليس له وجهة نظر يقيس إليها مواقف الحياة وأحداثها، فليس هو بذي ثقافة، حتى ولو كان أعلم علماء عصره في فرع من فروع العلم، وها هنا تأتي التفرقة الفاصلة بين العلم والثقافة؛ فالعلم عام والثقافة خاصة؛ فلا فرق بين عالم مصري وعالم من قومية أخرى في الرياضة أو في الكيمياء أو غيرهما من ميادين العلم، وأما ثقافة المصري - أي وجهة نظره - فيتحتم تحتيما أن تختلف عن الثقافة عند سائر الأقوام، فإذا اتفق قومان في وجهة نظر واحدة إلى الكون وإلى الحياة، قيل إنهما بمثابة الأخوة في الأسرة الواحدة، أو بمثابة أبناء العم والخال، وكذلك إذا وجدت داخل قومية معينة أفرادا يتجهون بنظرهم الوجهة نفسها (بكل حذافيرها) التي تتميز بها قومية أخرى، كان هؤلاء الأفراد محسوبين خطأ على قومهم، وكان الأولى لهم أن يحسبوا على من يتجانسون معهم في وجهة النظر.
نامعلوم صفحہ