48

ہموم مثقفین

هموم المثقفين

اصناف

فهذه وأمثالها «آراء»؛ لأن رفضها أو تعديلها ممكن بحسب ما تقتضيه الظروف؛ فما هو صواب منها هنا والآن، قد لا يكون صوابا هناك وبعد حين.

إلا أن الخطوة الأولى على طريق الديمقراطية، هي أن نميز بين الرأي وصاحبه.

تعدد المبادئ في البناء الواحد

كنت قد سألت طفلا لا يتجاوز العاشرة، قائلا: كم تستغرق من الزمن بين البيت والمدرسة؟ فأجاب الطفل: ذلك يعتمد على الطريقة التي أذهب بها؛ فإذا مشيت استغرقت نصف الساعة، وإذا جريت استغرقت ثلث الساعة، وإذا ركبت دراجتي لم يزد معي الزمن على عشر دقائق.

عندئذ أذهلتني لمعة الذكاء في تلك الإجابة التحليلية الحذرة بقدر ما أذهلتني غفلتي عند إلقاء السؤال؛ فلقد سألت الطفل عن الزمن الذي تقتضيه المسافة بين البيت والمدرسة، غافلا عن وسيلة الوصول مع أن الجانبين مرتبط أحدهما بالآخر ارتباطا لا فكاك منه.

ومثل هذا التحليل الحذر، الذي لا تحمله الرغبة في التبسيط على تجاهل التفصيلات الهامة، وهو التحليل الذي اهتدى إليه الطفل الذكي بفطرته، ضروري عندما يدير أبناء الشعب حوارهم حول «الديمقراطية» بغية تعميقها؛ إذ لا بد لهذا التعميق أن يسبقه وضوح تام لما تعنيه لنا هذه الكلمة المرنة المطاطة، حتى لقد استطاعت كل شعوب الأرض في دنيانا الحاضرة، أن تصف نفسها بالديمقراطية، كائنا ما كان نوع الحكم القائم فيها، وإننا لنلحظ في استعمال الناس لهذه الكلمة في أحاديثهم خلطا عجيبا، يدل على غموض معناها في أذهانهم؛ فهم يطلقونها على المتواضع من الناس، ويطلقونها بمعنى «المساواة» بين أفراد الشعب، ويطلقونها بمعان أخرى كثيرة.

إن هذا التوسع في فهم «الديمقراطية» توسعا لا تضبطه حدود، هو الذي قد ينتهي بنا إلى موقف يفوتنا فيه أن نرى مبادئ أخرى لا بد لها من الوقوف إلى جانب الديمقراطية في إقامة حياتنا، ولتوضيح ذلك أقول:

إننا لنسأل أنفسنا بادئ ذي بدء: ما هي الخصائص الأساسية التي منها تتكون هوية هذا الشعب العظيم الأصيل؟ أعني ما هي العناصر الأساسية التي دامت مع هذا الشعب العريق على طول تاريخه الطويل؟ وذلك لأننا لو وفقنا في الإجابة عن هذا السؤال، لوجب علينا أن نقيم حياتنا على دعائمها، ولعلي لا أخطئ إذا قلت إن بين الخصائص الأساسية، ثلاثا تجيء في مقدمتها، وهي التي ميزتنا منذ قديم، ولم تزل تميزنا، وأعني بها: الدين، والأسرة، والوطن، وكلمة «الوطن» هنا مذكورة لشمل المعنيين: معنى الأسرة الكبيرة التي هي الأمة، ومعنى رقعة الأرض التي هي مصر، والتي يحبها المصري لذاتها.

والسؤال الذي نطرحه الآن هو هذا: هل يكفي مبدأ «الديمقراطية» وحده ليكون أساسا للتنظيم في هذه المجالات الثلاثة على السواء؟ أونحن في حاجة إلى مبادئ رئيسية أخرى تضاف إلى مبدأ الديمقراطية كي نجد لكل مجال ما يلائمه؟

ولعل هذا هو الموضع الذي نحدد فيه معنى «الديمقراطية» تحديدا واضحا وبسيطا، وإني لأفضل في تحديده أن يكون ذلك عن طريق وظيفتها، لا عن طريق مضمونها النظري؛ لأن الدخول في مضمونها النظري، ينتهي بنا إلى متاهات هي نفسها المتاهات التي أتاحت لكل حكومات الدنيا أن تصف نفسها بالديمقراطية، على اختلاف ما بين تلك الحكومات في التكوين وطريقة الأداء، أما إذا حددنا معناها بالإجراءات التي تتبع عند اتخاذ القرار، قلنا في بساطة واضحة إنها هي التي تأخذ بطريقة عد الأصوات؛ فالقرار النافذ هو ذلك الذي تصوت له أكثرية أفراد الشعب من الراشدين، ولما كان من المتعذر على هؤلاء الأفراد أن تحصى أصواتهم عند كل قرار يتخذ، لجأنا إلى من أنابوهم عنهم باختيارهم.

نامعلوم صفحہ