وليكن المذهب الوجودي هو نقطة ابتدائنا: أليست رسالته في جوهرها هي حرية الإنسان؟
إن الإنسان - بناء على هذا المذهب - هو الذي يصنع نفسه ويشكلها عن طريق القرارات التي يتخذها لنفسه بنفسه؛ فليس هو بذي حقيقة مقطوع بها مقدما، ليسير على طريق مرسوم له ولا حيلة له فيه؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما كان له اختيار فيما يفعل وما يكف عن فعله، لكن سبل الاختيار مفتوحة أمام الإنسان في كل لحظة من حياته، بل إن هذا الاختيار واجب مفروض على الإنسان إذا أراد لإنسانيته أن تتحقق، أما إذا ترك سواه ليختار له، ولا يكون له إلا أن يطيع، فإنه عندئذ يكون بمثابة من أهدرت آدميته؛ لأنه يكون قد حول نفسه من الحالة الإنسانية التي تريد وتختار، إلى حالة الأشياء الجوامد، أو إلى حالة النبات والحيوان.
تلك هي رسالة الوجودية، ليس فيها ما يرفضه مذهب من المذاهب الثلاثة الأخرى، كل ما في الأمر، هو أن تلك المذاهب الثلاثة لم تجعل حرية الإنسان - بذلك المعنى المحدد لها - موضوع سؤالها، ولقد تجد من الفلسفات ما يرفض الوجودية من حيث الأساس، كالمذاهب المثالية التي تجعل ماهية الإنسان سابقة على وجوده الفعلي، لكنها فلسفات نبتت في عصور أخرى غير عصرنا، وأقول ذلك عنها دون أن أريد لهذا القول أن يتضمن أنها أقل أهمية أو أكثر أهمية من الاتجاهات الفلسفية التي أنبتها هذا العصر الذي نعيش فيه.
وأمام رسالة المذهب الوجودي في حرية الاختيار وحرية القرار بالنسبة إلى الإنسان، قد يسأل سائل: أليس هنالك من القيود ما يقيد تلك الحرية عند الإنسان؟ ألا تتقيد - مثلا - بما يقتضيه منطق العقل حتى لا تصبح كحرية المجنون؟ لنفرض أن مسافرا قرر السفر من مصر إلى أوروبا ليقضي بعض شأنه، ألا تتقيد حرية إرادته تلك بوسائل الانتقال المتاحة وبالقدرة المالية والصحية وغير ذلك مما يملكه أو لا يملكه؟ أو افرض فرضا آخر وهو أن إنسانا أراد أن يقسم مائة دينار على أربعة أشخاص بالتساوي، تلك هي إرادته الحرة، لكن هل تكون له كذلك حرية في ناتج القسمة، وهو أن يكون نصيب كل فرد من هؤلاء الأربعة خمسة وعشرين دينارا؟ إن إرادته مهما بلغت من حريتها، لا بد لها من الانصياع إلى قوانين الرياضة وقوانين الطبيعة، وله بعد ذلك أن يتحرك بإرادته الحرة داخل إطار هذه القوانين.
لا، بل إنه وهو يتخذ لنفسه قراره الحر بإرادته الحرة، مضطر أن يصوغ ذلك القرار في لغة يفهمها الناس، ولما كانت اللغة ليست من صنعه الخاص، فهو مضطر إلى التزام المفردات اللغوية وطرائق التركيب اللغوي التي تواضع عليها الناس، ليفهموا عنه ما أراد وما قرر، وإلا لما أحدث في العالم الخارجي الأثر الذي أراد أن يحدثه بقراره ذاك الذي اختاره حرا.
فإذا سأل سائل عن مدى الضوابط التي يفرضها منطق العقل فرضا؛ أي تفرضها قوانين العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، بل وتفرضها كذلك لغة العلم ولغة التفاهم، كان ذلك السائل باحثا عن جواب لن يجده إلا عند من عني بفلسفة التحليل؛ لأنها فلسفة توجه اهتمامها الرئيسي نحو تلك الضوابط، فتحاول أن تستخلص الصور المنطقية الخالية من مضموناتها، لعلها ترى في وضوح أنواع العلاقات التي تربط أطراف الفكرة الواحدة ربطا يفيدنا في توليد النتائج، فإذا كان المشتغل بفلسفة التحليل لا يرفض حرية الإنسان كما وصفتها الفلسفة الوجودية، فإن المشتغل بالفلسفة الوجودية من جهته لا يرفض أن تضطلع فلسفة التحليل بتحديد الضوابط التي لا مناص من التزامها عند عرض أفكارنا؛ إذ الفلسفة الوجودية وإن لم توجه اهتمامها إلى ضوابط الأفكار في إطارها الصوري، فهي لا تتنكر لها ولا ترفضها، كما أن الفلسفة التحليلية وإن لم توجه اهتمامها إلى أركان الحرية الإنسانية عندما تريد وتفعل، فهي لا تتنكر لها ولا ترفضها.
على أن صور المنطق والرياضة وقوانين العلوم وقواعد اللغة المفهومة ذات الدلالة، ليست هي كل القيود التي تقيد حرية الإنسان المتمثلة في فاعليته، إذ هو يريد ويختار وينفذ بالفعل؛ فهنالك بالإضافة إلى ذلك قيود الأهداف؛ لأن الذي يسير على طريق حياته بلا أهداف يتصورها ويحددها ليعمل على تحقيقها، هو المجنون وحده، وإذا كان ذلك كذلك في حياة العقلاء، فماذا تقول البراجماتية غير هذا؟ إن البراجماتية قيدت دلالة الفكرة المعينة بمقدار تحقيقها لهدفها، فإذا قلت عن فكرة ما إنها بغير هدف محدد تقصد إليه وترسم معالمه، كنت كمن لا يريد أن يفرق بين عاقل ومجنون، وإذا كان فيلسوف الوجودية وهو منغمس في البحث عن حرية الإنسان، لم يوجه اهتمامه كذلك إلى تحليل الأفكار الصحيحة تحليلا يقيدها بالأهداف التي تتحقق بوساطتها على أرض الواقع الفعلي؛ فليس معنى ذلك أنه - أي فيلسوف الوجودية - يرفض هذا الذي تقوله البراجماتية، كما أن البراجماتي لم يكن ليرفض ما يقوله الوجودي عن صنع الإنسان لنفسه باختياراته الحرة التي يمارسها في المواقف التي تعرض له في مسيرة حياته.
هنالك - إذن - قيود تحد من إطلاق الحرية الوجودية، دون أن تنتقص من صميمها؛ فلقد ذكرنا قيود العقل بمنطقه، وقيود الوسيلة اللغوية التي نتفاهم بها حتى لا تذهب أقوالنا عبثا مع الريح، وهنالك قيود الأهداف التي لا بد منها لتهتدي بها الحرية الإنسانية إذ هي تريد وتختار، ونريد الآن أن نضيف الآن قيدا آخر، هو قيد الظروف المادية التي تحيط بنا عند الاختيار وإرادة الفعل، فماذا يجدينا من حرية لا تضع في اعتبارها ظروف الواقع وضروراته؟ إنها لو فعلت ذلك كانت هي حرية الحالمين! نعم، إننا أحرار في تقرير ما نريد فعله، لكن هذا القول يفقد معناه إذا كان هذا التقرير نفسه لا تواتيه العوامل المادية المحيطة بنا، وهي العوامل التي تتيح لنا أن نحول ما اخترناه وما أردناه، إلى واقع نحياه، وذلك هو جانب مما تقوله الفلسفة المادية الجدلية.
هكذا نرى أن المذاهب الفلسفية في عصرنا حين اختلفت، فهي إنما اختلفت في الجانب الذي تكون له أولوية النظر عند كل منها، دون أن تكون الجوانب المتعددة متعارضة فيما بينها، بل هي جوانب يكمل بعضها بعضا، ونستطيع أن نأخذ بها جميعا - وكدت أقول إنه لا بد أن نأخذ بها جميعا - في وقت واحد؛ إذ لا تعارض هناك بين أن نقر للإنسان بحريته (وتلك هي الفلسفة الوجودية) وأن نبين لتلك الحرية ضوابط المنطق لتلتزم حدودها (وتلك هي الفلسفة التحليلية) وأن نشترط لها كذلك التزام الأهداف المراد تحقيقها (وتلك هي البراجماتية) مدخلين في حسابنا دائما ضرورات الواقع المادي الذي ستجري على أرضه تحقيق أهدافنا (وتلك هي المادية الجدلية).
ولنضرب لهذا التكامل بين مذاهب الفلسفة الأربعة التي تسود عصرنا، مثلا يوضحه: افرض أننا أمام عبارة يقول بها صاحبها «إن العمل على تحقيق القومية العربية واجب محتوم» ثم أردنا الوقوف عند هذه العبارة ننظر إليها من الزوايا الفلسفية الأربع، فماذا نقول؟ إننا إذا بدأنا النظر من زاوية الفلسفة الوجودية، بحثنا عن العلاقة بين هذه العبارة وقائلها، لنرى إن كانت عنده بمثابة القرار الأصيل الذي أصدره بنفسه ولنفسه، حتى إذا ما وجدناه كذلك كان قائلها ملتزما فعلا بالعمل على تحقيقها، أما إذا وجدناها عبارة لم تصدر من ذات قائلها، بل أمليت عليه من خارجه، فإنها عندئذ تفقد قيمتها من حيث دلالتها على حرية القائل ومسئوليته الخلقية إزاءها.
نامعلوم صفحہ