95

في مشهد غريب يبشر بأحداث أكثر غرابة، يقف آخيل على الربوة التي تقع وراء المعسكر ويصيح ثلاث مرات بصوت عال حتى إنه «في التو هلك اثنا عشر رجلا من خيرتهم وسط عجلاتهم الحربية ورماحهم» (18، 230). تهن عزيمة الطرواديين، حتى إن الآخيين يتقدمون ويأخذون جثمان باتروكلوس بينما تغرب الشمس. يحملون الجثمان إلى معسكر آخيل، حيث تنظفه الإماء وينحن عليه، وفوق الجثمان يقسم آخيل على الانتقام.

في تغيير تام للحال السائد وللمكان تدخل ثيتيس إلى سحر وغموض بيت هيفايستوس على الأولمب، حيث يصنع لآخيل أروع درع شهدها العالم، وهو ما ناقشناه سابقا وقلنا إنه تصوير لعالم هوميروس نفسه (راجع: الفصل 2، قسم «هوميروس والفن»). يقول هوميروس إن هيفايستوس يسبك معدن البرونز، ولكن في وجود اثني عشر منفاخ كير لتوليد درجات حرارة عالية، لا بد أن يكون هوميروس يتخيل ورشة حدادة من عصره. ألهم وصف هوميروس للدرع الكثير من المقلدين، حيث في وصف تصويري لعمل فني

ekphrasis («مشهد جانبي» مطول يصف عملا فنيا) يصف الشاعر بحيوية شديدة شيئا ماديا كما لو كان يخلق عالما مستقلا أو موازيا.

برغم كونه متسخا وأعرج ومنبوذا من المجتمع، فإن هيفايستوس هو الكرم ذاته حين يستريح من عمله الشاق ليكرم وفادة ثيتيس، ممتنا لها ومستعدا لرد الجميل. ويقول إنها فيما مضى شملته برعايتها عندما رمته أمه من السماء لكونه أعرج (مع أن هيفايستوس في الأبيات 590-594 من الكتاب الأول من «الإلياذة» يذكر أن «زيوس» هو من ألقاه من السماء؛ راجع الفصل 3، قسم: «هوميروس والأساطير»).

حاول كثيرون إعادة تشكيل شكل الدرع ورسمه فنانون، بيد أن وصف هوميروس مبهم وغير واضح. فهو درع دائري وله طبقات خمس، وربما يكون مقسما إلى أرباع دائرة. لا بد أن هوميروس يتخيل قطعة معدنية كان قد شاهدها. إن التقليد الفني للشرق الأدنى الذي يشتمل على تمثيل الملوك والآلهة بمقياس أكبر من البشر العاديين هو ما يؤكد على أن نموذج هوميروس على ما يبدو مأخوذ في الأصل عن الشرق الأدنى:

وذهب الباقون، يقودهم آريس وبالاس أثينا، وكلاهما مشكل من الذهب، وكانت ملابسهما التي يرتديانها من الذهب. وكانا مليحين وفارعي الطول في هيئتهما التي تليق بالآلهة، ويبرزان بوضوح بين الباقين، وكان القوم عند أقدامهما أصغر حجما. (الإلياذة، 18، 516-519)

إن درع هيفايستوس هو درع سحري، وهو أفضل مثال في القصائد الهوميرية لشيء مادي ثمين ومشغول بإتقان فائق ؛ فالأشياء والأشخاص عليه مفعمون بالحياة ويتحركون مثل المراجل السحرية الثلاثية الأقدام ذات العجلات في غرفة استقبال هيفايستوس، التي تقبل عليك كالروبوتات حينما تستدعيها. وكأن الدرع هو النظام الكوني وهيفايستوس هو خالقه. وعليه تجد الأرض، والسماء، والبحر، والشمس، والقمر، والمجموعات النجمية. وفي مصر نجد أن الإله الحرفي بتاح، المعادل لهيفايستوس عند الإغريق، كان خالق الكون.

لا يوجد أي مضمون أسطوري للأحداث الواردة على الدرع المتحررة من الحاجة إلى إنشاء بعد ملحمي. ففي المدينة التي تعيش في سلام، نجد نزاعا يسوى، مع أننا لا نستطيع أن نفهم قواعد هذه التسوية. وفي المدينة التي تعيش في حال حرب، نجد عدوا يحاصر مدينة بينما ينصب سكان المدينة كمينا. وفي قسم آخر من الدرع نجد أرضا منخفضة وحصادا وكرمة بها صناعة نبيذ وقطعان ماشية. وحول كل ذلك يجري نهر أوقيانوس الذي يحيط بالعالم كما يعلم الجميع. (22) «اعتذار أجاممنون» (الكتاب 19)

يعد موت باتروكلوس هو نقطة التحول الثانية في الحبكة، التي تعيد آخيل إلى الأحداث حتى يتسنى له قتل هيكتور وبذلك يحكم على نفسه بالموت. قبل أن يكون بوسعنا أن ندخل إلى «لحظة الامتياز» الختامية العظمى، التي انتظرناها طويلا جدا، يحتاج آخيل إلى إبرام اتفاق صداقة مع أجاممنون ويتخلى عن غضبه تجاهه:

ليت أرتميس كانت أردت بريسئيس بسهم عند السفن يوم أخذتها من الغنيمة، بعدما دمرت ليرنيسوس! ساعتها ما كان كثيرون من الآخيين سيلقون حتفهم مدحورين على يد العدو بسبب غضبي الجامح. كان ذلك لصالح هيكتور والطرواديين، ولكن الآخيين فيما أعتقد سيذكرون لأمد طويل الخصومة بيني وبينك. على أي حال لندع هذه الأمور تصبح ماضيا فات ومات، من أجل كل ما كابدناه من ألم، كابحين جماح ما يجيش في صدورنا؛ لأن الضرورة تلزمنا بذلك. إنني الآن صدقا أنهي غضبي. فليس من الصواب أن أكون غاضبا إلى الأبد دون توقف. (الإلياذة، 19، 59-68)

نامعلوم صفحہ