في سبعينيات القرن التاسع عشر، وبناء على اقتراح من مغترب بريطاني كان يعيش في منطقة ترواد، شرع الألماني هاينريش شليمان (الذي كان يحمل أيضا الجنسية الأمريكية) في بحثه الأسطوري عن مدينة طروادة الهوميرية في موضع ما زال يعرف باسم هيسارليك (وتعني باللغة التركية «الحصن/البلدة المحصنة»)، وهي عبارة عن نتوء من جبل إيدا الداخلي الشاهق على مسافة قريبة جدا من مضيق الدردنيل (شكل
2-7 ).
ذاعت أنباء اكتشافات شليمان المذهلة في أنحاء المعمورة والتي كانت عبارة عن: مدينة دمرتها النيران واقعة في عمق التل وخبيئة من أغراض ذهبية وفضية، سرعان ما سميت باسم كنز بريام. بيد أننا نعرف الآن أن المدينة المحترقة التي اكتشفها شليمان كانت ترجع إلى مرحلة طروادة الثانية، حوالي سنة 2500-2200 قبل الميلاد، وهي فترة زمنية تسبق بكثير عالم العصر البرونزي المتأخر الذي تنتمي إليه الأساطير الملحمية الإغريقية، وهو العصر الذي بلغت فيه مدينة ميسينيا أوج قوتها. كذلك توجد شكوك بشأن أصالة الكنز الذي اكتشفه شليمان وبشأن ظروف اكتشافه. وفي تسعينيات القرن التاسع عشر، كشف فيلهلم دوربفيلد (1853-1940)، المهندس المعماري الذي كان يعمل لحساب شليمان، عن أسوار قلعة طروادة السادسة التي ترجع إلى حقبة متأخرة، وذلك في تسعينيات القرن التاسع عشر، وزعم أن هذه الأسوار لا بد وأنها الأسوار التي خلد هوميروس ذكراها. غير أنه في ثلاثينيات القرن الماضي، عثر كارل دبليو بليجن من جامعة سينسيناتي على دلائل على وجود اكتظاظ سكاني في الموضع الذي التجأ إليه الناس - على ما يبدو - بعد زلزال عظيم في حوالي سنة 1250 قبل الميلاد. في هذا المستوى، وهو مستوى طروادة السابعة (أ)، التي دمرت بدورها حوالي سنة 1180 قبل الميلاد، وجد بليجن منشآت مخصصة لمخزونات الغذاء، كما لو أن السكان كانوا يتوقعون وقوع هجوم. وعثر بليجن أيضا على حجارة مقلاع ونصال برونزية لسهام وأسنة رماح في أنقاض دمار عند البوابة الغربية، التي سدت بعد الزلزال الذي وقع حوالي سنة 1250 قبل الميلاد. وخلص تقرير بليجن النهائي عن العمل الذي قام به في طروادة من عام 1932-1938 إلى أن القلعة وفرت «أدلة فعلية على أن البلدة تعرضت للحصار، وللاستيلاء عليها، وللتدمير من قبل قوات معادية في فترة ما في المرحلة الزمنية الشائعة التي ينسبها التراث الإغريقي لحرب طروادة، وأنه يمكن بثقة تعريفها بأنها طروادة بريام وهوميروس.»
شكل 2-7: سهل سكاماندروس من فوق منطقة هيسارليك، قلعة طروادة، في اتجاه الشمال الغربي. مجرى مضيق الدردنيل وراء حافة اليابسة مباشرة في أعلى الصورة. التقطت الصورة من قبل المؤلف.
منذ عام 1995 تابعت بعثة ألمانية تحت قيادة مانفريد كورفمان (الذي توفي في سنة 2005) أعمال التنقيب التي بدأها شليمان في القرن التاسع عشر وواصلها بليجن في القرن العشرين. وحسب كورفمان، فإن نتوء هيسارليك الشهير التي قام شليمان وبليجن بأعمال التنقيب فيه لم يكن إلا المدينة العليا في مستوطنة أكبر كثيرا بتعداد قد يصل إلى 10 آلاف نسمة. وخارج القلعة مباشرة، يوجد خندق وسياج كانا يحميان مدينة سفلية عن طريق توفير خط دفاعي خارجي يبعد كثيرا عن سور القلعة، وربما كان الغرض منه منع اقتراب الجيوش المحمولة على عجلات حربية.
لا بد وأن طروادة العصر البرونزي، المبنية وفق تصميم أناضولي مألوف، كانت مركزا تجاريا مهما، وربما مقرا ملكيا، ولا يمكن أن تكون قد تغافلت عنها حتوساس، مملكة الحيثيين الهندو-أوروبيين الأشداء التي كانت تمثل القوة العظمى في العصر البرونزي في منطقة وسط الأناضول (خريطة 1). وكانت أول مادة مكتوبة عثر عليها على الإطلاق في طروادة، في عام 1995، هي ختم برونزي نقش بكتابة مقطعية «هيروغليفية» أناضولية (المتعارف على تسميتها - خطأ - بالكتابة اللوفية) مسجلا لهجة حيثية محلية (شكل
2-8 ).
شكل 2-8: ختم برونزي محدب الوجهين على الطراز الحيثي عليه نقش لوفي (حيثي) بكتابة أناضولية «هيروغليفية»، من طروادة، ويبلغ قطره حوالي بوصة، ويرجع تاريخه إلى حوالي 1130 قبل الميلاد. وقد عثر عليه في منزل من مرحلة طروادة السابعة (أ)، ويمثل النقش اسمين ناقصين لكاتب وامرأة. كان المسئولون يحملون مثل هذه الأختام على هيئة خاتم مصنوع من سلك ممرر عبر فتحة في الختم، أو يلبس على شريط جلدي. وعند «توقيع» وثيقة من البردي، كان المسئول يضغط ختمه في كرة الصلصال التي تغطي العقدة في الخيط الذي كانت تربط به لفيفة البردي. تشيع مثل هذه الأختام في كل أنحاء منطقة البحر المتوسط ولكن أغلبها مصنوع من الحجارة . مشروع طروادة، جامعة توبنجن.
تشير السجلات الحيثية فيما يبدو إشارة مباشرة إلى طروادة، مطلقة عليها أسماء مثل «فيلوسا» (وهي التسمية المرادفة لإيليوس) و«تارويسا» (وهي التسمية المرادفة لترويا). ومن محتويات الألواح التي عادة ما تكون صعبة نعرف أن إقليم فيلوسا كان أبعد جزء من «أرض أرزاوا»، ومن الواضح أنه كان في شمال غربي الأناضول، وأنه كان يقع على الساحل. فمن المعتاد لمستوطنة كبيرة أن تحمل نفس اسم الإقليم الذي تقع فيه، ومن ثم فإن التماثلين الاسميين فيلوسا (المرادف لتسمية إيليوس باليونانية) وتارويسا (المرادف لتسمية ترويا باليونانية) هما تماثلان معقولان. والواقع أن هذين التماثلين الاسميين معروفان لنا منذ وقت طويل؛ إذ تعودان إلى معلومات أكاديمية ترجع إلى عشرينيات القرن الماضي، ولكنهما كانا يبدوان خياليين لمعظم الناس. وعلينا أن نتذكر أن هذا النوع من المقارنات صعب؛ لأن الكتابة المسمارية لبلاد ما بين النهرين التي كانت تستخدم عادة من قبل الكتبة الحيثيين في كتابة هذه الألواح (والتي لا صلة لها بالكتابة التي درج على تسميتها «هيروغليفية» التي تدون بها لغة قريبة منها، وهي اللغة اللوفية) لا تطلعنا على النطق الفعلي للأسماء، وإنما تعطينا إشارات فقط؛ فالصيغ مثل «تارويسا» و«فيلوسا» هي عبارة عن عمليات إعادة بناء أجريت من قبل باحثين أكاديميين وهي إلى حد ما تخيلية. ونحن، على العكس من ذلك، نتبين نطق الأسماء اليونانية بسبب الأبجدية اليونانية. ومع ذلك، فإن عمليات إعادة البناء المعاصرة للتقسيمات السياسية في منطقة الأناضول القديمة، اعتمادا على الألواح، لا تدع مجالا للشك في أن إمبراطورية حتوساس كانت على علم بطروادة وكان لها تعاملات مع الطرواديين.
هل كانت السلالة الحاكمة في طروادة سلالة حيثية؟ إن كان الأمر كذلك، فقد كانت مستقلة سياسيا عن الحيثيين. فقد أبرم أحد ملوك الحيثيين، ويدعى مواتيلي، معاهدة في عام 1280 قبل الميلاد، وهو زمن طروادة السادسة، مع من يدعى «ألكساندو ملك فيلوسا»، وهي الصيغة الحيثية للاسم اليوناني «ألكسندراس»، الذي معناه تقريبا في اللغة اليونانية «حامي الرجال». يطلق هوميروس على باريس الطروادي اسم «ألكسندر»! فهل بسط أمير يوناني نفوذه على طروادة أثناء العصر البرونزي؟
نامعلوم صفحہ