لعل أفضل مصدر للمعلومات عن الأساطير ما قبل اليونانية يوجد في الملحمة الأكادية «جلجامش»، الباقية في نسختها الأكثر اكتمالا على اثني عشر لوحا عثر عليها في العاصمة الآشورية نينوى، التي دمرت في عام 612 قبل الميلاد على يد تحالف من البابليين والفرس. ولكن القصيدة أقدم بكثير من ذلك التاريخ؛ إذ نجت شذرات منها تعود إلى الألفية الثالثة كتبت باللغة السومرية في نقش مسماري. وظهرت أجزاء أخرى منها في عاصمة الحيثيين الهندوأوروبية حتوساس (أو حتوشاش)، التي دمرت حوالي عام 1200 قبل الميلاد، وفي مستوطنات أخرى متناثرة حول الشرق الأدنى. ومع ذلك فإن النصوص من هذا النوع ليست مطلقا نسخا عن طريق الإملاء لأغان شفاهية، وإنما صياغات كتبة ألفوها في مدارس الكتبة لإثارة إعجاب الكتبة الآخرين والترويح عنهم وتدريبهم.
إن قصة جلجامش، الذي يموت صديقه المقرب إنكيدو جراء سلوك جلجامش المتعجرف، توازي قصة آخيل، الذي يموت صديقه باتروكلوس؛ لأن آخيل لن يذعن للقواعد السائدة. وفكرة الرحلة الطويلة والعودة للوطن، التي تسود البناء القصصي لملحمة «الأوديسة»، تشكل أيضا النصف الثاني من ملحمة «جلجامش»، عندما يرتحل جلجامش بعد موت إنكيدو إلى نهاية العالم حتى يحل لغز الموت.
ولا يقتبس هوميروس مثل هذه الأفكار العامة من تراث بلاد ما بين النهرين الأقدم فحسب، وإنما يمكن تتبع تفاصيل محددة وصولا إلى منبعها في الشرق. ففي «الأوديسة» يظهر أوديسيوس بمظهر رجل عار أشعث عندما تستبينه ناوسيكا وهو يخرج من بين الشجيرات قرب البحر على جزيرة فياشيا وتقوده، في مشهد ينطوي على توتر جنسي، إلى المدينة. وفي ملحمة «جلجامش» تغوي إحدى البغايا إنكيدو الرجل البربري العاري الذي تقابله عند جبء وتروضه، ثم تأخذه إلى المدينة. وثمة الكثير من القواسم المشتركة بين أرض الفياشيين الخيالية عند هوميروس وأرض أوتو-نبشتم الحكيم السحرية في ملحمة «جلجامش»؛ إذ نجا أوتو-نبشتم من الطوفان، مثل نوح، ويعيش الآن فيما وراء البحار عند حافة الأرض. ويعبر أوديسيوس هو الآخر البحار التي تحيط بالأرض ليستشير الحكيم تريسياس. إن مظهر أوديسيوس الهمجي أمام ناوسيكا يحاكي وحشية جلجامش عندما يقبل على سدوري، صاحبة الحانة عند ساحل البحر. يغلب النعاس أوديسيوس وهو في طريق عودته من جزيرة أيولوس، فيتجاوز جزيرة إيثاكا، مثلما يغلب النعاس جلجامش خارج منزل أوتو-نبشتم. ويحوي الكتاب الحادي عشر من «الأوديسة»، وهو القسم الذي يصف التقاء أوديسيوس بأرواح الموتى والذي يطلق عليه «نيكويا»
Nekuia (أي: «الهبوط إلى أرض الموتى»)، الكثير من القواسم المشتركة مع قصيدة منفصلة عن جلجامش اسمها «جلجامش وإنكيدو والعالم السفلي»، وهي القصيدة التي تشتمل على تفصيلة عن رجل مات جراء سقوطه من فوق سطح بيت. ومثلما يهلك رجال أوديسيوس عندما يذبحون ماشية إله الشمس، كذلك يموت إنكيدو بعد أن يذبح هو وجلجامش ثور السماء. وفي الحادثتين يتوعد إله بأن يقلب العالمين العلوي والسفلي عاليهما سافلهما إلا إذا كانت الغلبة لإرادة الآلهة.
كذلك ثمة طائفة واسعة من التفصيلات الصغيرة في «الإلياذة» و«الأوديسة» التي نجد لها نظيرا في مصادر شرقية؛ على سبيل المثال: إنجاب مينلاوس لطفل من محظية، وأبهة قصر ألكينوس، وانتقال مينلاوس إلى جنة في أقاصي الأرض، وامتناع بينيلوبي عن الطعام، وجداول المياه الأربعة على جزيرة السايكلوب، وطعام الحورية كاليبسو الخاص المكون من طعام الآلهة والرحيق، وتشبيه بشأن الريح والقش، وتشبيه ناوسيكا بالنخلة؛ والكلاب المعدنية أمام قصر ألكينوس، واختفاء جزيرة الفياشيين، والقربان المرفوض من الآلهة، والاستعانة بنبتات واقية (عشبة لها زهرة بيضاء وجذور سوداء تسمى «مولي» في «الأوديسة»)، واستحضار أوديسيوس لأرواح الموتى على ضفاف المحيط، وتسمية السيرينات، وإحجام الخطاب وممانعتهم لقتل أحد من سلالة ملكية، وسرير بينيلوبي الذي تغمره الدموع؛ وإنزال العقاب بصلم الأذنين وجدع الأنف، والتوهج والبهاء المحيطان بالآلهة، والتولد «من البلوط أو الصخر»، والقوس الذي لا يستطيع سحبه إلا البطل وحده، ومسابقة رمي السهام، وقذف عظمة ساق بقرة باستهزاء (نحو أوديسيوس)، وفقدان ليرتيس للوعي عند اجتماع شمله بأوديسيوس، وما سبق على سبيل المثال لا الحصر.
وثمة مثال بارز لاعتماد السرد على قوالب شرقية موجود في الكتاب الخامس من «الإلياذة» (البيت 330 وما بعده)؛ حيث يصيب ديوميديس أفروديت أثناء القتال. وبعدها تهرب إلى عائلتها في السماوات طلبا للمواساة. وتسقط باكية في حجر أمها ديوني (زوجة زيوس). فتواسيها بأمثلتها المستقاة من الأساطير، بينما تعلق هيرا وأثينا بتعليقات ساخرة. ويدعوها زيوس إليه وينصحها برفق أن تبتعد عن الحروب والقتال، وأنه ينبغي عليها بالأولى أن تنشغل بأمور الحب والزواج. في ملحمة «جلجامش»، بعد أن يقتل جلجامش الوحش خمبابا، يغسل شعره ويصقل أسلحته ويبدو بالغ الوسامة حتى إن عشتار، عندما تراه، تطلب منه أن «هبني ثمرتك أتمتع بها.» فيرفض جلجامش إلهة الجنس بازدراء وغلظة ويتلو عليها قائمة طويلة من العشاق الذين حطمتهم. «ولما سمعت عشتار هذا استشاطت غضبا وعرجت إلى السماء، صعدت عشتار ومثلت في حضرة أبيها آنو وأمها آنتو. وجرت دموعها وقالت: «يا أبي إن جلجامش قد عزرني وأهانني. لقد سبني وعيرني بهناتي وشروري»، ففتح آنو فاه وقال لعشتار الجليلة: «أنت التي استفززت ملك أوروك، فأهانك جلجامش وعدد مثالبك وهناتك» (اللوح 6، 80-91) [ترجمة طه باقر (بتصرف يسير)].» في كلا المشهدين نرى ابنة متضررة تشتكي إلى أم مواسية وأبا متباعدا ومرتبكا نوعا ما. الشخصيات هي نفس الشخصيات؛ فإلهة الحب أفروديت أي عشتار، وإله السماء آنو أي زيوس، وزوجته آنتو أي ديوني. في هذا الموضع، وفي هذا الموضع فحسب، من كل الأدب الإغريقي تظهر ديوني بمظهر وليفة زيوس المتناغمة معه. فديوني هي الشكل المؤنث لزيوس، مثلما تمثل آنتو الشكل المؤنث لآنو.
يبلغ عدد الأفكار الشعرية الشرقية الموجودة في «الإلياذة» ضعف عددها في «الأوديسة». فليس ثمة شك في أن هوميروس قد آل إليه تقليد من السرد القصصي تخطى الحدود اللغوية والثقافية. لا بد وأنه كان يوجد منشدون ثنائيو اللغة، وليس مجرد متحدثين ثنائيي اللغة. فلا بد أن يكون قد ظهر أمثال هؤلاء المنشدين ثنائيي اللغة بين السكان المختلطين من العوبيين والفينيقيين، أو السوريين الساحليين الذين تشهد الاكتشافات الأثرية على أنهم كانوا موجودين في إيطاليا، وكريت، وعوبية. جرب كاتب (وليس شاعرا) ملم بالكتابة السامية الغربية، ومحيط بالتقليد السامي الغربي القديم المتعلق بإنشاء نصوص شعرية من خلال الإملاء، للمرة الأولى، أن يسجل الملاحم الإغريقية. وبينما كان يجري تعديلات لازمة على الكتابة السامية الغربية، اخترع القاعدة التكنولوجية التي قامت عليها نصوص القصائد الهوميرية والحضارة الغربية. (6) الدين في القصائد الهوميرية
الآلهة في القصائد الهوميرية هم جماعة من الكيانات العكرة المزاج، وغالبا ما تكون مدعاة للسخرية وغيرتها التافهة لا تتقيد بأهمية الحياة البشرية. هم فريق الأثناتوي، أي «الذين لا يموتون»، الذي رسم أعضاؤه حدود نطاقات اهتمامهم. ولكن خلودهم يضللهم عندما يتعلق الأمر بالأهمية المصاحبة للقرارات البشرية والسلوك البشري. فأفعالنا ذات قيمة لأننا سوف نموت، أما الآلهة فلديهم حرية أن يكونوا تافهين إلى الأبد.
كان السلوك شبه البشري والإفراط فيه عند الآلهة الهوميرية بالفعل موضع انتقاد من قبل زينوفانيس في القرن السادس قبل الميلاد، كما رأينا في موضع سابق من الكتاب. كذلك لا تتناسب آلهة القصائد الهوميرية مع الأطروحات العصرية للطبيعة التي ينبغي أن يكون عليها الإله؛ فهم يتشاحنون، ويدبرون المكائد، ويغوون، ويخادعون، ويخونون، ويمارسون العنف بعضهم ضد بعض. ففي «الإلياذة»، ينحازون لطرف على حساب آخر في الحرب بقدر ما يفعل المحاربون من البشر (على الرغم من غموض القصائد الهوميرية بشأن الأسباب التي تجعلهم ينقسمون هكذا). ويفضل الآلهة بعض الشخصيات على غيرها ويشاركون في المعارك بأنفسهم، ولكن دون عواقب وخيمة.
غير أن الموضع الرئيسي لسلوك الآلهة هو قاعة المآدب، التي هي عبارة عن تصور شعري لمنازل الأرستقراطيين الإغريق في العصر الحديدي. في أمثال قاعات المآدب هذه - والتي تعد الدليل الأفضل على أن تلك التصويرات من عند هوميروس - كان هناك طعام وفير عندما كان الطعام شحيحا وثمينا، والكثير من الخمر وما تجلبها من نشوة، وغناء المنشد الملحمي. ومثلما ينشد المنشد الملحمي ديمودوكوس في «الأوديسة» للبلاط الملكي للفياشيين، كذلك ينشد أبولو للآلهة، وينشد هوميروس لمجتمع لا يتبقى عليه شواهد إلا قليل من الأدلة المادية. كانت المأدبة تمثل الحياة الرغدة في السماء مثلما هي على الأرض، بيد أنها على الأرض يخيم عليها حتمية الموت. ومن الموضوعات المحورية في «الأوديسة» المأدبة الفاسدة، حينما تصبح الحياة الرغدة ذريعة للنهب ومسرحا للقتل الجماعي. إلى أبد الدهر يتناول الآلهة الطعام بتكاسل على جبل الأولمب، كأطفال مدللين فاسدي الأخلاق، ويشكلون عائلة، مهلهلة أحيانا، وممتدة في عالم خيالي بلا هموم على قمة جبل حيث الملذات الحسية السرمدية:
نامعلوم صفحہ