3
إن الأمر برمته هو مؤامرة تنطوي على إقحام فقرة مدسوسة على النص، وتنقيحه، وتعدد مؤلفيه!
كشأن هذه الملاحظات، كان تفسير وولف متبحرا ومنطقيا وبارعا، إلا أنه، كشأن هذه الملاحظات أيضا، كان خاطئا تماما. لقد وضع يده على المشكلة الجوهرية - ألا وهي قصيدة مكتوبة من عصر لم يعرف القراءة ولا الكتابة - بيد أن قلة في وقتنا هذا هم من يعتقدون أن القصائد الهوميرية ظهرت للوجود كتنقيحات تحريرية لنصوص موجودة سلفا، مثلما كان ظهور البانتاتيك التوراتي من دون شك. وقد دعي أنصار وولف محللين؛ لأنهم سعوا إلى تفكيك نصوص هوميروس إلى عناصرها الأساسية المكونة لها، وأنتجوا نظريات مثيرة للاهتمام وبراهين معقدة، ولكن لأن افتراضاتهم كانت خاطئة، كان جهدهم بدرجة كبيرة مضيعة للوقت. فبشكل ما، تتألف النصوص الهوميرية من أناشيد أقصر، ولكنها ليست نصوصا منقحة. إنها قصائد أصلية موحدة وضعت من مواد متوارثة على يد ذكاء بشري منفرد، كما أثبت الكاليفورني ميلمان باري في أوائل القرن العشرين. (5) نظرية الصيغ الشفاهية: حجج ميلمان باري
عاش ميلمان باري (1902-1935) حياة رومانسية ومات في ريعان شبابه وهو في الثالثة والثلاثين (يرجح أنه مات منتحرا). برهن باري من خلال دراسات أسلوبية ثاقبة للنصوص الهوميرية على أن أسلوب هوميروس الأدبي كان متفردا وغير معروف لدى الشعراء من أمثال شاعر القرن الثالث قبل الميلاد اليوناني الأصل الإسكندري المولد أبولونيوس الرودسي، مؤلف ملحمة «أرجونوتيكا»، أو شاعر القرن الأول قبل الميلاد الروماني فيرجيل، مؤلف ملحمة «الإنياذة»، أو شاعر القرن السابع عشر الإنجليزي جون ميلتون، مؤلف ملحمة «الفردوس المفقود». أثبت باري - من وجهة نظر أسلوبية - أن هوميروس نظم مستعينا بوحدات أكبر من «الكلمة»، وأن هذه الوحدات تشتمل باصطلاحاتنا على مقاطع، وأبيات كاملة، ومجموعات من الأبيات، بل وحتى أنماط سردية أكبر. وضع باري حدا فاصلا بين وجهة النظر القديمة من أن الشعر العظيم ينظم باستخدام كلمات جميلة متأنية تنتقى بدقة لتلائم اللحظة وبين وجهة النظر الحديثة القائلة إن في مقدور الشعراء أن يمارسوا سحرهم بوسائل أخرى. كانت نظرياته أكثر تأثيرا من نظريات أي ناقد أدبي آخر من القرن العشرين، ليس فقط فيما يتعلق بكيفية فهمنا لهوميروس، ولكن فيما يتعلق بكيفية فهمنا للأدب نفسه، من ناحية أصوله وطبيعته. (5-1) النعت الثابت
بدأ باري بالمعضلة القديمة المتعلقة بالنعت الثابت في قصائد هوميروس، تلك العبارات الثابتة التي تلحق بأسماء معينة يلاحظها على الفور كل قارئ، والتي تسترعي الانتباه وتثير الحيرة. لماذا يوصف آخيل بأنه «ذو القدمين السريعتين» حتى عندما يكون جالسا، وهيكتور بأنه «ذو الخوذة اللامعة»، وهيرا بأنها «ذات العيون الواسعة كالمها»، والبحر بأنه «داكن كالخمر»؟ انتبه كثيرون لهذا الأمر، لكن باري كان أول من لاحظ أن هذه النعوت الثابتة كانت تتغير ليس تبعا للسياق السردي، أي ما كان يحدث في القصة، وإنما تبعا لوضع اسم البطل ضمن نظم البيت. بعبارة أخرى، لبى النعت ضرورات الوزن الشعري، وليس متطلبات السرد.
حسب التحليل الحديث ، يتألف وزن قصائد هوميروس المعقد، الذي يطلق عليه الوزن السداسي التفعيلات الدكتيلية، من أبيات مكونة من ست وحدات أو «تفعيلات»، يمكن لكل واحدة منها أن تتشكل من مقطع طويل ومقطعين قصيرين ( - ∪∪
ويطلق عليها التفعيلة الدكتيلية [من كلمة إصبع باليونانية]) أو مقطعين طويلين (- - وتسمى التفعيلة السبوندية أو التفعيلة ذات المقطعين)، ما عدا التفعيلة السادسة والأخيرة، التي تحتوي على مقطعين فقط، أولهما طويل. والمقطع الثاني من التفعيلة الأخيرة يمكن أن يكون طويلا أو قصيرا، ولكن كان يعطي إيحاء بطوله ربما بسبب تتمة البيت الشعري؛ فيما يعني أن الوزن السداسي يختتم دوما بتفعيلة سبوندية (- -). يشير تعبيرا «قصير» و«طويل» إلى الوقت الذي يستغرقه نطق الحرف المتحرك، الذي يعتمد بدوره على الطبيعة الجوهرية للحرف المتحرك أو على الإطار الصوتي للحرف المتحرك (إذ يتحول حرف متحرك قصير متبوع بحرفين ساكنين إلى حرف متحرك طويل). أحيانا ما يحاكي شعراء العصر الحديث أنفسهم هذا الوزن، مستبدلين النبر بطول الحرف المتحرك، كما في قصيدة «إيفانجلين» (1847) لهنري وادزورث لونجفيلو (1807-1882):
This is the forest primeval. The murmurings pines and the hemlocks,
Bearded with moss, and in garments green, indistinct in the twilight ...
وترجمتها:
نامعلوم صفحہ