كذلك تعد ملحمتا هوميروس أخصب مصدر للمعلومات عن اليونان القديمة؛ فقد كانتا دوما عملا كلاسيكيا عن اليونان نفسها وكل ما تدين به الثقافة الغربية لليونان. فلا وجود لشيء اسمه «اليونانيين» من دون القصائد الهوميرية. ماذا تروي لنا ملحمتا هوميروس عن الماضي؟ عن الترحال، والزواج، والتجارة، والحرب، والعمارة، والاقتصاد، والسياسة، والدين؟ هذا هو مبحث «ملحمتا هوميروس عند المؤرخين»، وذلك هو المنظور الثاني لملحمتي هوميروس في بحثنا، وهو أنهما عبارة عن وثائق مدونة تحكي لنا عن الماضي.
ولكن ملحمتي هوميروس تعني للغالبية، ممن ليسوا علماء في فقه اللغة ولا مؤرخين، القصص التي يحبها الجميع ويحبون الحديث عنها، وتأخذهم نشوة النظم فيها. إن قصص ملحمتي هوميروس هي التي تجعل منهما عملا كلاسيكيا. ويعتبر مبحث «ملحمتا هوميروس عند القارئ» - المنظور الثالث لملحمتي هوميروس في بحثنا - هو المبحث الأكثر أهمية؛ لأنه ما يجعل لجهود علماء فقه اللغة والمؤرخين قيمة.
في هذا الكتاب الموجز، سوف أبحث في الجزء الأول الجوانب الثلاثة لملحمتي هوميروس. وانطلاقا من هذه المنظورات، سوف أقود القارئ في الجزء الثاني عبر القصائد على نحو سريع بعض الشيء، وفي غضون ذلك سوف أشير في سياق العرض إلى جوانب فقه اللغة، والجوانب التاريخية والأدبية التي اجتذبت الاهتمام لما يناهز ثلاثة آلاف عام. بعد ذلك، في الجزء الثالث، سوف أصف كيف فهم الإغريق والرومان اللاحقون ملحمتي هوميروس وحاكوهما. وأخيرا، سوف أستعرض بعض الأعمال الأدبية الإضافية الهامة التي تناولت ملحمتي هوميروس إلى جانب اقتراحات لمراجع إضافية للاستزادة.
الجزء
الخلفية
الفصل الأول
ملحمتا هوميروس عند علماء فقه اللغة
علماء فقه اللغة هم «عشاق اللغة» وكل شيء عن اللغة يثير اهتمامهم، ولكن ليس اللغة من ناحية كونها ملكة بشرية عامة؛ فعلماء اللغويات يضطلعون بذلك. إن علماء فقه اللغة الكلاسيكيين مهتمون تحديدا باللغتين اليونانية واللاتينية، أو بما يمكننا أن نستنتجه بشأنهما من العدد الضخم من الصفحات المكتوبة التي لا تزال باقية. غير أنه من السهل أن ينسى علماء فقه اللغة أننا لا نعرف شيئا عن اللغتين اليونانية واللاتينية بطريقة مباشرة، وإنما نتعامل دوما مع تجسيد مكتوب يستند إليهما. فالكتابة هي نظام يعبر عن اللغة باستخدام رموز مكتوبة وهي ليست - بأي حال من الأحوال - وسيلة علمية لتجسيد الخطاب الشفهي. وعلى ذلك فإن البون شاسع جدا بين الكتابة والخطاب الشفهي، كما يدرك مثلا أي أحد يدرس اللغة الفرنسية، ثم يسافر إلى باريس.
وهكذا لم يكتب للخطاب الشفهي اليوناني القديم واللاتيني البقاء، لكن «النصوص» بقيت، وأصل كلمة «نصوص» بالإنجليزية هو كلمة لاتينية تعني «شيء منسوج». يسيء كثيرون فهم ملحمتي هوميروس بعجزهم عن تذكر أنها نصوص وأن النصوص مكتوبة برموز؛ أما الخطاب الشفهي، فعلى العكس، ليس مرمزا (رغم أنه قد «يكون» هو نفسه رمزا). ويحتمل في النصوص أن تبقى إلى الأبد، أما الخطاب الشفهي فسريع الزوال. النصوص هي أشياء مادية وعرضة للفساد والإفساد والخطأ. أما الخطاب الشفهي فغير مادي ويختفي على الفور. لقد مات هوميروس منذ زمن بعيد، لكن نصوصه سوف تبقى إلى الأبد.
من أين أتت «نصوص» هوميروس؟ هذا هو السؤال الذي يرغب عالم فقه اللغة في التوصل إلى جواب له أكثر من أي شيء آخر. (1) ما المقصود بالنص الهوميري؟
نامعلوم صفحہ