شكل 5-2: جزيرة إيثاكا، من الاتجاه الشمالي الغربي، من الجبل الواقع خلف قرية فاثي الحالية (التي تعني «عميق»). الوصلة الضيقة التي تربط فرعي الجزيرة واضحة في الوسط، وتلال جزيرة كيفالونيا المجاورة ترى عن بعد في الأفق. بلدة ستافروس على الجانب الآخر من التل البادي إلى يمين الصورة. الجبل على اليمين يطلق عليه في الوقت الحالي اسم جبل نريتون، وهو مسمى على غرار وصف هوميروس. التقطت الصورة بواسطة المؤلف.
لا بد أن يعود البطل من رحلته البعيدة جالبا معه كنوزا، ويعوضه الفياشيون عن كل ما فقده وأكثر من مغانم حملها من طروادة. فيزودونه بوسيلة انتقال سحرية، تصل عالم أعالي البحار المظلم بما له من رموز للموت بعالم الديار البهي بما يحمله من تأكيد على الحياة. لقد تكرر وقوع أوديسيوس في أخطار جراء النوم أو الخدر، والآن يغلبه النوم مجددا:
وبعد ذلك فرشوا لأوديسيوس بساطا ودثارا من كتان على سطح السفينة مجوفة القعر في المؤخرة، حتى يمكنه أن ينام بعمق، وكذلك صعد هو على متن السفينة، ورقد في صمت. ثم جلسوا جميعهم على مقاعد التجديف على التوالي، وفكوا رباط السفينة من الحجر المثقوب. وحالما رجعوا بظهورهم إلى الوراء وطرحوا نصال مجاديفهم في الماء الأجاج، حتى استسلمت عيناه لنوم هانئ، نوم بلا يقظة، على أحسن ما يكون، نوم أشبه كثيرا بالموت. (الأوديسة، 13، 73-80)
يضعه الفياشيون وهو نائم على الشاطئ بالقرب من شجرة زيتون وكهف تأوي إليه الحوريات وجعلوا كنوزه إلى جانبه. إنه الفجر، يوم جديد وميلاد جديد. إن شجرة الزيتون تمثل الحياة، مثلما تعلق بشجرة فوق تشاريبدس، وكما أن فراش زفافه، كما نعرف، منحوت في شجرة. يحول بوسيدون فلك الفياشيين إلى صخرة، حقدا منه عليهم لدورهم كناقلين للرجال الآيسين، وهي تفصيلة غريبة حملت لاحقا على أنها تشير إلى حجر كبير في ميناء جزيرة كورسيرا (التي يقول ثوسيديديس إنها جزيرة فياشيا). لن يربطوا بعد الآن العالمين معا بسحر الحوريات الخاص بهم. كان الفياشيون مقدرين لأوديسيوس وحده، الذي كانت رحلته متفردة، وما ينطبق عليه لا ينطبق علينا أنا وأنت. يرمز تحجر سفينة الفياشيين إلى نهاية العصر البطولي؛ فالآن الأمور مختلفة وليس ثمة عودة إلى الوراء أبدا.
يبدي هوميروس معرفة جيدة بالجغرافيا الإيثاكية عندما يصف ميناء فوركيس بأنه يحده رأسان بحريان منحدران، وهو وصف جيد لميناء فاثي (وتعني «العميق») المعاصر على الشاطئ الشرقي لجزيرة إيثاكا (خريطة 4). وإيثاكا هي جزيرة صغيرة على شكل ساعة رملية تقع ضمن ما يطلق عليه مجموعة الجزر الأيونية، الواقعة غرب المدخل المؤدي إلى خليج كورنث. تمتلك جزيرة إيثاكا ميناء جيدا آخر عند قرية ستافروس الحالية على الناحية الأخرى والطرف الآخر للجزيرة، على أقصى الطرف الغربي الذي يواجه جزيرة كيفالونيا الحالية، التي ربما تكون جزيرة سيمي التي يذكرها هوميروس (سيمي هو التسمية الحديثة للقرية الميناء الواقعة على جزيرة كيفالونيا في مواجهة إيثاكا، جنوب قرية آيا إيفيميا على خريطة 4).
خريطة 4: إيثاكا والجزر الإيونية (اليونان المعاصرة).
يوجد بالفعل كهف خارج ميناء فاثي له فتحتان، كما يقول هوميروس عن كهف الحوريات. وعثر الأثريون في كهف ثان بالقرب من الميناء الآخر (بالقرب من قرية ستافروس الحالية) على قطع من ثلاثة عشر مرجلا ثلاثي القوائم قديمة جدا من البرونز، صنعت في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد. وثمة نقوش من القرن الثالث قبل الميلاد تثبت أن الكهف كان بعد ذلك مقاما لأوديسيوس، ولكننا لا نستطيع التأكد من توقيت حدوث حالة الانطباق بين المقام، وما يحويه من قرابين، وأسطورة أوديسيوس. ولا توجد اكتشافات مشابهة لهذا الكشف الأثري المذهل. تكهن البعض بأنه لا بد وأن هوميروس كان على دراية يعرف بأمر هذه المراجل ثلاثية القوائم، عندما يقول إن أوديسيوس عاد ومعه «برونز متين» (الأوديسة، 13، 368) وضعه في كهف، أو ربما حتى إن القصيدة كانت موجودة في صورة نص مكتوب في ذلك الوقت واستلهم منها تكريس المراجل ثلاثية القوائم. إن تحديد أواخر القرن التاسع قبل الميلاد كتوقيت لوجود نصوص هوميروس المكتوبة (على نحو ما ادعى أحد الباحثين استنادا إلى هذه الكشوف الأثرية) هو أمر مستبعد قطعا .
صادف طاقم أوديسيوس، لدى وصوله إلى أرض اللستريجونيين، ابنة الملك؛ وفي سكيريا قابل أوديسيوس ناوسيكا، والآن يقابل أثينا متنكرة في هيئة شاب. وحدهما أوديسيوس وأثينا هما من يظهران متنكرين في القصيدة. وهنا تبدأ مجموعة متنوعة من الحكايات الكاذبة، تكاد تمثل نوعا أدبيا فرعيا داخل «الأوديسة»، التي يتشكل جانب كبير منها من حكايات؛ تلك الحكايات التي يحكيها نيستور، والتي يحكيها مينلاوس، والتي يحكيها أوديسيوس في أرض الفياشيين. حكايات، وحكايات، بينما السرد الجامع متطور بعض الشيء. تتبع هذه الحكايات الكاذبة أنماطا قريبة من أنماط الحكايات «الحقيقية» التي رواها أوديسيوس للفياشيين، ولكنها بدلا من ذلك تجري في عالم واقعي ما بعد العصر البطولي بما يحويه من ممارسات الحياة اليومية من غدر وقتل وقرصنة وإتجار.
في مشهد التعرف الأول على جزيرة إيثاكا يروي أوديسيوس لأثينا، التي تجسد الحكمة والمهارة الدنيوية، رواية مضللة عن كيف أتى من جزيرة كريت مسقط رأسه. فتروي أنه مقاتل طروادي ولكنه قاتل وطريد أودعه الفينيقيون وهو نائم على الجزيرة. إن الفينيقيين مثل الفياشيين (حتى إن الاسمين متشابهان)، ولكن الفياشيين الخياليين في عالم هوميروس القصصي المختلطة فيه الأمور هم قوم «حقيقيون» في حين أصبح الفينيقيون التاريخيون «مختلقين»!
يعتقد البعض أن هذه القصة، والقصص التي ستليها التي ستربط أوديسيوس بجزيرة كريت، قد تعكس صيغا بديلة لملحمة «الأوديسة»، وهي رؤية يدعمها بيتان إضافيان يظهران في بعض المخطوطات في الكتاب الأول الذي تصف فيه أثينا رحلة تليماك إلى مدينتي بيلوس وإسبرطة «ومن هناك إلى كريت إلى الملك إيدومينيوس، الذي حل في المرتبة الثانية بعد الآخيين المدرعين بالبرونز.» هذا التأويل معقول؛ إذ يوحي بأن نسخ «الأوديسة» الأخرى، لم تكن منشغلة كثيرا بالترحال الرمزي الأخروي (هذا النوع من النقد هو شكل من أشكال التحليل النقدي الحديث). كان هوميروس يمتلك هذه المادة الأدبية الإضافية، ولأن لديه متسعا كبيرا من الوقت، فإنه يضيفها.
نامعلوم صفحہ