العالم الجديد
1 - الرجل صوت والمرأة صدى
2 - بائعة الزوج
3 - الدبوس الألماسي
4 - الدبوس والأحد عشر ألفا
5 - قلق إيفا وأفلن
6 - مؤتمر العصابة
7 - القبض على هوكر
8 - التحقيق
9 - هل يكون شخص في مكانين؟
10 - من السجن إلى النصب رأسا
11 - شفلر غير هوكر
12 - إبليس يجرب إيفا كروس
13 - مؤامرة في السجن
14 - سجن ولا سجين
15 - التقاء هوكر وشفلر في حلم
العالم الجديد
1 - الرجل صوت والمرأة صدى
2 - بائعة الزوج
3 - الدبوس الألماسي
4 - الدبوس والأحد عشر ألفا
5 - قلق إيفا وأفلن
6 - مؤتمر العصابة
7 - القبض على هوكر
8 - التحقيق
9 - هل يكون شخص في مكانين؟
10 - من السجن إلى النصب رأسا
11 - شفلر غير هوكر
12 - إبليس يجرب إيفا كروس
13 - مؤامرة في السجن
14 - سجن ولا سجين
15 - التقاء هوكر وشفلر في حلم
هوكر المحتال الأمريكي العظيم
هوكر المحتال الأمريكي العظيم
شخصان في واحد
تأليف
نقولا حداد
العالم الجديد
الشرق في واد والعالم الجديد في واد.
المألوف في أميركا غريب في آسيا، غريب في هذه البلاد. فما قولك بالغريب العجيب هناك، وأميركا أم العجائب والغرائب؟!
في هذه الرواية وما يتبعها من الروايات يطلع القارئ على عادات العالم الجديد وطبائعه، ويقف على فنون أهله وأساليبهم في معاملاتهم وعلائقهم، ويعرف حيلهم وألاعيبهم، واستخدامهم عجائب الاختراع وأسرار العلوم، ونظامات الأحكام الدستورية في سبيل تحايلهم.
يندهش القارئ إذ يرى أن الكهرباء والمغنطيسية وما نشأ منهما من العدد والآلات العجيبة، تشترك مع أذكياء البشر في حيلهم وألاعيبهم العجيبة الغريبة.
لذلك آلينا أن ننشر تباعا حينا بعض آخر روايات جاك هوكر - المحتال الأميركي الشهير - الذي دهش الأميركيين بحيله وألاعيبه الغريبة العجيبة، وحير أبطال الشرطة السريين، فلم يستطيعوا أن يمسكوه وهو يتردد بينهم، فكأنه الزئبق بين أناملهم. فكان يبهرهم بطرقه الغريبة المدهشة في الإفلات من مكائدهم؛ حتى كل نك كارتر البوليس السري المشهور من نصب المكايد له واضطر أن يسلم نفسه له طمعا برحمته.
وفي هذه الرواية الأولى الصادرة في هذا الكتاب حادثة من حوادث جاك هوكر التي لا تعد، يتمثل فيها هوكر بشخصين متشابهين حتى يضطر الناس أن يعتقدوا أن في الوجود شخصين، وهم يتحيرون في أمرهما مع أنه لا يوجد إلا شخص واحد.
وفي الروايات التالية التي تظهر حينا بعد حين يقع الصراع بينه وبين البوليس السري، وهي غرائب لم تخطر على قلب بشر؛ فليتتبعها القراء الكرام.
نقولا حداد
الفصل الأول
الرجل صوت والمرأة صدى
بعد الساعة الحادية عشرة مساء، كان جمهور من الناس يخرجون من ملعب الهبودروم المشهور في نيويورك، وكان بينهم سيدة تمتاز على غيرها من السيدات بنفاسة ثوبها وحلاها وأبهة مظهرها؛ حتى كان الرائي يخالها ملكة خارجة من قصرها والقوم كلهم حشمها. لم تكن لتقل عن الأربعين عمرا، ولكنها كانت تتراءى في الخامسة والعشرين؛ لأن صبا بنت النعماء طويل.
وكان يمشي إلى جانبها شاب لا يكاد يبلغ الثلاثين من العمر، طويل الطلعة، باهي المحيا، ربع القامة، أنيق الملبس. مشيا إلى أن وصلا إلى أتوموبيل ينتظر، فتوقفت السيدة، وقالت: لا أشعر أني ميالة إلى العودة إلى منزلي الآن، فهل تريد يا مستر هوكر أن تتناول معي كأس شاي في مطعم الهيبودروم؟
قال: وهل أستطيع أن أرفض هذا منك يا مس كروس؟
فابتسمت، وقالت: نعم، تستطيع إذا كنت تخاف غضب زوجتك.
قال: إذا كنت تحسبين ذهابي معك جريمة؛ فلا بد أن أخاف غضب زوجتي.
فتوردت وجنتاها خجلا، وقالت: لست أعني ما فهمت، ولكن الغيرة طبع في البشر، ولا سيما النساء؛ فإذا كنت تعهد أن زوجتك ليست غيورة عليك ولا تستاء من تأخرك، فأود أن تتناول معي كأس شاي. - قلت لك يا مس كروس: إن هذا اللطف العظيم ليس لمثلي أن يرفضه في حال من الأحوال.
فالتفتت إلى الحوذي، وقالت: جونستن، أنا في ذلك المطعم المقابل لنا.
وعند ذلك تقدمت ومستر هوكر يأخذ بيدها إلى أن دخلا مطعما فاخرا، تتألق فيه الأنوار الكهربائية حتى صار ليله أبهى من نهاره، وجلسا إلى مائدة منفردة بين حياض نبات وأزهار، وبعد أن سمع الساقي أمرهما بطلب الشاي وما يتبعه؛ قالت وعيناها تلتهم جاك هوكر وجدا: إذن؛ لا تبالي مهما عرضتك صحبتي.
فقال مبالغا في الابتسام: لا تعرضني صحبتك إلا للسرور والشعور بالسعادة. - إذن تحبني؟! - وأعتبرك أيضا.
فتململت مس كروس قليلا، ثم قالت باسمة متوردة: أوما من خطر من مسز هوكر عليك في حبي؟ - عجيب! أي خطر في ذلك؟!
فأطرقت هنيهة، ثم رفعت نظرها إليه، وقالت: لا بد من أحد أمرين: إما أنك لا تحبني، أو أن زوجتك لا تحبك.
فضحك، وقال: إن منطقك هذا كحبي لك مختصر اللفظ مطول المعنى. - إلى الآن لم تجاوب على قولي، ولم أدرك سر حبك هذا؛ لأن بين حب وحب فرقا كالفرق بين ماء وماء وهواء وهواء. - ما هو الحب الذي تتوقعينه مني؟ - أتوقع منك حبا لي كحبي لك. - ومن أدراك أن حبي أشد وأعظم؟
قالت: أنا أحلم بك كل ليلة.
قال: وأنا أحلم بك كل نهار أيضا؛ لأني لا أكاد أنام الليل.
قالت: صرف حبك فكري عن كتبي وجرائدي ومراقبة ثروتي.
قال: أما أنا فأصبحت أشغالي لغوا. - أشغلني حبك عن أصحابي. - وأشغلني حبك عن زوجتي.
عند ذلك اغرورقت عينا مس كروس بالدموع، وألقت يدها على كفه، فتناول خمسة أقلام من عاج، وضغطها على شفتيه هنيهة، شعرت في خلالها أن قطرة دمع أحرقت معصمها النضير، فجذبت كفه إلى صدرها.
وقالت: هل تشعر بخفقان قلبي؟ ما زال خافقا منذ ذلك العهد يوم التقينا لأول مرة في المرقص، منذ ذلك اليوم ابتدأت سعادتي وابتدأ شقائي أيضا؛ سعادتي بحبك وشقائي ببعدك.
فأجاب: ومنذ ذلك الحين اضطرمت النار في فؤادي، وما زلت في عذاب دائم - شقاء بلا هناء - وما التقينا مرة بعد ذلك الحين إلا ألقيت وقيدا في أتون صدري.
عند ذلك تنهدت وابتسمت، ثم قالت: الآن أشعر أني في نعيم يا جاك. - أما أنا فما هذه أول مرة ألقيت نفسي في جحيم.
فاختلجت مس إيفا كروس قليلا، وقالت: ماذا تعني؟ - أتظنين أننا التقينا هذه الليلة هنا مصادفة؟ - كيف عرفت أني آتية الليلة إلى الهيبودروم؟ - ما هذه معجزة! سليني كيف عرفت أنك كنت ذاهبة أمس مثل هذا الوقت متنكرة إلى بناية نادي المراقص في شارع 14؟
فاضطربت مس كروس ، وشعرت أن قلبها هبط في صدرها، وقالت: يا لله! هل رأيتني؟!
فقال ماكرا: هل ظننت أن الله وحده يعلم أنك تتفقدين الأرملة ويتاماها؟ - أي أرملة هذه؟! - هل تتجاهلين زوجة البواب الذي مات عن 6 صغار منذ أسبوع، وتظنين أني لم أعلم أنك زرت أرملته وتصدقت عليها؟
فهدأ روع إيفا كروس قليلا، وقالت وهي تظن أنها تمكر عليه: عجيب أن تعلم ما لا يعلمه إلا الله. - الحب أعظم ما خلقه الله، وهو قوة تقدرنا على كل شيء حتى على معرفة الأسرار. - إذن كنت تراقبني! - حاشا، ولكن قلبي كان يقودني إلى حيث يمكن أن أراك أحيانا. - إذن تحبني يا جاك! - وهل تسمين هذا حبا فقط؟
وكان وجهها قد ضاء بشرا، فألقت كفها في كفه، فطبع فيها قبلة ثانية، فأمسكت بيديه وجذبته، فانتقل إلى كرسي بجانبها، وهمت أن تقبله فنفر مبتعدا فقالت: لا يرانا أحد هنا. - ضميرنا يرانا.
فاحمرت خجلا، وقالت: إذن هو حب عقيم. - لهذا ما زلت شقيا منذ تعارفنا.
وكان سكوت بعض دقائق تنهدت إيفا في خلالها بضع مرار، وأتمت شرب شايها وعيناها تتقدان، ثم قالت: جاك! إني أحبك حبا لا أطيق معه الصبر عنك. - الله كتب لنا الشقاء يا إيفا وإلا لما سهل تعارفنا. - الله لم يكتب لنا شيئا، بل نحن نكتب لأنفسنا إما الشقاء أو السعادة. - كيف نستطيع أن نكون سعيدين مع هذا الحب القاتل؟
قال: ماذا يمنعنا أن نتمتع به؟! - كيف نستطيع؟ - نكون زوجين.
فاضطرب جاك قليلا، وقال: معاذ الله أن أرتكب جريمة تعدد الزوجات، والقانون يعاقب عليها.
قالت: إذن أنت تضحك علي. - ماذا تعنين؟ - أنت لا تحبني بل تحب زوجتك وتحبها وحدها، فلماذا تكذب في قولك أنك تحبني؟ - قد أكذب إذا قلت «إني أحبك» فقط؛ لأني أعبدك.
قالت: إذن ماذا يمنعك أن تطلق من لا تحب لتتزوج من تحب؟!
فبهت جاك، وبعد هنيهة قالت إيفا: نعم، نعم، لماذا لا تطلقها لكي تتزوجني إذا كنت تحبني؟!
قال: لم أدر أنه يمكنني أن أنال هذه السعادة يا إيفا، فتنهدت وألقت ذراعها على ظهره، وجذبته بكل قوتها لكي تقبله، فنفر من بين يديها، وعاد إلى كرسيه الأول فقالت: لقد روعتني، لماذا فعلت كذلك؟ إني أكاد أذوب وجدا.
فقال بكل لطف ورقة: إيفا، لم أطلق بعد. - أما صممت أن تطلق؟ - لا يكفي تصميمي، تعلمين أن الطلاق كالزواج لا بد فيه من رضى اثنين معينين.
فخمد في الحال اتقاد إيفا، وفكرت هنيهة ثم قالت: نبحث في الأمر بجد، هل تريد أن تطلق لتتزوجني؟ - أريد من كل قلبي إذا أمكن الطلاق. - هل تحبك زوجتك كثيرا؟ - لا أدري كم تحبني، بيد أني أظن أن الرجل صوت والمرأة صدى.
قالت: ألا يسهل عليك أن تقنعها؟ - بل يصعب علي جدا؛ لأنها لا تجد مستندا سواي، وهي تبتغي أن تعيش منعمة مباهية، ولا تؤمل بأن تعيش هذه العيشة مع سواي.
ففكرت إيفا هنيهة ثم قالت: أعطني عنوان زوجتك.
قال: منزل 28 شارع 110.
قالت: أرجو أن تكتبه هنا.
فتناول برنامج التمثيل في الهيبودورم من يدها، وكتب العنوان على بياض منه، فأودعته في حقيبتها، ونهضت وخرجا وودعا أحدهما الآخر، وهي ركبت أوتوموبيلها وهي تقول له: «غدا مساء تزورني في منزلي.»
فأكد لها ذلك، وركب القطار العلوي - الذي يسير على صقالات فوق الشوارع - وهو يقول: «جئت أصطاد عصفورا، فإذا بي قد اصطدت نعامة.»
الفصل الثاني
بائعة الزوج
إيفا كروس سيدة غنية تعد ثروتها بالملايين، وتعيش وحدها عيشة الأمراء في منزلها الفخيم بين منازل الأغنياء في زاوية الشارع 35 والأفنيو الخامس (الأفنيو هو الشارع الطويل)، وعاشت كل عمرها عازبة؛ لأنها لم تجد من تحبه الحب الكافي لكي تتزوجه؛ فكانت تكتفي بعشرة من تروق لها عشرته من الشبان الذين تعرفت بهم، وكان الذين يعرفونها يلقبونها «بالمفتونة»؛ لأنها كانت ولوعة بعشرة الشبان، وكان بعضهم يلعبون عليها أدوارا مضحكة لسذاجتها وبساطة قلبها، ومثل إيفا كروس كثيرات.
والظاهر أن حب جاك هوكر ملأ قلبها حتى لم يعد يسع حبا، وتدفق مع دمها وغلغل في عروقها، فلما افترقت عنه كانت تردد قوله: «الرجل صوت والمرأة صدى.» وقالت في نفسها : «إذا صحت هذه القاعدة - ولا بد أن تكون صحيحة - فلا بد أن جاك يحبني حبا شديدا - كما يقول - وإلا لما كنت أحبه، وبالتالي لا يمكن أن تكون امرأته تحبه؛ لأنه لا يمكن أن يحبها ويحبني معا، وعليه لا بد أن أنجح في فصلها عنه بأي الطريق ولو ملكتها نصف ثروتي، وأنا أعلم أن المرأة تبيع زوجها بثوب وقبعة، أفلا تبيع مسز هوكر - زوجها - بألوف الريالات؟!»
في الساعة الأولى بعد ظهر اليوم التالي، كانت مسز هوكر في منزل مس إيفا كروس، فاستقبلت هذه تلك بترحاب وابتسام قائلة: أشكر لطفك في تلبيتك دعوتي، متى وصلك كتابي يا مدام؟
أجابت: بالطبع وصلني منذ ساعة تقريبا؛ لأني حالما قرأته تأهبت للقدوم إليك، كما كتبت لي، وأسرعت ما استطعت؛ فعسى أن يكون خيرا. - إن شئت فخير، أو ويل لكلينا.
فقالت مسز هوكر مستهجنة هذا الجواب: إن كان الأمر يتوقف على مشيئتي فلا أريد إلا الخير لكلينا. - نعم، يتوقف على مشيئتك. - ماذا تبغين يا عزيزة؟ - إن ما أبتغيه شيء عظيم وصعب، ولا ينيلنيه أحد غيرك. - إن كان في وسعي فأفعله بسرور. - هو في وسعك إذا شئت. - إذن مري مس كروس فأفعل. - تعرفين المثل السائر «الشغل شغل»، أريد منك أمرا ولكن بثمن. - نعم! - الذي أريده شيء عظيم. - لا نختلف على الثمن، فماذا تريدين؟ - أريد أن تبيعيني زوجك.
فانتفضت مسز هوكر في مكانها حتى رأت إيفا انتفاضها فاختلجت معها، أما تلك فلم تجب، بل كان احمرار وجهها جوابا، فقالت هذه ثانية: أريد أن أشتري زوجك بلا مساومة، ثمنيه فأدفع ثمنه نقدا الآن، فأجابت مسز هوكر متغيظة: هل استدعيتني يا مس كروس إلى منزلك لكي تهينيني؟! - كلا يا عزيزتي، ما من إهانة في ذلك، بل أنت تعلمين أن حب المال في أميركا فوق كل حب، فإذا كنت أعرض عليك مالا بدل زوجك، فأكون عارضة عليك أعظم محبوب عند البشر - إله البشر اليوم - إلهي وإلهك؛ فأية إهانة في ذلك؟! - تفضلي أن لا تتمادي في هذا الموضوع؛ فما زوجي قبعة حتى أبيعه وتشتريه. - لكل شيء في الدنيا ثمن؛ فللقبعة ثمن، وللخاتم ثمن، وللعقد ثمن، وللكلب ثمن. - ما زوجي بشيء من ذلك حتى يثمن بثمن؛ فأقصري. - ألا تسمعين القول السائر: «معك ريال فتساوي ريالا»؟ فللرجل إذن ثمن أيضا، فلا تستهجني الأمر يا صديقتي، اطلبي الثمن.
فقاطعتها تلك قائلة غاضبة جدا: إذا لم تقصري حديثك جرت بيني وبينك موقعة هائلة هنا.
وكانت مسز هوكر قد تحمست جدا، ووقفت وهمت أن تهجم على مس كروس، أما تلك فلم تتحرك من مكانها، بل بقيت تترجح في كرسيها الهزاز وتبتسم، فقالت لها: اقعدي يا مسز هوكر يا حبيبتي اقعدي، الظاهر أنك لا تزالين تعولين على العواطف أكثر من المال، فدعينا نتكلم في الموضوع من وجه آخر.
فقالت مسز هوكر: كفاني هوانا عندك يا مس كروس، كفى.
وهمت أن تمضي، فتلقتها إيفا وأمسكت بيدها، وأجلستها إلى جانبها بالرغم منها تقريبا، وقالت: دعينا نتكلم بعقل الآن. - أراك جننت، فكيف أنتظر أن تكلميني بعقل؟! - لا، لم أجن بعد إلا إذا عاندتني فتكونين سبب جنوني، فاعلمي أني أحب جاك، وليس حبك له عند حبي إلا كنقطة في بحر. - أنت حرة في أن تحبي من تشائين يا مس كروس، ولكن لست حرة إلى حد أن تهيني سواك. - إذن لا تستائين مني إذا أحببت زوجك؟ - ليس لي حق أن أستاء، ولكني أشفق عليك وأعذرك؛ لأن كثيرات غيرك أحببنه قبلك، بيد أني لم أر من فعلت فعلك هذا. - إذن تعذرينني وتسلمين أن لي حقا أن أحبه. - بالطبع؛ إذ لا سلطة لأحد سواك على عواطفك. - وهل من سلطة لأحد على عواطفه؟! - كلا، ولكن لي أنا مطلق الحق بعواطفه. - الحق يا مدام شيء والسلطة شيء آخر. لك حق أن يحبك، ولكن لا سلطة لك على عواطفه إذا كان لا يحبك. - تعنين أنه لا يحبني الآن؟ - نعم؛ لأنه يحبني مثلما أحبه، ولا أقدر أن أقول أكثر إذ لا أعتقد أن هناك حبا أشد من حبي له. - إذن أنت تحاولين أن تختلسي زوجي مني؟ - كلا، لا أختلسه اختلاسا، بل أشتري اسمه شراء كما اقترحت عليك أولا، أقول اسمه؛ لأن قلبه وروحه صارا ملكي.
فظهر غضب مسز هوكر شديدا، وقالت: تقرين أنك خائنة لي، عرفتك بزوجي فغازلته وتحببت له لكي تستميليه، ولكني أقول لك: إن زوجي لا يغتر بالغنى والجاه، فقد تزوجنا حبيبين ونموت حبيبين. - إنك لمغرورة يا هذه، إن كنت معتمدة في هذا العناد على اعتقاد أنه يحبك فأنت مسكينة. - ليس من يزعزع ثقتي بزوجي. - لماذا لم تسهري معه أمس؟! - كان في «النادي الثلاث عشري» فكيف أذهب معه؟! - قلت لك مسكينة فلم تصدقي، كان في ملعب الهيبودروم. - تكذبين. - بل أصدق؛ لأنه صرف بعد ذلك نحو ساعة معي في مطعم الهيبودروم. - أنت منافقة تبتغين أن تهيجي طبعي. - لا تسخطي يا حبيبتي، عندي برهان.
ثم خرجت إيفا إلى غرفتها، وفي لحظة عادت وفي يدها برنامج التمثيل في ملعب الهيبودروم، وأرتها إياه قائلة: هذا عنوانك عليه بخط زوجك نفسه، والبرنامج بتاريخ الأمس كما ترين، فهل صدقت أنك مسكينة؟!
فاستلقت مسز هوكر في كرسيها كأنها واهية القوى، وتنهدت، وجال الدمع في عينيها.
ثم قالت: إذن تحفظين هذا البرنامج برهانا على خيانتك لي. - ما أنا خائنة يا مدام، بعد أن قلت: إن لا سلطة لأحد على عواطفي، وإن لي حقا أن أحب من أشاء. - بل أنت خائنة؛ لأنك تستهوين زوجي. - كلا يا مدام، هو يقول: إن الرجل صوت والمرأة صدى؛ أي إن المرأة تحب الرجل لأنه يحبها أولا، وتحبه بقدر حبه لها؛ فهو استهواني وهو استمالني وهو راقبني وتتبعني إلى الهيبودروم؛ ولهذا أحبه، ولهذا لا يحبك فأتعجب كيف أنك تحبينه حتى الآن؟!
فشرقت مسز هوكر بدموعها، فتقدمت إليها إيفا، وأمسكت يدها، وقالت: لماذا تبكين يا حبيبتي؟ إنك لساذجة جدا، لو كنت أنا في مكانك لا أبكي على رجل لا يحبني، بل بالأحرى أكرهه وأشمخ عليه وأقصيه عني.
فرفعت مسز هوكر نظرها إلى إيفا وعيناها تتقدان، وقالت: إذا كان يحبك وتحبينه، فماذا تشترين مني بعد، فقد صار لك وأنت له؟! - نعم؛ صار لي وصرت له فما أنا شارية قلبه منك؛ لأن قلبه لي على كل حال، وإنما أنا شارية اسمه، فاطلبي ثمنه ما تشائين.
فقالت مسز هوكر بلهجة الهازئة المتمرمرة: وماذا يهمك اسمه وقد حزت قلبه؟! - أريد أن يكون لي كله بحسب الشريعة، أريد أن أتزوجه، أريد أن تطلقيه إذ لم يبق لك إلا اسمه، وقد اتفقت معه على ذلك.
فسخطت مسز هوكر بها قائلة: أطلقه؟! سأريك ماذا أفعل. - ماذا تفعلين؟! - ألا تعلمين ما هو عقاب الخائن والخائنة؟!
فقهقهت إيفا، وقالت: ليس بيني وبين زوجك إلا الحب، والحب ليس خيانة؛ لأنه فوق كل شريعة وسلطان في هذه البلاد. - إذن اكتفي بحبه يا هذه، وأنا أعرف كيف أدبر زوجي، لن أعيش إن كنت أدعه يرى وجهك بعد.
ففكرت إيفا هنيهة، وقالت: أود أن أكلمك بكل تعقل يا عزيزتي، فاسمعي لي ولا تستسلمي لعواطفك الآن، فتهتدي إلى الصواب في مصلحتك. لا بد أنك اقتنعت أن زوجك يحبني ولا يحبك، وإذا راجعت سلوكه معك في الماضي تتأكدين ذلك.
وكانت مسز هوكر قد ألقت خدها على كفها، فهمت أن تستشيط، فأومأت لها إيفا قائلة: هدئي روعك يا حبيبتي، وانظري إلى مصلحتك، فإن للعواطف ثورة تنطفئ في ساعة أو يوم، فإذا كان زوجك لا يحبك؛ فلا يكون زوجك إلا بالاسم، ولو استطعت أن تبعديه عمن يحب، الأمر الذي يستحيل عليك، وإن عقدت النية على الانتقام منه فأنت خاسرة على كل حال، ولو نجحت مع أنك لن تنجحي لأنك لست أقدر مني مالا ولا أذكى منه عقلا، فمن العبث أن تحاولي الاحتفاظ به، وخير لك أن تستعيضي منه بما هو أفيد لك من اسمه ألف ألف ضعف، لا فائدة لك منه إلا أنه يعولك قدر ما يستطيع، فأنا أعوض لك ذلك أضعافا بحيث تقدرين أن تعيشي بعدئذ أسعد حالا، حتى إذا شئت أن تتزوجي وجدت خير شبان، يتمنى كل منهم أن يتزوجك غنية.
وكانت مسز هوكر قد وضعت وجهها في كفيها كأنها تبكي، فلم تجب كلمة على خطاب إيفا ، وبعد هنيهة قالت هذه لها: كم تريدين أن أدفع لك ثمن طلاق زوجك فأدفع في الحال؟
فلم تجب مسز هوكر، فقالت: هل تكفيك ثلاثون ألف ريال؟
فلم تجب فقالت: خذي 40 ألف ريال.
فلم تجب أيضا فقالت: أظن 50 ألفا تكفيك وزيادة.
أكتب لك تحويلا بالقيمة، وأنت تكتبين لي تعهدا أنك تطلقين زوجك غدا أو تردين لي المبلغ.
ونهضت إيفا وأمسكت مسز هوكر بيدها، وقالت: «هلمي معي إلى مكتبي.» وعند ذلك جرتها جرا كأنها تأخذها بالقوة إلى أن دخلتا وجلستا على كرسيين، وتناولت إيفا دفتر التحاويل، وكتبت تحويلا لمسز هوكر بقيمة 50 ألف ريال، ودفعته لها، وقدمت لها ورقا، وقالت: «اكتبي التعهد الآن.» فلم تمد تلك يدها، فوضعت إيفا الورق والقلم في يدها، ثم قبلتها ولاطفتها حتى رضيت أن تكتب، وهي تنظر إلى التحويل، وتنعم النظر في أرقامه، وأملت إيفا عليها صورة التعهد فكتبته وأمضته، فأخذته إيفا ووضعته في محفظة، ثم عادتا إلى القاعة والتحويل في يد إيفا؛ فدفعته لها قائلة: هذه 50 ألف ريال ثمن اسم زوجك؛ فلتكن سبب حب أسعد لك من حب جاك.
لك أن تقبضي القيمة من البنك الآن.
فأمسكته مسز هوكر بيدها، وقالت: أي مجنون في بنك نكر بوكر يدفع لي 50 ألف ريال وهو لا يعرفني؟! ومن يصدق أن هذا التحويل ليس مزورا؟!
فقالت إيفا والفرح قد أخذ منها كل مأخذ: ماذا تريدين؟ هل تريدين أن أذهب معك إلى البنك لكي أدفع شبهة التزوير؟
فقالت: تذهبين معي؛ لكي يلعن الذين يروننا المرأة التي ساومت على ثمن زوجها؟! كلا؛ لن أذهب ولا أبقى في نيويورك ساعة بعد طلاقه. - إذن؛ ماذا تريدين؟ - لماذا لا تذهبين الآن إلى البنك وتقبضين الثمن؟ - إذن غدا نذهب معا، أنا إلى البنك وأنت وجاك إلى المحكمة. - لا بأس إذن، أعطيني التعهد حالا. - أبقي التحويل معك. - لا لا، التعهد عندي أكثر قيمة من التحويل؛ فخافت إيفا أن تكون مسز هوكر قد ندمت، وأنها تود أن تفسخ عقد الاتفاق؛ فقالت: إذن أذهب الآن إلى البنك، وفي ساعة أعود إليك بالمبلغ نقدا فانتظريني هنا.
وفي الحال نزلت إيفا، أما مسز هوكر فخرجت إلى رحبة المنزل الذي هو موضع الجلوس العمومي، واطمأنت إذ رأت التليفون، وجلست، وبعد برهة قرع جرس التليفون فأسرعت إليه في الحال، وتناولت بوقه فدنت الخادمة إذ سمعت صوت التليفون، فقالت لها مسز هوكر: الطلب لي.
فقالت تلك: هل مس كروس التي تخاطبك؟ - كلا؛ بل خادمتي.
فعادت الخادمة إلى شغلها وردت مسز هوكر البوق إلى أذنها وجعلت تجاوب المخاطب.
الفصل الثالث
الدبوس الألماسي
كان الوقت قد تجاوز الساعة الثانية لما خرجت مس إيفا كروس من منزلها، ولم تدر حينئذ أن حبيبا آخر يترقبها عن بعد وهو في ثوب رمادي وقبعة رمادية أيضا، وقد تتبعها حتى أدركها قبل أن وصلت إلى مدخل محطة «القطار النفقي» (وهو قطار كهربائي يسير في نفق تحت شوارع نيويورك)، فلما وقعت عينها على عينه ابتسمت له ابتسامة ضعيفة فحياها، وتقدم ومشى معها؛ فقالت: «أرجو إما أن تسبقني أو أن أسبقك.» - أإلى بناية نادي المراقص حيث كنا أول أمس؟
فامتقع وجهها، وقالت: ليس من مرقص الآن وما أنا متنكرة؛ فلا تذكر لي نادي المراقص بعد الآن. - إذن إلى أين تريدين أن أسبقك أو تسبقيني؟ - أريد أن لا تماشيني الآن، فإما أن تمشي أمامي أو أن تتأخر عني، أو أن تتخذ طريقا غير طريقي. - عجبا! أراك تغيرت علي؛ فكم مرة ماشيتك قبل الآن فلم تتحذري مثل الآن؟ - لا تطل الحديث معي؛ فإني أود أن أبقى وحدي. - فليكن ما تشائين يا أميرتي، ولكن هل آمل بلقاء آخر نتفاهم فيه؟ - لا تتعرض لي في مكان أو زمان حتى أنا أتعرض لك، فلا تمش معي خطوة بعد.
فتركها عند ذاك ودخل إلى محطة القطار النفقي، وفي بضع دقائق كان في جهة من شارع برودواي، فدخل إلى حانة، واختلى في قفص التليفون، وأسقط القرش في الفوهة المهيئة لذلك وتكلم. (وهنا نخبر القارئ أن طريقة المخاطبة في التليفون في أميركا ميسرة جدا، فأينما كنت ورغبت أن تخاطب أحدا في التليفون تجد على كل أبواب المحلات العمومية كالحانة والصيدلية والفندق والبقال ... إلخ؛ علامة أن هناك تلفونا عموميا، فتدخل من غير استئذان إلى قفص التليفون (وهو شبه خزانة)، وتقفل الباب عليك، وتخاطب من تشاء من غير أن يسمع أحد ماذا تتكلم.)
وبعد أن تكلم بضع كلمات خرج، ودخل في باب بناية كبيرة عليها رقم 160، وصعد إلى الطبقة التي فيها مراحيض ودخل إلى مرحاض، وفي هنيهة سمع صوتا خافتا يغني، فجاوبه على غنائه، فدخل صاحب الصوت إلى مرحاضه، دخل بثوب أسود وبلا قبعة، وفي دقيقة خرج بثوب رمادي وقبعة رمادية، وبقي الأول في المرحاض وقد أوصده من الداخل، وبعد برهة عاد الذي خرج بالثوب الرمادي، ونقر على المرحاض نفسه 3 نقرات، ففتح ذاك له فدخل، وفي دقيقة خرج بثوبه الأسود وبلا قبعة كما كان قبلا، أما الأول فبعد هنيهة خرج ومضى إلى جهة أخرى من المدينة.
في الشارع الثامن مخزن كبير للجواهر والحلي باسم «أفلن وشركاه»، ففي ذلك الحين دخل إليه رجل، فاستقبله مدير المحل بالترحاب قائلا: أهلا يا مستر هوكر.
فتقدم إليه ذاك باسما وصافحه قائلا: بعت أمس خاتما وسوارا، أما هذا الخاتم فلم أقدر أن أبيعه؛ لأن بعض حجاره مكمدة، فأرجو أن تسترده كما اتفقنا، وهاك 320 ريالا بقية حسابي.
فتناول أفلن الخاتم والنقود منه باسما، وقال: إني مستعد أن أسترد كل حلية لا تقدر أن تبيعها يا مستر هوكر؛ تسهيلا للمعاملة فهل تريد شيئا آخر؟ - أريد أن تعطيني الدبوس الألماسي الثمين الذي أعجب مس كروس. - هل وجدت من يشتريه؟ - مس كروس نفسها تشتريه الآن إن شاء الله، وقد أتيت من قبلها لكي آخذه إليها لتراه ثانية الآن، فكم تدفع لي عمولة؟ - أدفع لك 5 بالمائة. - بل تدفع 10. - ثمنه عشرة آلاف ريال، فيكفيك منها 5 مائة. - بل ألفا تعطيني. - خذ 700 ريال، خذ 750. - كلا، تعطيني ألف ريال إذا بعته بعشرة آلاف، وليس غيري من يضمن لك بيعه لهذه المفتونة، ولي الأمل أن أتوصل بواسطتها إلى غيرها من الغنيات المفتونات مثلها، ولا سيما حين ينظرن هذا الدبوس على صدرها، فيسهل علي جدا حين ذاك أن أبيعهن حليا كثيرة.
ففكر المستر أفلن هنيهة، وقال له: «أمهلني لحظة.»
ثم ذهب إلى التليفون، وطلب رقم مس إيفا كروس، وعند ذلك جرى الخطاب التالي في التليفون: حضرتك مس كروس؟ - نعم، من أنت؟ - هنا محل أفلن وشركاه. - حضرتك المستر أفلن نفسه؟ - نعم، هل قررت أمرا بشأن الدبوس المعلوم؟ - أريد أن أراه ثانية، فقد وعدني المستر هوكر أن يأتي به إلي في هذا الوقت، أفما مر بك؟ - نعم، هو هنا الآن. - إذن أرسل لي الدبوس معه؛ لأني وعدته أن يتم الشراء عن يده، وإني أرى هذا الفتى مهذبا؛ فأريد أن ينتفع قليلا، كم هو الثمن النهائي للدبوس؟ - أحد عشر ألف ريال يا سيدتي. - هو يقول إنه يمكنني أن أشتريه بقيمة عشرة الآف ريال فقط، فهل تعني أنك تبتغي أن تحصل عمولة هوكر مني؟ - كلا، ولكن ... - أنت حر أن ترسله أو لا.
وعند ذلك شعر أن بوق الجانب الآخر من التليفون عاد إلى مكانه كأن مخاطبته استاءت، فعاد إلى هوكر محمر الوجه وناوله الدبوس قائلا: عسى أن تعود إلينا اليوم بتحويل بقيمة عشرة الآف ريال. - ليس اليوم بل غدا الساعة العاشرة على الأرجح.
عند ذلك خرج هوكر بالدبوس وبلاك يقول في نفسه: «إذا بقي هذا الفتى سائرا على هذه الخطة يتحبب للمثريات ويحببنه، فقد أبيع كل بضاعتي وتربح ألفي ألفا.»
الفصل الرابع
الدبوس والأحد عشر ألفا
نحو الساعة الثامنة مساء دخل جاك هوكر إلى منزل مس إيفا كروس، فاستقبلته هذه على الرحب والسعة، ودخلت به إلى القاعة، وهمت أن تقبله، فنفر منها قائلا: بربك مس كروس لا تجربيني.
فقالت عابسة: هل ندمت على حبي وتأسفت على وعدك؟ - كلا، بل آسف أني لم أعرفك منذ أول صباي، فتهللت قائلة: إذن لماذا تضن علي بقبلة دفعت ثمنها 50 ألف ريال اليوم؟ - لم تدفعي الخمسين ألف ريال ثمن قبلات يا عزيزتي، بل افتديت بها قلبا منكسرا. - إذن رأيت مسز هوكر اليوم بعد الظهر؟ - بالطبع، رأيتها مقطبة عابسة فسألتها : ما الخبر؟ فقالت إنها كانت زائرة لك اليوم، وعرفت ما بيننا من الحب والغرام، فسألتها: كيف عرفت ذلك؟ فقالت إنك ساومتها على طلاقي بمبلغ كبير وأرتني بعض المال، فقلت لها متهللا: «يسرني أن تكوني راضية»، فهاجت وسخطت علي فقلت لها: «لماذا تسخطين وبأي حق تستشيطين، وقد قبلت بدلي ثمنا؟!» - وماذا أجابتك حين قلت لها ذلك؟ - عادت تنحب وتقول: «إذا كنت تحبني فأتفل على ألوف الريالات، ها الخمسون ألف ريال ردها لمس كروس وحبني ولو شهرا، وأرضى بعده أن أموت.» - إذن لا تزال تحبك، فماذا أجبتها؟ - رق قلبي لها، ولو لم أتذكرك لدنوت منها ومسحت دموعها.
فهجمت عليه مس كروس وضمته وقبلته بالرغم منه، وقالت: بربك لا تقابلها بعد. - لا بد من مقابلتها الليلة بعد؛ لأنها لم تزل زوجتي حتى غد الساعة العاشرة. - هل رضيت أن تذهب غدا معك إلى المحكمة للطلاق؟ - بعد جدال طويل لم تر بدا من ذلك؛ لأنها يئست من حبي لها، ووجدت في ألوف الريالات تعزية عظمى.
فابتهجت قائلة: إذن صرت في حكم الزوج لي. - غدا بعد الظهر يا حبيبتي الساعة الواحدة أكون هنا لنذهب معا لأخذ الرخصة.
فطوقت خصره بذراعها، ورامت أن تقبله وهي تقول: إذا كنت تضن علي بالقبلات، فكيف تبرهن أنك مخلص في حبي؟
فتناول جاك من جيبه الدبوس الألماسي، وقال: هاك هديتي لك برهانا.
فدهشت، وقالت: من قال لك أني أحببت هذا الدبوس؟! - أعلم ذوقك وما رأيته إلا شعرت أنه لا يليق إلا لهذا الصدر الناهض.
فابتسمت، وقالت: هل اشتريته لي؟ - لا أشتريه لسواك. - هل دفعت ثمنه؟ - لا تهتمي بأمر ثمنه. - أنا أعلم أنك ظلمت نفسك، فإن ثمنه لا يقل عن 12 ألف ريال؛ فاعذرني إذا استأذنتك أن أدفع ثمنه أنا. - ولكن لا يبقى هدية مني. - أنا أحسبه كذلك، وحسبي أنك افتكرت أن تقدم هذه الهدية الثمينة لي، وما الفرق أن تدفع ثمنه أنت أو أنا وكلانا واحد؟ - ولكن حتى الآن وأنا أقدم الهدية لم نزل اثنين. - مهما يكن الأمر فإن ثمن هذا الدبوس لم يزل كله أو بعضه دينا عليك، ولا أريد أن تكون مديونا لأحد، فخذ تحويلا بقيمة ثمنه. كم ثمنه؟ - صاحبه يطلب 11 ألف ريال، وأنا لا أريد أن أدفع له إلا عشرة آلاف. - إذن لم تشتره بعد؟ - بل اشتريته، فإن أبى إلا 11 ألفا أضطر أن أدفعها له.
وهمت أن تكتب تحويلا فقال: ماذا تفعلين؟ - أكتب تحويلا بقيمة 11 ألف ريال.
قال: اكتبي التحويل «لناقله»، فأقبض القيمة، وغدا آخذ له الدبوس وعشرة آلاف ريال، فمتى رأى الفلوس يرضى بها دونه، وإن أصر أدفع له الباقي أو بعضه.
الحب يعمي البصيرة حتى البصر؛ فكانت إيفا كروس وهي في إبان حبها كالطفل بين يدي أمه مهما أمرته يفعل راضيا مسرورا، فكتبت في الحال تحويلا «لناقله» بقيمة 11 ألف ريال، ودفعته لجاك هوكر عشيقها، فألقاه إلى جانبه غير مكترث به كأن نفسه شابعة من الفلوس، والتفت إليها فرأى لهبات الوجد تكاد تندلع من لحظيها، فرمى كفه في كفها، فقبضت على كفه بكل قوتها وجذبته إليها، وقبلت فمه حتى كادت تحرقه أنفاسها الحارة، فما شفت منه غليلا حتى نشأ فيها غليل جديد، ولكنه أشغلها برهة بالحديث عن مستقبلهما، ثم ودعها وأخذ معه الدبوس والتحويل، وانصرف على موعد لقائها غدا الساعة الواحدة بعد الظهر.
الفصل الخامس
قلق إيفا وأفلن
دقت الساعة العاشرة صباح اليوم التالي، فالتفت المستر أفلن إلى الباب، كأنه يتوقع دخول المستر هوكر حسب الاتفاق بينهما، ولا سيما لأنه تعود منه فيما مضى المحافظة على المواعيد بالضبط، ولكنه لم ير أحدا داخلا؛ فقال في نفسه: «لا بد أن يكون قادما الآن.» فنهض من مكانه وتمشى ببطء نحو الباب، ثم خرج وتلفت هنا وهناك، فلم ير هوكر قادما، فعاد إلى مكانه، والتفت إلى الساعة فإذا بها صارت 5 دقائق بعد العاشرة، فقال في نفسه: «لعل له عذرا ونحن نلوم؛ الفتى أمين، وقد اختبرناه بضع مرات.»
مر نصف ساعة بعد العاشرة وهوكر لم يعد كما وعد، وحاول أفلن مرتين أن يمسك بوق التليفون لكي يخاطب مس إيفا كروس؛ فخشي أن يسوءها، ولكن لم يعد يطيق صبرا؛ فطلب رقم تلفونها، وفي الحال جرى بينهما الخطاب التالي: مس إيفا كروس؟ - نعم، من أنت؟ - أنا المستر أفلن، نهارك سعيد مس كروس. - نهارك سعيد مستر أفلن. - لا بد أن تكوني قد رأيت الدبوس الآن أجمل منه قبلا.
فقالت إيفا في نفسها: «يظهر أن هوكر أخبره شيئا عن علاقتنا المستقبلة؛ فلا بأس لأني سأكون قريبا زوجته.» ثم أجابت المستر أفلن: الحق أن دبوسا كذاك كلما نظرت إليه ازددت حبا له.
فتنهد أفلن الصعداء كأن هما كان على صدره فزال، فقال: إذن قررت أن تشتريه؟ - أما وصل إليك المستر هوكر بثمنه؟ - كلا، كان المنتظر أن يأتي الساعة العاشرة والآن الدقيقة 40 بعد العاشرة. - لعل أمرا فوق العادة أعاقه.
وفي الحال تصورت تلك الغبية المفتونة هوكر وزوجته في المحكمة يتطلقان، وقالت في نفسها: «عجيب كيف يعده أن يعود إليه الساعة العاشرة، وهو يعلم أن عنده موعدا آخر في المحكمة.» فقال أفلن: إذن؛ ننتظره بعد. - بالطبع.
ولما حانت الساعة الواحدة بعد الظهر جعلت مس إيفا كروس تتوقع قدوم المستر هوكر الدقيقة بعد الدقيقة، وفي إبان قلقها ووجدها سمعت الجرس يقرع؛ فخفق قلبها فرحا، ولكن وفي لحظة انقلب فرحها إلى غم؛ إذ دخلت الخادمة، وقالت: مستر أفلن يريد مقابلتك مس كروس. - ماذا يريد؟ أدخليه إلى القاعة.
ولما دخلت إلى القاعة وجدت المستر أفلن لا يزال واقفا وهو مضطرب، فقالت: ألم تر المستر هوكر؟ - ولا أثره ولا سمعت بخبره.
فاسودت الدنيا في عيني مس كروس، وقالت: لا بأس؛ لعل له عذرا. - لعل ذلك يا مس كروس، ولكن التاجر الذي له عشرة آلاف في غير بنكه أو خزنته كالمريض الذي له روح في يد عزرائل؛ فأرجو من فضلك أن تسألي بنكك الآن إذا كان قد صرف تحويلا لأحد باسمي. - التحويل ليس باسمك بل باسم المستر هوكر نفسه. - فبالأولى إذن يجب أن تسألي عن فلوسك. - أما أنا فلست خائفة؛ لأني أعرف أن المستر هوكر يؤمن على كل ثروتي.
ورأى المستر أفلن في ملامح إيفا كروس عبوسة وشبه غضب، فاحتار كيف يخاطبها؛ فتردد في الخطاب قائلا: إذا كنت لا تخافين على فلوسك في يد المستر هوكر؛ فبالأحرى أنا لا أخاف على دبوسي وهو في مأمن عندك. - ليس لك أن تقول لي هذا القول، بل تقوله للذي بعته الدبوس، وإذا كنت تستخونه فلماذا سلمته إياه من غير أن تقبض ثمنه؟!
فخفق قلب أفلن جزعا، وشعر أن دبوسه صار تحت خطر فقال: سواء استخونته أو ائتمنته؛ فالدبوس أصبح في مأمن عندك يا مس كروس. - كلا، ليس الدبوس عندي بل لا يزال مع المستر هوكر. - كيف ذلك؟ قلت لي أنك أرسلت لي ثمنه مع المستر هوكر. - الدبوس وثمنه كلاهما مع المستر هوكر ليعرضهما عليك؛ لتختار إما الدبوس أو العشرة آلاف ريال. - ولكن لا داعي لهذا التخيير، فقد اتفقنا على عشرة آلاف، ومع ذلك فقد فات الوقت المعين 3 ساعات، وإلى الآن لم أحصل لا على العشرة آلاف ولا على الدبوس. - لعل الرجل منشغل بأمر ضروري، فلا تلمه إذا لم يوافك في الموعد المقرر، وزد على ذلك فإني أعهده فتى أمينا فلا تخف منه. - على أي حال لا أخاف يا مس كروس؛ لأني سلمته الدبوس بناء على أمرك فهو ... - بناء على أمري! متى أمرت؟ - أمس في مثل هذا الوقت تقريبا. - أنا! أمس! لا تمزح يا مستر أفلن. - بل أنت تمزحين مس كروس.
وبدت علائم الغضب والاضطراب على الاثنين.
فقالت: أرجو أن تسترد كلامك مستر أفلن؛ لم أعتد أن أمزح معك قبل الآن. - إذا كنت لا تمزحين مس كروس فإنك تنكرين. - أنكر ماذا؟! - تنكرين أنك أمرتني تلفونيا أمس أن أرسل لك الدبوس مع مستر هوكر! - أنا كلمتك تلفونيا أمس؟! - نعم؛ أنا كلمتك أولا وأخبرتك أن المستر هوكر جاء إلي من قبلك؛ لكي يأخذ الدبوس إليك لتريه ثانية. هل نسيت؟!
فأوجست مس إيفا شرا من المستر أفلن، وظنته يلعب عليها دورا؛ لأنها حتى تلك الدقيقة لم تشك بإخلاص هوكر وأمانته، وقالت: تقول أنك كلمتني في مثل هذا الوقت.
فالتفت إلى ساعته ، وقال: ليس مثل هذا الوقت تماما، بل كان ذلك نحو الساعة الثانية ونصف على الأرجح. - في ذلك الحين لم أكن هنا في البيت. - إذن؛ من خاطبني من هنا؟ - لا أدري.
فكاد المستر أفلن يجن من شدة قلقه، وقال: راح دبوسي إذن يا مس كروس راح دبوسي، بربك حققي بين الخدم هنا عمن خاطبني في التليفون أمس.
فاستدعت إيفا وصيفتها، وسألتها إن كان أحد قد طلب مخاطبتها أمس وهي غائبة بعد الظهر، فأجابتها تلك: نعم، سمعت جرس التليفون يقرع نحو الساعة الثانية ونصف فوافيت إليه، فوجدت السيدة التي تركتها هنا أمام التليفون، فلما رأتني قالت: إن خادمتها تخاطبها فعدت إلى شغلي ولم أعبأ، وغير ذلك الحين لم يخاطبنا أحد تلفونيا في غيابك.
عند ذلك أمرتها إيفا أن تعود إلى مكانها، والتفتت إلى أفلن وهو ينظر إليها، وكلاهما متحيران، ثم سألها: من هي تلك السيدة التي خاطبتني بلسانك إذن؟
فاحتارت إيفا ماذا تجيب وشق عليها أن تظن السوء بهوكر وزوجته فبقيت ساكتة، فقال لها: مس إيفا أرجو منك أن تخبريني من كانت تلك السيدة، فإن عشرة آلاف ريال قسم كبير من رأس مال تجارتي.
فخافت إيفا أن يسيء أفلن الظن بها أيضا، فأجابته هي زوجة هوكر نفسه.
فصاح الرجل مضطربا: ذلك اللعين وزوجته خاناك وخاناني، فهي تأخذ الدبوس، وهو يأخذ العشرة آلاف ريال.
وعند ذلك نهض أفلن وهرول مسرعا من غير أن يودع مس كروس، أما إيفا فراحت سكرتها وجاءت فكرتها، وهي لا تكاد تصدق أن هوكر يلعب عليها هذا الدور، فاستدعت خادمها وأمرته أن يذهب إلى منزل 28 غربا في شارع 110، ويسأل إن كان يسكن فيه رجل وزوجته باسم هوكر، وإذا كان أحدهما هناك يستدعيه أو يستدعيها إليها.
فذهب الخادم وبعد برهة عاد وقال لها: إنه ليس بين السكان في ذلك الرقم أحد باسم هوكر، ولكن إحدى ربات المنازل هناك قالت: إن سيدة استأجرت منها غرفة أول أمس، ونامت فيها ليلة فقط وليلة أمس لم تنم فيها، وأنه ورد إلى المنزل خطاب باسم مسز هوكر فادعته تلك السيدة، وبعد أن أخذت ذلك الخطاب خرجت ولم تعد، والظاهر أنها لن تعود؛ إذ أخذت حقيبتها معها.
فتأكدت مس كروس حينئذ أن هوكر وزوجته لعبا عليها دورا هائلا، ولكن الواحد والستين ألف ريال لا تهمها، فلم تشأ أن تحرك ساكنا لئلا تفضح أمرها.
أما المستر أفلن فخرج من عندها، وفي الحال أبلغ الأمر إلى مدير البوليس بالتفصيل.
الفصل السادس
مؤتمر العصابة
بعد أن خرج مستر هوكر في الليلة السابقة من عند إيفا، وقد تركها ملأى حبا وسعادة ذهب إلى «تشيناتون». أما تشيناتون هذه (ومعناها بلدة الصينيين) فهي جزء من القسم الشرقي من نيويورك، ومعظم سكانه صينيون، وفيه يرتكب كثير من الفظائع.
ذهب هوكر إلى هناك نحو الساعة الحادية عشرة، ودخل منزلا حقيرا؛ فوجد خمسة ينتظرونه بينهم امرأة، فحياهم بمثل الهمس، وقال: يجب أن ننقص واحدا الآن.
فقال أحدهم: بالطبع لست أنا الذي يجب أن يحذف. - لا أعني أن يحذف أحد، بل أن يبرح واحد منا هذه المدينة.
فقال آخر: هل تريد أن أبرح أنا؟
أجاب: كلا، بل تبرح ألما.
فقال واحد: لا غنى لنا عنها.
قال: لا بد من سفرها الليلة؛ لأنها لا تقدر أن تتقي تجسس البوليس السري، ولأن الدبوس يجب أن يكون معها، فلا تستطيع أن تعرضه على صائغ هنا لكي يفك حجاره.
فقال آخر: ولماذا لا نبرح كلنا؟! فإن 61 ألف ريال ودبوسا تكفينا قسطا من نيويورك، فالأفضل أن ننتقل الآن إلى بلد آخر.
فقال هوكر: لماذا نبرح نيويورك العظيمة، وحتى الآن لم يظهر منا في مرسح النصب إلا اثنان أنا وألما. أما ألما فتبرح الليلة إلى نيو أورلينس، وأما أنا فلا أبرح حتى أتمم أدواري كلها، وأشغل صحف أميركا شهرين والبوليس السري عامين.
فقالت ألما: أتعني أني أنتظر هناك. - نعم، تنتظرين هناك إلى أن يرد لك خبر جديد مني، فإذا أرسلت لك تلغرافا أقول فيه: «انتظري تلغرافي من مونتغمري» مثلا كان المعنى أن تذهبي إلى هناك في الحال، تنتظرين رسائلك وتلغرافاتك في دار البريد، تستوطنين كل 3 أيام في مكان، والآن وزعي على كل منا حصته من النقود التي معنا، وها الدبوس خذيه، ولا تحسبي حسابه حتى تباع كل جواهره فهو أمانة معك الآن، ونكل إلى مهارتك أمر فك جواهره وبيعها.
فقالت ألما: ولكن تعلمون أن جواهره منفصلة لا تساوي أكثر من ثلثي ثمنه الأصلي.
فقال أحدهم: ليس أحد منا يستخونك فلك أن تتصرفي بحكمتك.
وعند ذلك وزعت ألما على كل نصيبه من غنيمة ذلك النهار، ثم قال أحدهم: يبقى الآن أن نعلم ما هي واجباتنا غدا، والبوليس يبحث عن مستر هوكر.
فأجاب هوكر: غدا لا يهتدي البوليس إلى جاك هوكر حتى الساعة الخامسة أو السادسة.
فقالت ألما: وهل يقبض عليك؟
أجاب: من غير شك يا عزيزتي.
قالت: لا أفارقك. - بل تفارقينني لأنني أبقى في إدارة البوليس حتى ضحى اليوم الثاني، ومن ثم أخرج وعلى أثر خروجي يختم الدور الثاني أو بالأحرى الثالث أو الرابع إذا حسبت أننا لعبنا على مس كروس دورين وعلى أفلن دورا.
قالت: ولماذا يقبض عليك مساء حتى تنام في السجن؟ فدع القبض يتم صباحا لكي تخرج مساء. - تعلمين أن البنوك تقفل الساعة الثالثة، فيجب أن أخرج الظهر على الأكثر؛ لكي أقبض من البنك تحويلا كبيرا إن شاء الله.
فالتفت الإخوان بعضهم إلى بعض كأنهم يستغربون، وقال أحدهم: لا علم لنا بهذا التحويل.
قال: لأنه لم يكتب بعد. - لهذا سألنا ماذا علينا أن نفعل غدا؟ - ليس عليك إلا أن تبقى كاتبا أول في مكتب جان شفلر السمسار، وعلى نوبلي أن يبقى الكاتب الثاني. وأما زيمر وبهل فيبقيان بعيدين لا نعرفهما ولا يعرفاننا حتى يعلم زيمر أني خرجت من دار البوليس فيقابلني في الحانة المعتادة. بقي أن أسألك يا ألما: هل استحضرت لي محلول يودور البوتاس؟
أجابت: نعم، ها هو وبعض القطن أيضا. - إذن تعالي أزيلي به هذه النقطة السوداء من يمين عنقي.
وتقدمت إليه وهي تقول له: هل تؤكد أنه يزيله؟
أجاب: لو كنت كيماوية لعرفت أن سواد نترات الفضة لا يزيله عن الجلد إلا محلول يودور البوتاس. - صدقت صدقت، أتذكر الآن أني أعرف امرأة كانت تصبغ شعرها بمحلول فيه نترات الفضة، فإذا أصاب أصابعها منه شيء مسحتها بمحلول يودور البوتاس، وبعد أن أنجزت ألما هذه العملية قبلته، ثم التفت هوكر إلى زيمر، وقال له: هات تقريرك يا زيمر. - أي تقرير تعني؟ - أما ذهبت هذه الليلة إلى ملعب مديسون سكوار غاردن. - نعم ذهبت، وتقريري سطران ها هما: ودفع له ورقة صغيرة، فأودعها هوكر في جيبه بعد أن قرأها، ثم جعلوا يخرجون الواحد بعد الآخر كل إلى مكان.
الفصل السابع
القبض على هوكر
في مساء اليوم التالي الذي أخلف فيه هوكر بوعده لمستر أفلن ولعاشقته المفتونة مس إيفا كروس، كان دويل الكاتب في محل أفلن وشركاه مارا أمام حانة بالقرب من المحل المذكور، فأبصر شخصا يدخل الحانة، فاشتبه أنه جاك هوكر، فأسرع إلى المستر أفلن وأخبره، فأوعز هذا إلى مركز البوليس، فأسرع بضعة من الشرطة إلى الحانة يصحبهم أفلن بنفسه، وأشار إلى شخص واقف بين الشاربين، فقبض عليه بعض الشرط، وقاده إلى المخفر وهو يقول لهم: «لماذا تقبضون علي؟ ماذا أجرمت؟» فكانوا يقولون له: «ستعلم في المخفر.» أما أفلن فكان يقول له: إن كنت يا خبيث قد دهورت الدبوس، وبذرقت الفلوس؛ فسأقبض على روحك يا لعين.
وكان لما سمع المقبوض عليه كلام أفلن جعل يقول للشرطي القابض عليه: ماذا يعني هذا الرجل فيما يقول، ألأجل دعواه تقودونني إلى المخفر؟ إما أنه مجنون أو أنه غلطان، ما أنا المطلوب.
ولما وصلوا إلى المخفر به أحضروه لدى المستر بنهام رئيس البوليس وأفلن يتبعه، وكان مدير البوليس قد عرف التهمة من قبل؛ إذ أبلغها إليه أفلن نفسه - كما علم القارئ - ثم جعل المدير يستجوبه فسأله: ما اسمك؟ - جان شفلر.
فنظر فيه المدير جيدا، وقال: اسمك جان شفلر! - نعم، وهل من غرابة في اسمي؟! - كلا، ولكن أجان شفلر أم جاك هوكر؟ - قلت لك إن اسمي جان شفلر، فلماذا تختلق لي اسم جاك هوكر؟ - لأن هذا هو اسمك، وأنت تختلق جان شفلر اسما جديدا لك.
فنظر فيه هوكر أو شفلر نظرة المستغرب المتعجب، وقال: ما أدري ما هي وظيفتك يا هذا. - أنا مدير البوليس والآن أستجوبك. - حسن جدا، سألتني ما اسمي، فقلت لك: جان شفلر؛ فكذبتني وقلت إني جاك هوكر، فإن كنت أعرف عني مني فلا تسلني، أو سلني وجاوب عني. - ولكن، أليس اسمك جاك هوكر؟ - قلت لك: إن اسمى جان شفلر، يا الله! أليس للفرد أن يحافظ على اسمه؟! ومتى جاز لمدير البوليس أن يجرده من اسمه؟!
وكان أفلن ينظر إليه ويتميز غيظا، فالتفت إليه مدير البوليس وسأله: هل تعرف هذا الشخص؟ - نعم، أعرفه جيدا واسمه جاك هوكر لا محالة.
وكان جان شفلر ينظر مبهوتا تارة إليه وتارة إلى مدير البوليس، ثم سأله مدير البوليس: هل تعرف هذا الرجل؟ - كلا، لم أعرفه قط ولا أذكر أني رأيته في حياتي، فلا شك أنه مجنون.
وكان أفلن يحرق الأرم عليه؛ فقال: لا ريب أني كنت مجنونا حين سلمتك الدبوس بلا ضمانة.
فقال مدير البوليس: أنا الذي أستجوبك فجاوب على أسئلتي، ماذا تشتغل؟ - أشتغل بسمسرة الأراضي في «لون آيلند» (لون آيلند جزيرة محاذية لنيويورك)، ولي مكتب مستقل في 160 من شارع برودواي. - هل يعرفك أحد تشتغل بهذه المهنة؟ - بالطبع؛ عندي كاتبان وزبائن، وأمس عقدت شركة مع اثنين على أرض للبناء في «لون آيلند».
وكان أفلن ينظر إليه مستغربا، ثم سأله المدير: أما اشتغلت بتجارة الحلي؟! - كلا، البتة. - ألم تعتد أن تبيع بعض السيدات حليا؟ - كلا كلا، شغلي سمسرة الأراضي فقط. - هل تعرف محل أفلين وشركاه؟ - هل هو محل سمسرة؟
فقال أفلن مستشيطا: يا الله من قحته! يتجاهل أيضا.
فقال له المدير: بل هو مخزن حلي وجواهر. - لا رغبة لي في الحلي والجواهر؛ ولهذا لا أعرفه ولا أعرف سواه من زملائه. - ألم تذهب إليه أمس بعد الظهر الساعة الثانية؟ - لا أعرفه قط؛ فكيف أذهب إليه؟! - إذن تنكر كل شيء؟ - لم أنكر شيئا قط، فقد أجبتك حسب أسئلتك. - هل تعرف سيدة تدعى مس إيفا كروس؟
ففكر شفلر هنيهة وهز رأسه قائلا: لا أعرف سيدة بهذا الاسم البتة. - هي تسكن في الأفنيو الخامس (موطن الأغنياء). - لا أعرف أحدا هناك، والأغنياء لا يمكنهم أن يكونوا زبائني؛ لأن شغلي مع الطبقة الوسطى.
فالتفت المدير إلى أفلن؛ فبادره هذا بقوله: إن مستخدمي الثلاثة هنا ينتظرون أن تدعوهم لكي تستجوبهم.
فاستدعاهم المدير واحدا واحدا، وسأل كلا منهم نفس الأسئلة، فنال تقريبا نفس الأجوبة. سألهم إن كانوا يعرفون ذلك الشخص الذي يدعي أن اسمه جان شفلر.
فأجاب كل منهم: نعم؛ أعرفه. - كم مرة رأيته؟ - لا أقل من 3 مرات في محلنا. - لماذا؟ - كان يأتي فيشتري بعض خواتم ودبابيس وشنوفا، وأخيرا أخذ الدبوس النفيس لكي يريه لمس إيفا كروس.
فنظر المدير إلى شفلر، وقال له: ماذا تقول يا هذا فيما قرره هؤلاء عنك؟
فلمس شفلر جبينه بيده، وقال: لعلي أنا في حلم الآن، ولكني ألمس جبهتي بيدي، فأتأكد أني في يقظة، فإما أني مجنون وأتوهم ما أسمع توهما، أو أن هؤلاء مجانين لا يفهمون ماذا يقولون، لا أعرف أحدا منهم، فهم من غير شك إما منافقون أو مجانين.
فقال المدير: وهل عندك من يثبت دعاويك؟ - من غير بد، آتيك بألف شخص يعلمون أني أنا جان شفلر السمسار، ومحلي في 160 برودواي. - ولكن هذا لا ينفي أنك كنت تتردد إلى محل مستر أفلن باسم جان هوكر، وقد أخذت منه دبوسا بقيمة 10 آلاف ريال، وأنت تتوارى بهذا الاسم. - نعم، ولا ينتفي أيضا أن يكون مستر أفلن وكتابه مدعين علي زورا. - تقول إنك لا تعرفهم البتة، فلماذا يدعون عليك دون سائر الأنام؟! - لا أدري لماذا وقع اختيارهم علي، ولكني أقدر أن أقدم تقريرا عن حياتي كلها وأثبت طهارتها. - لا يهمنا تاريخ حياتك، بل يهمنا أن نعلم أين كنت أمس بعد الظهر؟ وماذا فعلت؟ - حسن جدا، كنت في مكتب المستر جوزف بلاك المحامي في 310 برودواي، وبقيت هناك منذ الساعة الواحدة حتى الثالثة ونصف تقريبا. - هل عندك شهود على ذلك؟ - نعم، المحامي وكتابه والمستر إبراهام بكاروف، فقد كنت معهم كل الوقت.
فنظر المدير إلى أفلن كأنه يسأله رأيه؛ فقال: يجب أن يستدعى كل هؤلاء.
فقال المدير بنهام: غدا نستدعيهم ونستدعي غيرهم؛ لأنه يتعذر استدعاؤهم الآن، ولهذا نرجئ التحقيق إلى الغد.
فقال شفلر: لا بأس، وأنا! - تبقى سجينا للغد. - أقدم كفالة. - لا أقبل كفالة قبل استيفاء التحقيق. - إن هذا لظلم واضح. - أتريد أن تخرج لكي تدبر شهود النفي؟ - إنك تهينني يا هذا. - لا هوان للوقح. - غدا متى انجلى التحقيق تندم على هذا القول.
ثم أمر بنهام فأخذه الشرطة إلى سجن المخفر.
بعد ذلك كتب مدير البوليس قائمة بأسماء الأشخاص الذين استشهد بهم شفلر أو هوكر وأفلن، وأخذ عنواناتهم، وأرسل إليهم يستدعيهم في صباح اليوم التالي.
الفصل الثامن
التحقيق
في صباح اليوم التالي، كان المستر بنهام مدير البوليس جالسا إلى مكتبه، وقد استدعى إليه جان شفلر من السجن والمستر أفلن، وكان مستخدمو أفلن ومس إيفا كروس، وكاتبا شفلر هارتمان ونوبلي، والمحامي جوزف بلاك وكتبته، والمستر إبراهام بكاروف ينتظرون خارج المكتب في قاعة المخفر؛ فاستدعى المدير أولا مس إيفا كروس، فلما دخلت ووقعت عينها على عين شفلر رأت رجلا طلق المحيا باسم الثغر؛ فتذكرت حبها له وتحول غيظها إلى رضى وقساوتها إلى حنو، ونظرت إليه نظرة المستغيثة بحبه، وهو نظر إليها نظرة الاحترام والإعجاب. وبالطبع، كان قد بلغها أن هوكر أنكر اسمه وادعى لنفسه اسما آخر، فلما جلست سألها المدير: «هل تعرفين هذا الرجل؟» فنظرت إلى شفلر كأنها تستفتيه ماذا تجيب، فلم تر منه إشارة قط تستطيع أن تفهم منها شيئا، بل كان ينظر إليها كأنه ينتظر ماذا يكون جوابها، فلما ترددت قليلا قال لها المدير: ألا تعرفينه؟ ألم تريه؟
فقالت: إذا لم أكن غلطانة فأعرفه. - من هو؟ ما اسمه؟
فاستغربت إيفا كروس نظرات شفلر لها التي تدل على عدم معرفته إياها، وقالت بنفسها: أحقيقة أنه ليس جاك هوكر أم هو مقتدر بهذا المقدار في تنكير نفسه؟! فقالت: أعرف شابا بهذه الملامح نفسها من غير فرق تقريبا يدعى جاك هوكر.
فقال لها أفلن: هو جاك بعينه، ألا تعرفينه جيدا؟
فقال مدير البوليس: «أرجو ألا تتداخل في التحقيق يا مستر أفلن.» ثم قال لمس كروس: ألا توكدين أن هذا الفتى هو جاك هوكر بعينه؟ - إذا لم يكن له شبيه فهو جاك هوكر.
ثم التفت إلى شفلر وسأله: هل تعرف هذه السيدة؟ - لم يحصل لي هذا الشرف قبل الآن. - أما رأيتها قبل الآن؟ - لا أتذكر أني رأيت سيدة بهذه الملامح، وأظن أن سيدة محترمة مثلها لا ترى في أي مكان. - أما زرتها في منزلها وأريتها دبوسا ثمينا لتبيعه لها؟ - قلت لك أمس أن لا شأن لي بمسألة الدبوس؛ لأني لست تاجر دبابيس ولا حلي، وأما هذه السيدة فلم يكن لي الشرف أن أعرفها حتى يحق لي أن أزورها في منزلها، أو أكلمها في مكان آخر. - هل تعرف اسمها؟ - إذا كنت لا أعرفها، فكيف أعرف اسمها، ولعلها هي السيدة التي أشرت إليها أمس في استجوابك لي. - من هي السيدة التي ذكرتها لك أمس؟ - لا أتذكر الاسم الذي ذكرته لي، سوى أني أذكر أنها من سكان الأفنيو الخامس.
ثم التفت إليها وسألها: هل أراك هذا الرجل دبوسا؟ - إذا كان هو جاك هوكر فقد أراني مساء أول أمس دبوسا، وقال لي إنه أخذه من محل أفلن وشركاه، وأن ثمنه 11 ألف ريال، ولكنه يبذل جهده أن يشتريه بعشرة آلاف فقط، وأقنعني أنه إذا رأى المستر أفلن العشرة آلاف ريال نقودا في يد والدبوس في يد أخرى يختار العشرة آلاف ريال، وبناء على ذلك أعطيته تحويلا «لناقله» بقيمة 11 ألف ريال؛ حتى إذا لم يرض المستر أفلن العشرة آلاف ثمنا للدبوس زاد له الثمن تدريجا حتى 11 ألف ريال، وخرج من عندي على موعد أن يعود بعد ظهر أمس إما بالدبوس أو بالفلوس. - أتشكين بأنه جاك هوكر؟ - لا أكاد أشك لولا أن صوته ضخم قوي وصوت هوكر ناعم لطيف.
فقال أفلن: لا يتعذر عليه أن يكيف صوته كما يشاء.
ثم قال المدير: هل تحققت إن كان التحويل قد دفعه البنك؟ - نعم! - على أي بنك هو؟ - على بنك نيكر بوكر.
وفي الحال، أرسل المدير إلى البنك يستدعي الصراف الذي صرف التحويل الذي قيمته 11 ألف ريال «لناقله» بإمضاء مس إيفا كروس، ثم سألها: لماذا لم تبلغي البوليس عن هذا الحادث؟
فأجابت: لأني بقيت حتى اليوم واثقة من أمانة الرجل، وظننت أن له عذرا. - متى زارك المستر هوكر لكي يريك الدبوس؟ - الساعة الثانية من مساء أول أمس، وقد بقي عندي حتى التاسعة أو أكثر على ما أظن.
فالتفت المدير إلى شفلر، وقال له: أين كنت في ذلك الحين أول أمس يا مستر هوكر؟ - لو كنت أنا هوكر الذي تزعمونه ما كنت أنكر أني كنت متشرفا بحضرة السيدة الفاضلة، ولكن أنت تعلم - يا حضرة المدير - أني لست هوكر غريمكم، بل أنا جان شفلر، فأرجو ألا توجه إلي سؤالا باسم هوكر. - لا بأس، أين كنت مساء أول أمس؟ - أول أمس تركت مكتبي الساعة السابعة، ثم ذهبت إلى الحانة التي قبض علي فيها أمس وأخذت كأسي بيرا، ثم ذهبت إلى المطعم المجاور وتناولت عشاي، وكانت الفتاة التي تخدم على مائدتي قد رأت معي تذكرة دخول إلى ملعب ماديسون سكوار غاردن، فبسمت لي وأشارت للتذكرة؛ فدعوتها أن تذهب معي وألححت عليها كثيرا، فقالت إنها لا تخرج في ذلك المساء من المطعم حتى الساعة العاشرة، ولكنها في الليلة التالية - أي أمس - تذهب معي إلى أي ملعب، فوعدتها أن آخذها إلى ملعب بيجو، ومن سوء الحظ أن قبض الشرطة علي اضطرني أن أخلف وعدي معها، وها التذكرتان اللتان اشتريتهما صباح أمس من ملعب بيجو لهذا الغرض.
وعند ذلك ناول شفلر المدير بنهام التذكرتين فتأملهما هذا، ثم قال له: وبعد العشاء، ماذا فعلت؟ - بالطبع، ذهبت إلى مديسون سكوار غاردن. - وحدك؟ - وحدي. - لماذا وحدك؟ - لأني عازب، وإلى الآن لم أجد صديقة. - من رأيت في الملعب؟ - ألوفا. - ألم تعرف أحدا منهم. - رأيت المستر جيروم النائب العمومي في القسم الثاني من الجهة الشمالية من الملعب، وكنت أنا عند الزاوية من القسم الأول. - هل رآك؟ - وهب أنه رآني فلا يعرفني. - كيف تعرفه؟ - كثيرون يعرفون جيروم وهو لا يعرفهم. - أما رأيت أحدا غيره ممن تعرفهم؟ - كلا، البتة، وقد نسيت أن أقول لك: إن المستر جيروم خرج من الملعب نحو الساعة العاشرة؛ أي قبل انفضاض الجمهور بنحو ساعة. - ما اسم الفتاة التي دعوتها للملعب؟ - مس فلو. - واسم المطعم؟ - مطعم تشيلد، في الشارع الثامن على زاوية الأفنيو (الشارع الطويل) التاسع.
وفي الحال، أرسل مدير البوليس يستدعي مس فلو، وخاطب المستر جيروم النائب العمومي بالتليفون، وسأله: أين كنت مساء أول أمس؟ فأجابه: في مديسون سكوار غاردن من الساعة الثانية ونصف. - متى خرجت؟ - نحو الساعة العاشرة. - أين كنت جالسا؟ - كنت في القسم الثاني من الجهة الشمالية في الصف الأوسط تقريبا، لماذا تسأل أسئلة كهذه؟ - لأن شخصا هنا يستشهد بك؛ فهل يمكنك أن تحضر دقيقة إلى المخفر؟ - ها أنا حاضر.
ثم التفت إلى شفلر، وسأله: أتذكر في أي صف كان النائب العمومي جالسا؟ - في الصف الأوسط تقريبا.
عند ذلك جاء صراف (نيكر بوكر)، فسأله مدير البوليس: هل صرفت أمس تحويلا «لناقله» بإمضاء مس كروس؟ - نعم. - هل تذكر شكل الشخص الذي قبضه؟ - لعلي أذكره إذا رأيته. - ألا تراه بين الموجودين هنا؟
فهز الصراف رأسه، وقال: كلا.
فأشار المدير إلى شفلر، وقال: «تأمل هذا الفتى.» فتأمله الصراف جيدا، وقال: أتذكر جيدا أن الذي قبض التحويل امرأة لا رجل.
فقالت مس كروس في نفسها: «لا بد أن تكون زوجة هوكر.» بيد أنها لم تشأ أن تصرح بهذا الفكر، ولكن أفلن قال: لا بد أن تكون زوجته.
فقال شفلر: لا زوجة لي.
فقال مدير البوليس: أين تسكن يا مستر شفلر؟ - في ستيفنس هوس (فندق). - من يعرف أين يسكن هوكر؟
فأجاب أفلن: الذي أعهده أنه يسكن في شارع 116، ولكني لم أتذكر رقمه قط، وقد رأيت مرة معه سيدة، فسألته عنها، فقال إنها زوجته.
فقال مدير البوليس للصراف: تؤكد أن هذا الفتى ليس الذي قبض منك ال ... - أحد عشر ألف ريال؟ نعم ؛ أؤكد ذلك؛ لأن مبلغا كبيرا كهذا يستلفت نظر كل صراف لمن يقبضه.
عند ذلك أذن المدير للصراف أن يخرج، فخرج، ثم وصلت مس فلو فسألها: هل تعرفين هذا الفتى؟ - نعم! أعرفه يأكل على مائدتي. - ما اسمه؟ - قال لي اسمه مرة فلم أعد أتذكر. - هل تذكرين أن اسمه جاك هوكر؟ - لا أظن أن اسمه هوكر ولا جاك، سمعت مرة شخصا لا أعرفه يسميه جان، وأما اسمه الثاني فنسيته. - هل تظنين أنه شفلر؟ - أرجح ذلك. - إذن ليس هو صديقك؟ - لا صداقة قوية بيننا سوى أنه أوعدني أول أمس أن يأخذني أمس إلى ملعب بيجو؛ فأخلف بوعده. - لماذا وعدك وما أنت صديقته؟! - لأني رأيت معه أول أمس تذكرة دخول إلى مديسون سكوار غاردن، فحسدته على ذلك، فدعاني أن أذهب معه، ولكني كنت مقيدة بشغلي، فأخبرته أني أكون حرة من شغلي في الليلة التالية، فوعدني أن يشتري تذكرتين من ملعب بيجو، وبعد العشاء يأخذني، فانتظرته من الساعة 7 ونصف على غير جدوى.
فقال لها شفلر: اعذريني مس فلو؛ لم يحل دون إنجازي بوعدي لك إلا طاعة الشريعة التي يجب أن يكون أمرها فوق كل أمر، فغدا أو الليلة - إن أمكن - أكفر عن تقصيري الحتمي.
ثم سألها المدير: أتعلمين أين ذهب بعد العشاء أول أمس؟ - بالطبع ذهب إلى مديسون سكوار غاردن بعد أن دفع ثمن التذكرة ريالين. - متى خرج من المطعم؟ - قبيل الساعة الثامنة.
عند ذلك قدم المستر جيروم النائب العمومي، فسأله المدير مشيرا إلى شفلر: هل تعرف هذا الرجل؟ - كلا! - هل رأيته في مديسون سكوار غاردن؟ - لا أذكر أني رأيته. - كان في زاوية القسم الأول من الجهة الشمالية، أما رأيت هناك شخصا بهذه الملامح؟ - لم ألتفت إلى أحد، وهب أني التفت ورأيته، فلا أقدر أن أتذكر بين ألوف الناس الذين أجهلهم كلهم شخصا لم أعرفه من قبل.
فالتفت المدير إلى المستر أفلن كأنه يسأله رأيه، فقال هذا: كل ذلك لا ينفي أن هوكر خرج من عند مس إيفا كروس الساعة التاسعة، وذهب توا إلى مديسون سكوار غاردن، وهناك رأى المستر جيروم قبل أن يخرج الساعة العاشرة.
فانتبه المدير إلى هذه الملاحظة، وبعد تفكر قليل سأل مس كروس: متى جاء هوكر إلى عندك ومتى خرج؟ - جاء نحو الساعة الثامنة وخرج نحو التاسعة، ثم سأل شفلر ثانية متى ذهبت إلى مديسون سكوار غاردن ومتى خرجت منه؟
قال: دخلت الساعة الثامنة، وخرجت الساعة الحادية عشرة كعادة الناس.
قال المدير وهو مستبشر: حسن جدا، قل لي إذن متى دخل المستر جيروم إلى مديسون سكوار غاردن؟ ومتى خرج؟ - رأيت المستر جيروم يجلس في مكانه نحو الساعة 8 ونصف، ويخرج نحو الساعة العاشرة.
فالتفت المدير إلى جيروم كأنه يسأله هل يوافق على هذا القول؟
أجاب: نعم، كما يقول.
فتحير المدير، وكاد يجن أفلن، وارتابت مس كروس بحقيقة الرجل، ومالت إلى الاعتقاد أن هوكر لا يزال خارجا.
ولكن هل هو ماكر أو أمين لها؟ لا ريب أنه ماكر؛ لأن عدم وجود مسز هوكر في المنزل الذي زعم أنها تقطنه فضح الدسيسة، على أن الحب ما زال يموه على عقل مس كروس المفتونة، ولا زال يحيي الأمل في فؤادها.
أما أفلن فلم يستطع أن يتمالك طبعه، فنهض مستشيطا، وقال: لا أدري ملعب مديسون سكوار غاردن ولا هذا ولا ذاك، أعلم وأؤكد وأقسم أن هذا الرجل أخذ مني بعد ظهر أول أمس دبوسا قيمته عشرة آلاف ريال على الأقل، لا يهمني إن كان اسمه جان شفلر أو جاك هوكر، فقد يكون له اسمان.
فقال المدير: هدئ روعك يا مستر أفلن؛ فإن التحقيق لم ينته بعد. في أي ساعة كان المستر هوكر عندك حين أخذ الدبوس؟ - نحو الساعة الثانية ونصف بعد ظهر أول أمس.
فالتفت إلى شفلر، وقال له: ماذا تقول؟ - كنت في ذلك الحين عند المستر بلاك المحامي.
الفصل التاسع
هل يكون شخص في مكانين؟
استدعي المستر جوزف بلاك المحامي، فلما دخل حيا فحياه المستر جيروم النائب العمومي تحية صديق لصديق مسميا إياه باسمه، ولما جلس سأله المدير بنهام: هل تعرف رجلا باسم جاك هوكر ؟ - كلا. - هل تعرف هذا الرجل (وأشار إلى شفلر)؟ - نعم؛ أعرفه جيدا وهو صديقي. - ما اسمه؟ - جان شفلر. - هل تعلم ماذا يشتغل؟ - يشتغل بسمسرة الأراضي، وله مكتب في 160 برودواي. - متى رأيته آخر مرة؟ - أول أمس بعد الظهر كان عندي. - أية ساعة كان عندك؟ - من الساعة الواحدة ونصف تقريبا حتى بعد الساعة الثالثة. - ماذا كان يفعل؟ - كان هو والمستر إبراهام بكاروف يتفقان معي على شركة على أراض مقطعة للبناء في «لون آيلند». - ولماذا بقي كل هذا الوقت عندك؟ - لأننا تناقشنا في الأمر برهة، ثم كتبت صورة الاتفاق لكي أطلعهما عليها. - أما خرج من مكتبك كل ذلك الوقت؟ - لا أعلم أنه خرج، وكنت معظم الوقت في غرفتي الخاصة، أكتب صورة عقد الشركة، وكان هو والمستر بكاروف في قاعة المقابلة، فكانا يدخلان علي حينا بعد آخر ليناقشاني في بعض مواد العقد؛ ولذلك لا أعتقد أنه خرج من مكتبي حتى بعد الساعة الثالثة على الأقل. ثم استدعي المستر بكاروف، فسأله المدير: هل تعرف هذا الرجل (مشيرا إلى شفلر)؟ - نعم؛ أعرفه، هو شريكي المستر جان شفلر. - هل اجتمعت به أول أمس؟ - نعم، بعد الظهر في مكتب المحامي بلاك؛ حيث تباحثنا في مشروع شركة على أرض مقطعة للبناء في «لون آيلند». - في أي وقت كنتما معا عند المستر بلاك؟ - منذ الساعة الواحدة ونصف حتى بعد الساعة الثالثة. - أما خرج المستر شفلر من مكتب المستر بلاك في خلال ذلك الوقت؟
فهز بكاروف رأسه قائلا: لا. - هل كنتما كل الوقت معا؟
أجاب: تقريبا كنا معا كل الوقت. - لا أفهم معنى لتقريبا، فهل كنتما معا متلازمين مدة الساعتين؟ - كنا برهة في غرفة المقابلة نتناقش مع المستر بلاك في شروط الشركة، ثم دخل المستر بلاك إلى غرفته الخاصة ليكتب صورة العقد، وبعد قليل خطر لي خاطر فدخلت إلى غرفة المستر بلاك وعرضته له فتناقشنا، ثم عدت إلى شفلر لكي أستدعيه، فنتباحث جميعنا في النقطة المختلف عليها، فلم أجد إلا قبعته على الطاولة، فدخلت إلى غرفة الكتبة لعلي أجده هناك، فقيل لي : إنه خرج من هنيهة ليقضي حاجة نفسه؛ لأنه سألهم عن المكان، ثم عدت إلى المستر بلاك وتناقشنا حتى حمي الجدال بيننا، فعدت إلى قاعة المقابلة لأستدعي شفلر؛ فوجدته مكبا يتألم من مغص، فشجعته على احتمال الألم، وأدخلته إلى غرفة المستر بلاك، وهناك سقاه بلاك كأس (وسكي كنادي) لتسكين مغصه، وبقينا نتناقش على كل مادة من العقد حتى انتهينا منه وبيضه الكتبة وأمضينا عليه، وكانت الساعة تناهز النصف بعد الثالثة. - كم هي المدة التي تركت فيها المستر شفلر وحده في غرفة المقابلة؟ - لا أقدر أن أعلمها تماما؛ لأني كنت منهمكا في جدال مع المستر بلاك. - أتظنها تتجاوز نصف ساعة؟ - لا أظنها تبلغ عشر دقائق؛ لأن المرء لا يبقى أكثر من ذلك في بيت الماء، ولا أظنه يخرج إلى الشارع بلا قبعة (ولا يخفى على القارئ أنه متى كان اثنان يتجادلان يمر الوقت بسرعة فلا يشعران). - من هو أحد الكتبة الذي سألته عن شفلر حين لم تجده في غرفة المقابلة؟ - أظنه يدعى المستر أنس.
ثم استدعي المستر أنس؛ فسأل المدير المستر بكاروف: أهذا هو الكاتب الذي سألته عن شفلر؟ - نعم هو.
عند ذلك، استأذن بكاروف المدير أن يعود إلى معمله، فأذن له فانصرف.
ثم وجه المدير الخطاب لأنس قائلا: هل تعرف المستر جان شفلر؟ - نعم، أعرفه. - من هو من الذين ها هنا؟
فدل الكاتب عليه؛ فسأل: أين رأيته آخر مرة؟ - في مكتبنا أول أمس بعد الظهر. - أما خرج من المكتب قط في أثناء وجوده هناك؟ - لا أعتقد أنه خرج إلا برهة قصيرة لقضاء حاجته. - كم هي البرهة التي خرج فيها؟ - لا أقدر أن أعينها لأنه كان جالسا في غرفة المقابلة، ثم قرع جرس تلفوننا، فجاوبت القارع، فسألني عن المستر شفلر إن كان عندنا، فقلت: نعم؛ إنه عندنا. فقال: قل له إن هارتمان كاتبه يريد أن يكلمه، فأتيت إلى المستر شفلر فوجدته وحده في القاعة فاستدعيته، وقبل أن يصل إلى التليفون سألني أين المكان لقضاء الحاجة، فدللته ثم تناول بوق التليفون. - وماذا سمعته يقول؟ - لم أسمع منه إلا كلمة «نعم» بضع مرار متقطعة. - ألم يقل كلمة غيرها؟ - كلا. - وبعد ذلك ماذا جرى؟ - خرج من مكتبنا، وأنا أعتقد أنه خرج لقضاء حاجته ولكني لم أره؛ لأن باب غرفتنا مقفل، فلا نرى من في غرفة المقابلة، ولكن بعد بضع دقائق جاء المستر بكاروف، وسألنا عنه، فقلت: إنه خرج لقضاء حاجته، وبعد ذلك لم أعد أعلم شيئا حتى الساعة الثالثة تقريبا إذا جاء لنا المستر بلاك بصورة العقد لنبيضها.
ثم استدعي هارتمان؛ فسأله المدير: هل تعرف المستر شفلر؟ - نعم، وأنا كاتب أسراره. - أين كان أول أمس بعد الظهر، هل تعرف؟ - أعرف أنه كان في مكتب المحامي بلاك، وقد خاطبته بالتليفون في وسط الساعة الثالثة إلى هناك فأجابني. - ماذا خاطبته؟ - زارنا زبون جديد لا أعرفه يريد أن يشتري أرضا، فأخبرت المستر شفلر عنه، وقلت له: «إنك لا تعود على ما أظن قبل الساعة الرابعة إلى المكتب، فلا يليق أن أدع الرجل ينتظر، فسأقول له أن يأتي غدا.» فكان يوافق على قولي.
وقد استدعي بقية الشهود، فكانوا يؤكدون أنه هو المستر شفلر إلا مستخدمو أفلن، فكانوا يقولون: هو هوكر؛ حتى حار مدير البوليس بهذا الأمر الذي لم يقع له مثله في مدة حياته مع ما مر عليه من الحوادث.
فهمس في أذن النائب العمومي، وهو جالس إلى جانبه، وسأله: «ما رأيك بهذا الحادث؟» وكان النائب العمومي قد عرف ملخص التحقيق كله من سياق ما سمعه منه، ومن أجوبة مدير البوليس لأسئلته حينا بعد آخر.
فقال له جيروم: الحق أن المسألة محيرة، فلا أقدر أن أعتقد أن المستر أفلن ومستخدميه ومس كروس يتهمون هذا الرجل أو غيره زورا، ومن جهة أخرى لا أقدر أن أعتقد أن شهود الرجل المتعددين متواطئون معه، ولا سيما لأننا نعرف المحامي بلاك جيدا. - إذن لا بد أن يكون هوكر وشفلر شخصين متشابهين جدا. - ولكن أيكون التشابه إلى حد أن لا يقدر أفلن ومستخدموه أن يميزوا فرقا؟ - لا تستغرب ذلك؛ فقد يتشابه الأشخاص إلى ذلك الحد حتى لا يتميز عارفوهم الفروق الزهيدة، وزد على ذلك أن أفلن وحزبه لم يعرفوا هوكر طويلا حتى يميزوا بينه وبين شبيهه، ومع ذلك دعنا نستقص عن الفروق الآن.
ثم نظر إلى أفلن وسأله: هل كان هوكر في هذا الثوب الذي ترى هذا الرجل يرتديه الآن؟ - كلا، بل كان في ثوب رمادي وقبعة رمادية أيضا، ثم سأل المحامي بلاك: في أي ثوب كان شفلر حين كان عندك؟ - في ثوبه وقبعته الأسودين اللذين يلبسهما الآن. وقال كل شهوده: لم نره في ثوب رمادي قط. عند ذلك التفت مدير البوليس إلى أفلن، وقال له: لا نقدر يا مستر أفلن أن نتهم هذا الرجل، وقد ثبت لنا بشهادة العديدين أنه كان في مكتب المستر بلاك المحامي في حينما ادعيت أنه كان عندك.
فكاد أفلن يتمزق غيظا وحنقا، وقال: لا أقدر، أعتقد أن رجلا غير هذا أخذ الدبوس مني.
فقال المدير: سواء اعتقدت أو لم تعتقد، فلا نقدر أن نتهمه ما دامت بيناتك قاصرة عن إثبات التهمة عليه، ولا بد أن يكون جاك هوكر شخصا آخر غير المستر جان شفلر، وأنت ومستخدموك مشتبهون بالمستر شفلر غلطا، فلعل غريمك رجل آخر يشبهه! - يستحيل أن يكون الشبه شديدا إلى هذا الحد. - ألا تجد في ملامح المستر شفلر شيئا يختلف عن ملامح هوكر؟ - كلا البتة، ولا أقدر أن أعتقد أن هذا الرجل ليس جاك هوكر الذي أخذ دبوسي، وإذا نزع طوقه (ياقته) رأيتم في أيمن عنقه نقطة سوداء كأنها أثر خال كنت أراها فيه حين كان يأتي إلى عندي بطوق قليل العرض، فإذا تشابه اثنان فلا يتشابهان إلى حد أن يكون في مكان واحد من بدنهما نقطة سوداء. - هل أنت واثق من وجود هذه النقطة في أيمن عنقه؟ - رأيتها مرارا، ولا ريب عندي أنه يواريها الآن وراء طوقه العريض. - إذا ثبت ما تقول يا مستر أفلن ...
فقاطعه أفلن قائلا: تثبت دعواي؟ - كلا، بل نضطر إلى إعادة التحقيق من وجوه أخرى؛ لأن شهودا كثيرين شهدوا أن هذا الرجل يدعى جان شفلر، وأنه كان بعد ظهر أول أمس في مكتب المحامي المستر بلاك؛ ولذلك يجب أن نحقق ما إذا كانت دعواك على الرجل صحيحة.
فاستشاط أفلن قائلا: ما أنا مدع زورا. - لا تغضب يا مستر أفلن، إذا لم تكن دعواك زورية كانت شهادات شهود المستر شفلر زورية، وحينئذ نحقق لنعلم أي الجانبين مزورا وكاذبا.
فقال شفلر حينذاك: لا داعي لهذا التنازع يا هذين؛ فقد لا يكون أحد من الجانبين مزورا، ها عنقي فانظروه.
وعند ذلك، نزع شفلر طوقه وأدار عنقه إلى جميع الجهات، فلم ير أحد فيه نقطة سوداء، فبهت المستر أفلن، وقال: هذا هو العجب العجاب، ليتني أعرف هذا السر ولو فقدت ربع ثمن الدبوس.
ثم التفت مدير البوليس إلى مس إيفا كروس، وسألها: هل لاحظت نقطة سوداء في أيمن عنق هوكر؟
فلم تجب مس كروس، بل كانت عيناها شاخصتين إلى شفلر من غير أن تجولا في محجريهما، فأعاد عليها السؤال فلم تجب، فهزها من كان جالسا إلى جانبها قائلا: أجيبي.
فقالت: ماذا؟ - هل كنت ترين نقطة سوداء في أيمن عنق هوكر؟ - نعم، والآن أراها أيضا.
فالتفت الكل إليها مستغربين، وسألها شفلر: أين ترينها يا سيدتي؟
فنهضت من مكانها وتقدمت إليه، ووضعت أصبعها على عنقه، وقالت: هنا هي.
فازداد استغراب الحضور، وتهامسوا قائلين: لا بد أن تكون هذه السيدة مخبولة الآن. والحق أن هذا الحادث جنن إيفا وأطار صوابها.
عند ذلك، أعلن مدير البوليس اختتام المحضر، وقال: إن المستر شفلر غير متهم، ولسوف نوالي التحقيق في دعوى المستر أفلن، ولا بد أن نهتدي إلى الغريم الحقيقي.
أما شفلر فتهدد المستر أفلن بأنه سيرفع قضية عليه يطالبه بشرفه وبتعويض، وما قرعت الساعة الحادية عشرة حتى تفرق الحضور.
الفصل العاشر
من السجن إلى النصب رأسا
في صباح اليوم التالي، صدرت جرائد نيويورك الصباحية كلها، وفيها تفصيل الحادثة كما عرفت من سياق التحقيق المنصوص.
والظاهر أن هوكر هذا داهية هذا الزمان ولعله زعيم الجان؛ فيعرف الأسرار ويفعل فعل الأشرار باسم الناس الأبرار، فإنه بينما كان الناس يلغطون بهذا الحادث الغريب، وكان المستر إبراهام بكاروف صاحب معمل الأزرار في 12 من شارع بليكر في مكتبه منهمكا في مشاغله دخل عليه رجل بثوب بني وقبعة سوداء في منتصف الساعة الثانية، فرحب به المستر بكاروف قائلا: أهلا وسهلا بالشريك الجديد، أظنك أتيت لتأخذ التحويل بالقيمة؟
أجاب: لا بأس إذا كنت تعطيه الآن. - قد أمضيته وكنت مزمعا أن أرسله لك في البريد. - لا موجب لذلك، وقد حضرت أنا بنفسي. - هل دفع لك المستر بلاك؟ - أنتظر تحويله اليوم أو غدا صباحا. - متى نسجل الأرض باسم الشركة؟ - يوم الاثنين إن شاء الله.
ثم التفت بكاروف إلى سكريتيره، وقال: أين التحويل الذي باسم المستر جان شفلر؟
قال: هذا هو.
قال: أعطه للمستر شفلر.
فتناوله المستر شفلر وهو يحك في رقبته، فاستلفت بذلك نظر المستر بكاروف، فنظر إلى عنقه فوجد نقطة سوداء تبان تحت حافة طوقه.
فقال بكاروف: ما هذه في عنقك؟ أظنها شامة. - يقولون كذلك، ولكنها شامة بلا شعر. - أظنك تحلق شعرها، فلو كنت تقصر الموسى عنها لكانت جمالا شرقيا فيك. - أظنك تحب الجمال الشرقي. - أما أنا شرقي الأصل؟! أين منبع الإسرائليين؟!
والدي من جزيرة رودس وجدي من أودسا. - أما أنا فلا يهمني هذا الجمال الشرقي، ولا سيما لأن هذه القبعة واقعة من تحت حافة الطوق.
وبالفعل، لم ير بكاروف تلك النقطة السوداء إلا لمحة واحدة، عند ذلك خرج المستر شفلر مزودا بتحويل بقيمة عشرة آلاف ريال.
ولما كانت الساعة الثانية ذهب سكريتير بكاروف إلى بنك كونصوليداتيد، وبعد أن انتهى من مهمته وخرج، التقى بالمستر شفلر الذي رآه منذ نصف ساعة في مكتب المستر بكاروف؛ فقال هذا له: «أرجو أن تعرفني بأحد عمال البنك فإنهم لا يعرفونني؛ لأن أشغالي مع بنك نكر بوكر.»
فأجابه: هل تريد أن تفتح حسابا هنا؟ - كذا أفتكر، إذا وجدت شروطهم موافقة لي.
فتقدم شفلر وسكريتير بكاروف إلى صراف البنك، وقال السكريتير للصراف: حضرته المستر جان شفلر، أرجو أن تكون لكم معه معاملة حسنة في المستقبل.
وكان شفلر حينذاك يعرض التحويل الذي أخذه من بكاروف، وقال: وسترى من هذا التحويل أني سأكون زبونا كبيرا إن شاء الله.
فقال الصراف وهو ينظر فيه: تحويل بإمضاء المستر بكاروف؟!
فأجاب السكريتير ضاحكا: نعم؛ فإذا كنت تعلم أن رصيد حساب بكاروف لا يغطي هذا المبلغ، فقد أودعت الآن عندكم ضعفيه.
فضحك الصراف قائلا: أنا عالم أن رصيد حساب بكاروف يغطينا كلينا.
عند ذلك استأذن الصراف، وودع الاثنين، وهرول مسرعا عائدا إلى شغله. أما الصراف فقال: هل تشاء يا مستر شفلر أن تفتح حسابا عندنا؟ - ليس الآن، ولكني أحب أن أعرف شروطكم. - إذن أرجو منك أن تخاطب سكريتير البنك، ولكن لا تجده الآن؛ لأن الآن وقت التصفية، فتعال غدا قبل هذا الوقت. - سآتي غدا، فأرجو منك الآن أن تدفع لي قيمة هذا التحويل. - ماذا تريد القيمة؟ - 9 ورقات كل ورقة بألف، و9 ورقات كل ورقة بمائة، و9 عشرات، وخمستين.
وفي الحال دفع له القيمة ومضى.
أما سكريتير بكاروف، فما وصل إلى مكتبه حتى وجد رجلا يسأل عن المستر بكاروف؛ فدله على غرفته، فلما دخل قال: أرسلني المستر شفلر لكي آخذ منك التحويل.
فرفع المستر بكاروف نظره فيه مندهشا - وقلبه يخفق خفوقا - وقال: أي تحويل هذا؟! - التحويل الذي بقيمة عشرة آلاف ريال، حسب الاتفاق بينكما. - أتى إلى هنا المستر شفلر منذ نصف ساعة وأخذه، فتلفت الرسول إلى ما حوله مدهوشا، وقال: أليس هنا مكتب المستر بكاروف؟ - قال: نعم؛ هو، أنا هنا، وأنا بكاروف. - شريك شفلر على الأرض في لون آيلند؟ - نعم، هنا هنا، أنا بكاروف. - تقول: إن المستر شفلر أتى إلى هنا؟ - نعم، منذ نصف ساعة، وأخذ تحويلا بعشرة آلاف ريال. - يستحيل أن يكون الأمر كما تقول.
فقاطعه السكريتير قائلا: ولا ريب في ذلك، ومنذ دقائق رأيته في بنك كونصوليدايتد، يريد أن يفتح حسابا هناك.
فأجاب الرسول: يستحيل ذلك، فإن المستر شفلر لم يفارق مكتبه منذ الساعة الأولى بعد الظهر، ولا سيما لأنه كان قبل الظهر متغيبا بسبب القضية الزورية التي علمت أمرها يا مستر بكاروف.
فجال ألف فكر في دماغ بكاروف حينئذ، وصارت مقلتاه تضطربان وقلبه يزداد خفوقا، وقال: قل أنك تمزح.
قال: ليس الآن وقت مزاح يا مستر بكاروف إلا إذا كنت أنت مازحا.
وكانت يد بكاروف قد قبضت على بوق التليفون، وسأل الرسول عن رقم تلفون شفلر، فأجابه 9001 برودواي، وفي الحال دار الحديث الآتي: - مستر شفلر؟ - نعم، من أنت؟ - إبراهام بكاروف. - هل وصل رسولي إليك؟ - نعم، هو هنا يمزح ولم يقل ماذا يريد؟ - عجيب! لم أعهده يمزح فكيف ذلك؟ سأطرده إذا صح ما تقول؛ لأني لا أريد كاتبا يضع الهزل موضع الجد. - ولكنه لم يقل ما هي مهمته. - إذا لم يقل يا مستر بكاروف، فأنت عالم أني أنتظر التحويل منك اليوم؟ - أي تحويل؟! - كيف تقول: أي تحويل؟! - أنت تمزح أيضا. - يظهر أنك أنت المازح يا مستر بكاروف. - ما أنا ولد حتى تداعبني يا مستر شفلر. - الوقت عندي ذهب يا هذا؛ فلا أضيعه في المداعبة والممازحة، أرسلت إليك رسولا يأتيني بالتحويل، فأرسله بلا إبطاء قبل أن تقفل البنوك. - تعني أنك لم تكن عندي منذ نصف ساعة؟ - يظهر أنك جننت. - إذن أنت تتكلم بجد؟ - نعم؛ وأستغرب أنك تهزل. - وأنا أستغرب أنك تنكر الشمس وهي طالعة. - أنكر ماذا؟ - تنكر أنك أتيت بنفسك إلى هنا وأخذت التحويل.
وهنا قاطع بكاروف سكريتيره قائلا: وقل له أن سكريتيري رآك في بنك كونصوليدايتد، وعرفك بالصراف، وأريت الصراف التحويل.
فقال بكاروف هذا القول، فأجابه شفلر: تضطرني يا مستر بكاروف أن أقول كلاما قاسيا، ومع ذلك لا يهمني الأمر جدا ما دمت لم أوقع على ظهر تحويل منك بعد.
عند ذلك، رد بكاروف بوق التليفون إلى مكانه، وبعد هنيهة عاد وأمسكه، وطلب أن يخاطب بنك كونصوليدايتد، وطلب إلى الصرافين أن لا يدفعوا التحويل الذي صدر باسمه بقيمة 10 آلاف ريال باسم جان شفلر، فأجابوه أن التحويل دفع بناء على تعريف سكريتيره عن حقيقة الشخص الذي قبضه.
فالتفت بكاروف إلى سكريتيره، وقال: هل عرفت عن جان شفلر في البنك؟ - نعم ، رأيته داخلا وأنا خارج، فقال: «تعال، عرفني بأحد من رجال البنك؛ لأني أريد أن أفتح حسابا.» فدخلت معه وعرفته بأحد الصرافين، وتركته هناك وأتيت. - هل أنت واثق أن الذي عرفت الصراف به هو جان شفلر الذي كان هنا؟ - هو هو بعينه وبثوبه، ولكن جان شفلر ينكر أنه أتى إلى هنا أيضا.
عند ذلك نهض المستر بكاروف من مكانه كالمجنون، وخرج وخرج وراءه رسول شفلر.
الفصل الحادي عشر
شفلر غير هوكر
وما هو إلا بعض الساعة حتى دخل شرطي على المستر شفلر يستدعيه إلى مركز البوليس، فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون.» ثم قام ومضى، فوجد عند مدير البوليس صراف البنك والمستر بكاروف وسكريتيره، فلما جلس قال له المدير: تهمة أخرى يا مستر شفلر، ولكن ليس فيها هوكر هذه المرة.
فقال شفلر ساكن الخلق: ما هي؟ - هل زرت المستر بكاروف اليوم بعد الظهر؟ - كلا. - أما أخذت منه تحويلا بقيمة عشرة آلاف ريال؟ - حتى الآن لم آخذ، ولا أزال أنتظر أن يدفع لي المبلغ.
وكان بكاروف يسمع ويتغيظ، فقال له المدير: هل تعرف هذا الرجل؟ (وأشار إلى صراف البنك). - كلا. - أما ذهبت بعد الظهر إلى بنك كونصوليداتيد؟ - لم أترك مكتبي منذ الساعة الواحدة حتى الآن. - هل تعرف هذا الرجل؟ (وأشار إلى سكريتير بكاروف). - رأيته منذ بضعة أيام في مكتب الخواجة بكاروف، وأظنه مستخدما عنده.
ثم أراه المدير تحويلا بقيمة 10 آلاف ريال، وباسم جان شفلر وبإمضاء إبراهام بكاروف وعلى ظهره اسم جان شفلر وختم البنك المشعر أنه «قد دفع»، وسأله: أليس هذا إمضاؤك؟! - كلا، والمستر بكاروف يعرف إمضائي.
فالتفت المدير إلى بكاروف كأنه ينتظر منه جوابا، فقال هذا: نعم، عندي إمضاؤه على عقد الشركة.
ثم أرسل سكريتيره في الحال إلى مكتبه، واستحضر العقد، وقابلوا الإمضائين، فوجدوا فرقا عظيما بينهما، فانذهل بكاروف، وقال: إذا كان بعض الناس يقدرون أن يقلدوا خطوط غيرهم، فلا يتعذر على أحد أن يغير إمضاءه أحيانا.
فحار المدير في الأمر، والتفت إلى صراف البنك، وقال: أتؤكد أن هذا الرجل هو الشخص الذي قبض منك المبلغ بعينه؟
فأجاب الصراف: لا أجد فرقا إلا في ثوبه؛ فقد كان بنيا أما الآن فأسود.
فقال بكاروف: وقد أتى إلي بثوب بني، فلا يصعب عليه أن يغير ثوبه متى شاء.
فقال المدير لشفلر: هنا المستر بكاروف وصراف بنك كونصوليداتيد يشهدان أنك أخذت هذا التحويل، وقبضت قيمته نقدا. - لا داعي أن أقبض 10 آلاف ريال نقدا، ولي حساب مع بنك نيويورك، فالعادة أن أقدم التحويل إلى بنكي. - ولا ينكر على أحد أن يقبض نقودا من البنك؛ فهل عندك بينات أخرى على أنك لم تزر المستر بكاروف ولا ذهبت إلى بنك كونصوليدايتد؟ - ليس عندي إلا كاتباي، فهما يشهدان أني لم أخرج من مكتبي منذ الساعة الواحدة بعد الظهر حتى جاء الشرطي يدعوني إلى هنا.
وفي الحال، استدعي كاتبا المستر شفلر، وشهدا أنه لم يخرج من مكتبه منذ الساعة الواحدة بعد الظهر؛ لأنه كان يقرأ رسائله ويجاوب عليها؛ إذ كان قبل الظهر لا يزال تحت الحفظ في مركز البوليس بسبب التهمة الأولى.
عند ذلك وقف بكاروف، وقال وهو يرتجف من الغيظ: أنا وسكريتيري وصراف البنك لا نقدر أن نكذب وجداننا ونسلم بسهولة أن كاتبي المستر شفلر لا يمالئانه، ويشهدان معه كما يريد، فإن كان لديه شهود عديدون يؤيد بواسطتهم أنه لم يأت إلي اليوم بعد الظهر فليظهرهم.
عند ذلك وقف المستر شفلر متأثرا جدا، ولكنه تمالك طبعه، وقال: مستر بكاروف، تعني أني كاذب وأن كاتبي شاهدا زور؟! فاسترد كلامك وإلا رفعنا عليك قضية نطالبك بشرفنا، ثم إني غير مكلف أن أشهد الناس على كل دقيقة من حياتي لكي أدرأ عني تهما باطلة، عندك شاهد واحد أني كنت عندك بعد الظهر، وعندي شاهدان عدلان أني كنت في مكتبي، فدعواك علي زور محض، وأنا سأطالب بشرفي.
فقال بكاروف: والصراف يشهد أنك قبضت المبلغ منه، وسكريتيري يشهد أنه عرفه بك.
فأجاب شفلر محتدا: إن دعوى الصراف زور أيضا، وليس عنده إلا شاهد واحد - كما تزعم - وهو شاهدك بعينه، ومع ذلك فإن الإمضاء الذي على ظهر التحويل ليس إمضائي، فما أنا مسئول لأحد، فإذا لم تكونوا مدعين زورا فابحثوا عمن لعب عليكم هذا الدور، ولا تزد يا مستر بكاروف كلمة بعد وإلا أحوجتني أن أسمعك ما لا تطيق وأريك ما لم تر، وأريد منك أن تدفع لي العشرة آلاف جنيها حتى صباح الغد؛ لئلا يفوت وقتها، لا أريدها إلا نقدا. - دفعت لك تحويلا وقبضته، فلم يبق لك عندي شيء. - قلت لك: ليس هذا إمضائي ولا إمضاء مزورا.
فصاح بكاروف: يا ناس، إن كنت أنا حالما أو مجنونا فسكريتيري وصراف البنك ليسا كذلك.
أما المدير فكان باهتا، فقال: مهلا مستر بكاروف، أما علمت نتيجة تحقيق التهمة الأولى التي اتهم بها المستر شفلر وحققناها صباح هذا اليوم وكنت شاهدا فيها؟
أجاب بكاروف: خرجت من هنا قبل أن ينتهي التحقيق لأني لم أكن خالي الشغل حتى أسمع تحقيق تهمة لا تهمني. - أما قرأت تفصيلها في جرائد الظهر؟ - كلا. - إذن أنا أخبرك أن التحقيق رجح لنا - بل أثبت - أنه يوجد في المدينة شخص باسم جان هوكر يشبه المستر شفلر كل الشبه، وهو الذي اختلس الدبوس من محل أفلن والأحد عشر ألف ريال من مس إيفا كروس، أفلا يحتمل أن يكون ذلك النصاب هو الذي جاءك باسم جان شفلر وأخذ منك التحويل؟
فأجاب بكاروف: ولكن كيف يعرف ذاك أن لي علاقة بالمستر جان شفلر؟! - لا ريب أنه عرف ذلك مما كتبته الجرائد؛ فاغتنم هذه الفرصة.
فبهت بكاروف هنيهة، ثم قال: يستحيل أن يكون رجل غير شفلر قد أتى إلي، كيف يعرف أن لشفلر علي عشرة آلاف ريال؟!
فقال المدير: هل طالبك بعشرة آلاف ريال؟ - كلا، ولكن لما دخل علي ترحبت به، وقلت: «أظنك آتيا لأجل التحويل، كنت مزمعا أن أرسله لك في البريد الليلة.» فقال: «لا داعي لإرساله وقد أتيت أنا بنفسي.» - إذن ترى من كلامك أنه لم يذكر لك تحويلا ولا عشرة آلاف، بل أنت بادأته بذلك أولا، أنت سلمت نفسك له، ولعله كان ينوي أن ينصب عليك بمبلغ أقل أو أتاك لغرض آخر.
فتمرمر بكاروف جدا، وقال: والله لا أقدر أن أعتقد أن الذي جاء لي رجل آخر غير المستر شفلر، هذا هو بعينه. - الناس تتشابه يا مستر بكاروف. - تكاد تجنني يا حضرة المدير، إني أعرف شفلر جيدا، أعرفه بعينيه وأذنيه وفمه وأنفه حتى شامته.
فنظر المدير إلى شفلر، وقال: ما هي شامته يا مستر بكاروف؟
فقال بكاروف: فليلو عنقه قليلا أو ينزل طوقه قليلا، فترى نقطة سوداء في أيمن عنقه كالشامة.
فضحك المدير، وقال: ذلك خير برهان؛ أزل طوقك يا مستر شفلر.
وكان شفلر قد حل ربطة رقبته، وما لفظ المدير كلمته حتى كان الطوق قد أزيل، وقال: انظروا يا ناس، لا شامة ولا نقطة سوداء في عنقي، فوالله إنها لدعاو باطلة، وإذا كان قد ثبت وجود شخص آخر يشبهني كل هذا الشبه، فإدارة البوليس بل كل الحكومة تكون مسئولة منذ الآن بكل عمل يعمل باسمي ولا أعترف به إلى أن يقبض على ذلك النصاب الذي خلقه الله شبها لي، لا أحتمل بعد الآن أن أؤخذ بجرائر غيري.
وكان المستر شفلر يتكلم بحدة، والكل منذهلون متحيرون، ومدير البوليس يفكر بخطة يتخذها لاكتشاف ذلك المحتال، ثم قال للمستر بكاروف ولصراف البنك: لا أجد حجة أو عذرا للقبض على المستر شفلر؛ لأني أعتقد أنه براء، وأن المجرم غيره. فإن كان التحويل موضوع نزاع بينكم فدونكم والمحكمة؛ لأجل دعوى مدنية، وأنا أسعى لاكتشاف ذلك المحتال.
أما شفلر فودع مدير البوليس مثنيا على همته وذكائه الباهر، وانصرف غاضبا على البقية، وأما الصراف فعاد إلى بنكه وقدم تقريرا لمديره، وأما بكاروف فعاد إلى مكتبه حزينا متأثرا، وقبل الساعة السادسة كان سكريتيره في مكتب شفلر يقدم له رسالة ففضها شفلر وقرأ ما يأتي:
حضرة المستر شفلر
طيه تجدون تحويلا بقيمة عشرة آلاف ريال، وأظنكم تعذرونني لاتهامكم، وعذري واضح إذا كان في الوجود من يشبهكم خلقا لا خلقا.
بكاروف
فدفع شفلر التحويل لسكريتير بكاروف، وقال: قل لمديرك أني سامحته على اعتدائه اليوم ، ولكني لا أقبل منه العشرة آلاف إلا نقدا، وله مني وصل بخط يدي أكتبه أمام عينيه، فليأت غدا قبل العاشرة صباحا إلى هنا بالقيمة.
والظاهر أن المستر بكاروف تحقق من صديقه المحامي بلاك أن المستر شفلر رجل مستقيم جدا لا يمكن أن يفعل أمرا إدا، ولكنه في الوقت نفسه رجل لا يرضى بالإهانة، ولا يسكت على الضيم، ولا يصلى له بنار، ونصح له أن يسترضيه لئلا يقع بينهما مشكل يفضي إلى ما لا يحمد المستر بكاروف مغبته.
أما مدير البوليس فبث الخفية يبحثون عن المدعو جاك هوكر ذي الشامة أو النقطة السوداء في عنقه الأيمن.
الفصل الثاني عشر
إبليس يجرب إيفا كروس
عاد المستر أفلن إلى مخزنه وهو مرتاب في أن جان شفلر غير جاك هوكر، ولكن التحقيق لم يبق له وجها للدعوى على شفلر؛ لأن شهودا كثيرين شهدوا أن الرجل كان عند بلاك المحامي في حين ادعى أفلن أنه كان عنده، ثم قرأ أفلن في الصحف حادث النصب الذي جاز على بكاروف، فازداد ارتيابه بشخصية شفلر؛ وعليه، صمم أن يستخدم خفية يتجسسون حركات شفلر.
أما مس إيفا كروس، فعادت إلى منزلها نصف مجنونة لما رأت وسمعت. رددت في بالها ماضي ساعاتها مع هوكر فانتعش حبها قليلا، ثم خطر لها حادث الخمسين ألف ريال، وحادث الدبوس والأحد عشر ألف ريال؛ فنفرت من ذكر هوكر، وقد لاح لها أن تستأجر أحد الخفية لكي يبحث عنه وعن زوجته، فخافت أن ينفضح سبب اختلاس الخمسين ألف ريال؛ أي إغراء زوجة هوكر أن تطلقه لكي تتزوجه هي، فرأت أن تبقى صامتة.
ولكن إبليس لا يريد السلام على الأرض.
في مساء اليوم التالي، جاء إليها الرجل الذي مشى معها بعض خطوات في الطريق حين كانت ذاهبة إلى البنك لكي تأخذ الخمسين ألف ريال - كما يذكر القارئ - وطلب مقابلتها، فردت إليه خادمتها تقول إنها لا تقدر أن تقابله الآن؛ فمتى رأت فرصة مناسبة لمقابلته تكتب له.
فقال للخادمة: قولي لمس كروس: إن مهمتي الآن تختلف عن مهماتي الماضية وأكثر فائدة لها.
فأذنت له بالدخول إلى غرفتها رأسا، فلما حياها وجلس قالت: تعذرني يا مستر زيمر لتمنعي أولا عن مقابلتك؛ لأني أشعر بصداع الآن.
فأجاب: ولولا خوفي أن تندمي على عدم إيذانك لي بالدخول لما ألححت عليك به، فاعذريني على إلحاحي، ولا سيما في هذا الوقت الذي تشكين فيه من وجع الرأس لأني لأجله أتيت.
فاستغربت قائلة لأجله أتيت؟!
قال: نعم، أتظنين أني لم أعلم السبب؟
فاضطربت إيفا قائلة: أي سبب؟ - سبب وجع رأسك. - كيف تعرف ذلك؟ - قرأت في الجرائد. - ماذا قرأت؟! - قرأت عما فعله جاك هوكر بائع الحلي.
فانتفضت أيضا قائلة: تعني مسألة الدبوس؟ - نعم، وألوف الريالات. - تعني الأحد عشر ألف ريال التي أخذها مني؟ - نعم، ولهذا أتيت لأعرض عليك أمرا. - ما هو؟ - أن تختاريني جاسوسا لأبحث لك عن هوكر كما فعل أفلن، وبكاروف، وشفلر. - ماذا فعلوا؟! - عين كل منهم جواسيس للبحث عن هوكر. - أما أفلن وبكاروف فلأن كلا خسر عشرة آلاف ريال، وأما شفلر فلماذا؟! - لأنه استاء جدا من أن شخصا يشبهه استخدم اسمه، ويخاف أن يستخدمه في المستقبل لأمور كثيرة تضر به (أي شفلر). - أما أنا فأكتفي باهتمام الحكومة وأولئك الثلاثة، فإن اهتدوا إلى هوكر عوقب عن كل ذنوبه. - تعنين أنك لا تريدين أن تعيني من قبلك خفية للبحث عن هوكر! - كلا. - ألا يهمك أن تقع يدك على من اختلس منك ...؟ - أحد عشر ألف ريال لا تهمني كثيرا. - أعلم أنها لا تهمك، وأعلم أنك لا تحصلين عليها، ولو قبض على هوكر؛ لأنه بذرقها أو أخبأها. - فإذن لماذا أهتم بالقبض عليه؟ - لكي يعاقب على ما جنت يداه. - وما فائدتي من معاقبته؟ - ألا تريدين أن تتشفي وتنتقمي منه؟ - كلا، ليس في قلبي حقد على أحد. - إذن أعرض خدمتي على مستر أفلن. - تقول إنه عين خفية؛ فلا حاجة به إليك. - ولكن الخفية الذين عينهم لا يعرفون ما أعرف.
فتنبهت إيفا جيدا، واختلج فؤادها، وقالت: ماذا تعرف؟! - أعرف أشياء عن هوكر لا يعرفها أحد غيري. - ماذا تعرف عنه الآن؟! - إن ما أعرفه يا مس كروس يدفع المستر أفلن ثمنه ربع ثمن الدبوس على الأقل. - وتنبئ عنه المستر أفلن إذا دفع لك مكافأة؟ - إذا لم يدفع ما أريد أنبئ بكاروف أو شفلر. - وتريد مني ثمن ما تقوله لي عن هوكر؟ - نعم، ولا تؤاخذيني مس كروس فإني لشغل لا لزيارة ودادية أتيتك، وأنت لم تسلمي بمقابلتي إلا لما علمت أنها لشغل، ونتيجة الشغل القبض والدفع. - أنت تعلم أن القبض والدفع لا يهمانني، ولكني أفضل أن تعاملني كصديق لصديقة، والصداقة لا تحول دون الدفع والقبض. - أنت نفيت الصداقة منذ المقابلة الفائتة يا مس كروس، والآن لما طلبت مقابلتك أيدت ذلك النفي، فدعينا نتكلم بالشغل بقطع النظر عن الصداقة. - إذا كنت مستاء مني فأعتذر لك؛ لأني كل هذا الأسبوع كنت مضطربة لمشاغل مختلفة، فكنت سيئة التصرف مع كل صديقاتي وأصدقائي، ولا أود أن نتعامل ولو بالأجرة إلا وأنت صديق مخلص. - تأكدي يا مس كروس أني أمين سواء كنت صديقا أو غير صديق. - إذن تخلص في إخباري كل ما تعرفه عن هوكر؟ - من غير بد أخلص إذا دفعت الثمن. - كم تريد؟ - قلت لك: إن أفلن يدفع ربع ثمن الدبوس. - إذن ساومت أفلن على ذلك؟! - كلا، لم أساوم أحدا ولا أخبرت أحدا بعد، ولكني أؤكد أن أفلن يدفع القيمة متى عرف ما أعرف. - أود أن أعرف ماذا تعرف أولا. - أعرف أين هوكر، وماذا ينوي أن يفعل فيما يتعلق بك، فانتفضت إيفا، وقالت: بي؟! - نعم، بك. - ماذا ينوي أن يفعل؟ - هل رضيت أن تدفعي الثمن يا مس كروس؟ - أدفع ألف ريال فقط. - بل تدفعين الألفين. - قد أدفعهما بعد أن أصل إلى النتيجة النهائية إذا وجدتها تستحق. - لا أريد منك الآن إلا أن تعدي أن تدفعي الألفين حين تصلين إلى النتيجة، وأنا أؤكد أنك تدفعينهما حينئذ. - أعدك بذلك؛ فأخبر كل ما تعرفه. - لما قرأت في الجرائد قصة هوكر بحثت عنه، وتوقفت إلى الاهتداء إليه والوقوف على أسراره حتى صار تحت رحمتي، ووعدته أن آتيك لكي أخبرك أنه يريد مقابلتك إذا كنت تؤمنين على سلامته، وهو يؤكد أنك متى اجتمعت به وسمعت حديثه تعذرينه وتؤكدين حسن نيته. - إذن قل له أن يأتي الليلة في آخر السهرة. - ولا تشين به قبل أن تسمعي قصته. - يأتي ويذهب ولا أحد غيرك يعرف ذلك. - والألفا ريال؟ - أدفعها متى جئت مع هوكر. - حسن جدا، في أي ساعة نجيء؟ - الساعة التاسعة، ألا توافق؟ - حسن جدا.
وعند ذلك وقف زيمر لكي ينصرف، فقالت له: ولكن لا تخبر إدارة البوليس ولا الثلاثة الذين يبحثون عن هوكر، لا تخبرهم عنه شيئا. - هذا الشرط لم يدخل في اتفاقنا يا سيدتي، فمتى انتهيت من هوكر أخبر البقية عنه، وأقبض ثمن الخبر، وإن شئت أن أكتم أمره عن سواك تدفعين ثمن الكتمان. - أنت كالمنشار تريد أن تأكل صاعدا ونازلا. - هكذا رمت أنت يا سيدتي. - لا بأس، بعد أن أجتمع بهوكر نتساوم على الكتمان. - لك ما ترومين يا سيدتي.
ثم انصرف على موعد اللقاء القريب، وأوعزت إيفا إلى بوابها قائلة: في الساعة الحادية عشرة تفتح لهذا الرجل الذي خرج من هنا الآن ولشخص آخر معه.
وكانت الأفكار تأخذ إيفا إلى عالم الشر، ثم تعود بها إلى عالم الخير، فتارة كانت تتخيل هوكر رجلا شريرا نصابا، ثم لا تلبث أن تذكر شمائله، وحسن أخلاقه، ورقته، وأنفته إلى غير ذلك من المحامد، فتصوره ملاكا كريما، على أنها استعدت للقائه على أي حال وانتظرته بفارغ الصبر.
وما حانت الساعة التاسعة حتى قرع جرس البواب ففتح، فقال له زيمر: أخبر مس كروس أني أتيت بالرجل.
فأنعم النظر البواب في الرجل الآخر، وقال: المستر هوكر؟
فقال هوكر: تعرفني إذن؛ فلم تنسني! فأخبر المس كروس عني.
قال البواب: عندي أمر من مس كروس أن أدخل رجلا آخر مع هذا المستر زيمر فأنت هو الرجل إذن، ادخلا.
فدخلا وصعدا إلى القاعة التي تنتظرهما فيها إيفا، وكانت تلاهي نفسها بالقراءة، فلما دخلا اختلجت قليلا، وابتسمت مكفهرة وقالت لزيمر: أرجو منك أن تنتظر في القاعة التي في الطبقة السفلى . البواب يفتحها لك، ومتى انتهينا أدعوك.
قال: سمعا وطاعة يا سيدتي.
ثم نزل إلى الطبقة السفلى. أما هوكر، فجلس على كرسي بإزاء إيفا، وقال: قرأت يا سيدتي إيفا ما كتبته الجرائد، ولولا وجود شخص آخر يشبهني لما حدثت هذه الطنطنة حول اسمي.
فقاطعته قائلة: لولا سوء قصدك لما حدثت الطنطنة، وما كنت أتصور أنك ترتكب هذه الآثام.
فقال: أي آثام يا سيدتي؟ - آثام النصب المتعددة: 50 ألف ريال، ثم 11 ألف ريال مني، دبوس ألماس من أفلن، عشرة آلاف ريال من بكاروف. - إذا لم تسمحي لي يا سيدتي أن أحكي قصتي، فلا تحسني الظن بي، وفي هذه الحالة يجب عليك أن توعزي إلى البوليس أن يقبض علي. - وتعني أنه إذا قبض عليك تثبت براءتك؟ - قد لا أستطيع أن أثبتها لدى القضاء، ولكني أثبتها لدى أرقاء القلوب، وأنت قد قرأت رواية التعساء لفيكتور هيغو، ورأيت فيها جان فلجان أطيب البشر، وفي الوقت نفسه كان يقاسي اضطهاد الشريعة له. - كأنك تقول أنك كنت فيما فعلت من الآثام تنوي خيرا؟ - متى سمعت قصتي تعذرينني. - قلت كثيرا: «لعل له عذرا ونحن نلوم.» ولكن تكرار الجريمة يغير الظن، ويقسي القلوب العاذرة. - ولكن القلوب المحبة لا تتغير ودليلها لا يضل، فأنت قد ظننت في حسنا فلا تغيري ظنك. - خرجت من عندي لكي تطلق زوجتك ولكي تدفع لمستر أفلن ثمن الدبوس، ثم تعود إلي بالدبوس، ونذهب معا لنأخذ أذنا من الحكومة بالزواج، فماذا فعلت من ذلك؟ - نعم، خرجت من عندك على هذه النية ولم أغير نيتي، ذهبت إلى منزلي. - أين منزلك؟ - كنت أسكن في رقم 16 غربا من شارع 116. - ولكن أنت قلت لي إنك ساكن في رقم 28 غربا من شارع 110. - لم أقل لك ذلك تماما يا سيدتي.
فعبست إيفا في وجهه، وقالت: لا تكذب، تذكر حين سألتك عن عنوان زوجتك؟ - نعم، أتذكر جيدا أني قلت لك ذلك. - إذن ما معنى هذا التناقض؟! - لا تناقض يا سيدتي، فأنا كنت أسكن في رقم 16 غربا من شارع 116، وزوجتي سكنت نهارين وليلة في رقم 28 غربا من شارع 110. - لا أفهم ذلك. - ومن سوء حظي أني كنت أذوق مرارة العيش من امرأتي وأنت لا تعلمين، في ذلك النهار الذي التقينا في مسائه في الهيبودروم، وأخذنا الشاي في مطعم الهيبودروم معا، وقطعنا عهد الحب النهائي الذي لا ينفصم. في ذلك النهار نفسه خاصمتني زوجتي خصاما شديدا لأجلك إذ تأكدت أني أحبك، ثم تركتني ومضت وسكنت وحدها وتهددتني بمصائب كثيرة. - لم تقل لي ذلك يا جاك حينئذ. - ليس من خلقي يا سيدتي أن أمننك بما أقاسيه بسببك، ثم ذهبت إليها ورجوتها أن تعود في ذلك النهار فلم تعد؛ لأنها كانت غاضبة شديد الغضب، وأنا أحاول أن أكتم خصامنا، وفي ذلك المساء ذهبت إلى الهبودروم لكي أراك فأنسى همومي وكانت نتيجة لقائنا سعادة لي.
فتنهدت إيفا، وقالت: تزعم أنك لم تكن تغشني حينئذ، ولكن بعدئذ خدعك الشيطان، فاتفقت وزوجتك على أن تنصبا علي. - معاذ الله أن أفتكر كذلك يا إيفا! وهل أضمن لنفسي سعادة أعظم من سعادة حبك لي؟! ولكن زوجتي نصبت عليك وعلي معا. - كيف ذلك؟! - لما استدعيتها بخطاب منك وأقنعتها أن تتفق معي على طلاقنا؛ لأني لا أحبها بل أحبك وحدك وأغريتها بالمال قطعت كل أمل من حبي لها، وتحول حبها لي إلى غيرة قتالة، ثم تحولت الغيرة إلى بغض شديد وحب الانتقام، وأضمرت الشر لي ولك، واتفق أنه لما خاطبك أفلن بالتليفون كانت عندك وكنت غائبة من المنزل، فقامت مقامك ومثلت دورك لا لمطمع معين، بل لتقف على شيء من أسرارك؛ ففهمت مسألة الدبوس، وكانت عالمة بطرف منها قبلا حين كنت أسعى بينك وبين أفلن لكي أبيعه لك لأول عهد معرفتنا.
فقاطعته إيفا قائلة: ولكن لماذا يخاطبني أفلن تلفونيا بأمر الدبوس، إذا كنت أنت تساومه عليه لكي تشتريه لنفسك؟! - أتظنين أني أقدر أن أشتري الدبوس لنفسي، من أين لي العشرة آلاف ريال؟! لذلك رأيت أن أدعي أن آخذ الدبوس إليك لكي أريك إياه، وقدرت أنك تدفعين ثمنه متى عرفت أني أود أن أشتريه لك وليس معي ثمنه - كما تعلمين - وقد صح ظني. والحق أقول لك: إني لم أعلم أن أفلن خاطبك تلفونيا إلا من قراءة الجرائد.
فقالت إيفا مستغربة: عجيب! وماذا كان قصد زوجتك أن تجاوب عني؟ - قصدت أن تعلم شيئا من أسرارك لعلها تنتفع به. - ثم ماذا حدث بعد ذلك؟ - بعد أن أخذت الدبوس من أفلن ذهبت إلى البيت على نية أن أستدعي زوجتي؛ لكي أفاوضها بأمر طلاقنا ما دامت لا تريد أن تساكنني، ومن الغريب أني وجدتها هناك عائدة من عندك، فباحثتها في الأمر، فبكت ونحبت، وأنا لا أدري أن كل ذلك البكاء مكر وخبث، فرق لها قلبي، وأخيرا - بعد جدال طويل - اتفقنا على الطلاق في اليوم التالي، ولما عدت في السهرة من عندك كانت لا تزال في المنزل يقظة، فعادت تتوسل إلي أن أتركك وأحبها ونعدل عن الطلاق، وكنت أبذل الجهد في إقناعها به؛ إذ لم يبق فيه مصلحة لأحدنا ما دام قلب أحدنا معلقا في مكان آخر. وأخيرا، اقتنعت، وفي صباح اليوم لم أنهض من سريري حتى الساعة الحادية عشرة، فوجدت نفسي مخبولا، وكأني كنت مريضا مدة عام، ثم التفت حولي فوجدت زجاجة كلوروفورم مفتوحة وفارغة، فأدركت أني كنت مبنجا كل الليل، فنهضت إلى غرفة زوجتي فما وجدتها، فعدت إلى غرفتي وفحصت جيوبي، فوجدت بدل الدبوس الألماسي والتحويل الذي أخذته منك هذه الورقة.
وعند ذلك دفع هوكر ورقة لمس إيفا كروس فقرأتها كما يأتي:
عزيزي جاك، أنت تحب مس إيفا كروس وهي تحبك، وأنت وهي اختلستما سعادتي، فلا أطيق أن أدعكما تتمتعان بها وأنا يئسة تعسة، فاستعد بعد الآن لاحتمال نقمتي.
مسز هوكر
وبعد أن انتهت إيفا من قراءة الورقة التفتت في وجه هوكر فوجدت مقلتيه مغرورقتين في الدموع.
فقالت: مسكين جاك! ثم ماذا فعلت؟
فمسح دموعه، وقال: ظننت أنها ذهبت إلى خالتها في فيلادلفيا، فسافرت إلى فيلادلفيا فلم أجدها، فعدت حيرانا لا أدري ماذا أفعل وأين أجدها، وبعد ذلك قرأت في الجرائد نصوص الحادثة الغريبة، فالتزمت أن أختبئ لئلا يقبض علي . - ولكن لم أفهم كيف جسرت أن تختلس العشرة آلاف ريال من بكاروف؟ - بل أنا أستغرب كيف جازت حيلة المسمى شفلر على بكاروف ومدير البوليس وصراف البنك وغيرهم، فهو لما علم أن هناك شخصا آخر يشبهه اغتنم هذه الفرصة ليختلس أموال الناس باسمه، وإلا كلما فعل شفلر فعلة خلص نفسه بدعوى أني أنا هوكر فعلتها، وهو المجرم يجول بين الناس باسم شفلر السمسار الأمين، وأنا البريء اختبئ من وجه العدل باسم شفلر اللص ...
وعند ذلك شرق هوكر بدموعه؛ فأمسكت إيفا يده، وقالت: ولكن ثبت أن الذي أخذ التحويل من بكاروف له نقطة سوداء في أيمن عنقه كالنقطة التي هنا في أيمن عنقك.
فأمسك هوكر كفها بكفيه وقبلها قبلات عديدة وهو يقول: لا يتعذر عليه يا حبيبتي إيفا أن ينقط تلك النقطة السوداء عند اللزوم بعد أن عرف أن عندي مثلها.
قالت: صدقت، ولكن فيك شيئا لا يقدر شفلر أن يقلده. - ما هو يا روحي؟ - هو نعومة صوتك، ولين خلقك، وهو خشن الصوت جاف الخلق على ما رأيت.
وعاد يقبل كفها وهي بين كفيه؛ فسحبتها من بينهما بالرغم من ضغطهما عليها، وفي الحال طوقته بذراعها وقبلته، وهو في خلال ذلك يمد يده إلى جيبه كأنه يودع فيه شيئا، ثم مسحت دموعه، وقالت: إني آسفة لما حدث لك، ولكن ما الحيلة بتلك الملعونة؟! - يجب أن أرفع قضية طلاق وأستدعيها إلى المحكمة، فإن اهتدى إليها المحضر وأبلغها دعواي ولم تحضر نلت حق الطلاق، وإن فات الموعد المقرر ولم يبن لها أثر نلت ذلك الحق أيضا. - إذن تحب أن ترفع قضية طلاق؟! - من غير بد؛ إذا تسنى لي أن أظهر بين الناس وكف البوليس يده عني. - سلم نفسك للبوليس، ومتى رويت قصتك بانت براءتك. - عجيب رأيك يا عزيزتي إيفا! أتريدين أن أروي قصتي كما رويتها لك؟!
فانتبهت إيفا، وقالت: أتروي أني دفعت لزوجتك 50 ألف ريال؟ - إذا لم أرو كل شيء تماما، فكيف يثبت حسن نيتي؟!
فتنهدت إيفا، وقالت: ما رأيك إذن؟! - رأيي أن نرضي أفلن وبكاروف أيضا إذا لزم الأمر، ونسكتهما عن البحث عن هوكر. - إذا كانا يرتضيان بالمال فذلك أمر سهل جدا. - المال يرضي كل غاضب يا عزيزتي.
وعند ذلك تلاثما عاشقين، وقالت: إذن سأسعى بذلك منذ الغد. - وأنا أختبئ ريثما يتعهدان أن حقهما وصلهما ولا حق لهما على هوكر البتة، أما أفلن فأنا أستطيع أن أرضيه إذا قابلته غدا بالفلوس. - وأما بكاروف فلا أعرفه أنا، ولا أدري كيف أرضيه؟! - أظن أن زيمر يعرفه؛ فيمكن أن يكون واسطة بينك وبينه. - ولكن بماذا أقنعه؟ - زيمر يعرف كيف يقنعه.
عند ذلك قرعت الجرس، فدخلت الخادمة، فقالت: استدعي الرجل الذي ينتظر في الطبقة السفلى، ولما دخل زيمر قالت له إيفا: يطلب منك أن تقابل بكاروف غدا.
أجاب زيمر: إذن لا تريدين أن تدفعي ثمن الكتمان. - ماذا تعني؟ - أعني أنك لا تعارضين أن أبلغ بكاروف والبقية عن هوكر ومقره.
فقال هوكر: بربك لا تفعل يا زيمر، أنا تحت رحمتك فأشفق علي، وأنت تعلم أني بريء.
فقالت إيفا: أدفع ثمن كل شيء، أدفع لك ثمن إخبارك إياي عن هوكر واستقدامه إلى هنا.
فقال: هذه ألفا ريال.
ثم استمرت تقول: وأدفع ثمن كتمانك الخبر عن الثلاثة والبوليس.
فقال: وهذه ألفان آخران أيضا، الجملة 4 آلاف. - لماذا ألفان آخران؟! - لماذا؟! إذا لم يدفع أفلن ألفا يدفع خمسمائة على الأقل، وقد قرأت أنه قال في آخر التحقيق أنه يتمنى أن يخسر ربع ثمن الدبوس؛ ليعلم إن كان هوكر غير شفلر، وبكاروف يقبل اليد فوق الخمسمائة ريال؛ لكي يقبض على عنق السالب العشرة آلاف، وشفلر لا يسأل عن 5 مائة ريال إذا عثر بالرجل الذي يشبهه، ويجترم الآثام باسمه، والشرف الذي أناله من البوليس يساوي أكثر من 5 مائة ريال، وربما نلت وظيفة في إدارة البوليس؛ مكافأة على هذه الخدمة.
قالت: أدفع لك 4 آلاف ريال فكن راضيا، ولكني أريد منك أن تتوسط عند بكاروف بأن أدفع له عن يدك 10 آلاف ريال؛ لكي يكف عن البحث عن هوكر، وذلك بعد أن تقنعه أن هوكر بريء وأن شفلر هو الذي لعب عليه.
فقال زيمر: إذن ألفان وألفان و10 آلاف وألف؛ الجملة 15 ألف ريال.
فقالت: لماذا الألف؟ - أجرة إقناع بكاروف. - يا الله! لا بأس سأدفع لك المبلغ كله متى أقنعت بكاروف. - بل تدفعين الآن يا سيدتي الأربعة آلاف ثمن البلاغ والكتمان، ومتى أقنعت بكاروف تدفعين الألف مع العشرة. - على الرأس والعين، لا أهرب من الحق.
ثم نهضت إيفا إلى مكتبها لتكتب تحويلا؛ فقال: لا أقبل تحاويل يا سيدتي، اعذريني. - لماذا؟ - لأنه يتعذر علي قبضها؛ إذ ليس عندي حساب في البنوك، وليس من يعرفني فيها. - ليس عندي نقد كاف. - كم عندك؟ - عندي نحو 2500. - هاتيها، وهاتي الباقي أسهما من شركة سكة حديد بنسلفانيا.
ففتحت إيفا خزنتها ودفعت له القيمة نقودا وأسهما، ومضى على وعد أن يعود إليها في مساء الغد مقنعا بكاروف. أما هوكر فقبل يدها وقبلته وقبلها مرارا، ومضى على وعد أن يأتي في الليلة التالية ليأخذ العشرة آلاف ريال، ويدفعها لأفلن ويرضيه ويسكته.
حين خرج هوكر كانت الدقيقة ال 40 قبل العاشرة، وبعد نحو 10 دقائق قرع باب مس كروس ففتح البواب، فقال الطارئ: قل لمس كروس: هنا المستر جان شفلر، يريد مقابلتك.
قال البواب: أين هو يا مستر هوكر؟
فقال: هل أنت أيضا تحسبني المستر هوكر؟! ألم نخلص بعد من هذه الشبهات؟!
فضحك البواب، وقال: أتظن أن تغيير ثوبك وخشونة صوتك يخفيان حقيقتك عني؟! لا أنساك في عشر دقائق إن كنت قد نسيتك في الماضي. - تعني أن هوكر كان هنا منذ عشر دقائق؟ - تعني أنك تتجاهل أنك كنت هنا منذ عشر دقائق؟ - إنك لبليد على ما أرى، قل لمس كروس ما قلته لك؛ إذ لا جلد لي على مجادلتك.
فامتعض الخادم، وقال: ماذا أقول لها؟ - قل لها إن المستر شفلر يريد مقابلتك. - أين هو شفلر؟ - أنا هو. - أنت هو؟ - قلت لك لا تبطئ. اذهب أخبرها أني أود مقابلتها لأمر يهمها، أو خذ ادفع لها هذه البطاقة.
فصعد الخادم ودفع لها بطاقة جان شفلر، فتأملتها مستغربة، وقالت: المستر شفلر هو الذي يطلب مقابلتي؟! - كذا يقول يا سيدتي - استدعه إلى هنا.
وفي هنيهة كان شفلر جالسا لدى مس إيفا كروس، وهي تتأمله مستغربة صنيعة الخالق في خلق اثنين متشابهين، وكانت تود أن يكون هوكر موجودا لكي تقابلهما، وتتحقق الفروق الدقيقة بينهما، وحاولت أن تجد موضع النقطة السوداء التي في عنق هوكر، حاولت أن تجد موضعها في عنق شفلر لترى بدلها البياض الغادي، ولكن شفلر كان مطوقا بطوق (ياقة) عريض فلم تنظر الموضع المقصود.
ولما استوى شفلر في مكانه جيدا قال: بلغني يا مس كروس أن المستر هوكر زارك الليلة.
فخفق فؤاد إيفا، وقالت: هوكر؟! - نعم، هوكر زارك الليلة. - كيف تعرف إن كان هوكر أو غيره زارني؟! - عندي جواسيس. - بأي حق تقيم جواسيس علي أو على منزلي؟! - لست عليك أقيم جواسيس يا مس كروس ولكن على هوكر، وقد علم جواسيسي أنه جاء إليك منذ قليل. - وهب الأمر كما تقول؛ فماذا شأنك؟! - أود أن تخبريني أين هو أو بالأحرى كل ما تعرفينه عنه. - أنا حرة أن أقول أو لا أقول. - إذن تقرين أنك تعرفين شيئا عن هوكر. - وأنا حرة أن أقول إني أقررت أو لم أقر، أو أقول إني أعرف أو أجهل. - نعم يا سيدتي! أنت حرة أن تقولي أو تكتمي، وأنا حر أن أبلغ إدارة البوليس ما أريد، وحر أن أقيم الجواسيس عليك وعلى منزلك، وأعلم بكل حركة تأتينها حتى أهتدي على هوكر، وأعلم سر علاقتك به.
فخفق قلب إيفا هلعا، ولكنها تشددت، وقالت: أنت تهينني يا مستر شفلر. - أنت تجرين الإهانة إليك يا مس كروس، أنت تعلمين كما يعلم الناس أن هوكر اختلس منك ومن أفلن ومن بكاروف، فكتمانك ما تعرفينه عنه يلقي الشبهة عليك، ويحمل على الظن أن لك علاقة سرية معه. - الرجل لم يختلس منك ريالا؛ فلماذا تهتم بالبحث عنه؟! دعه؛ فلا بد أن يكون مسكينا. - ولكنه مختلس اسمي وشكلي، ويفعل بهما ما يشاء من الموبقات، والمصيبة تقع علي. - وما أدرانا أنك أنت لا تختلس اسمه وشكله ولا تفعل بهما الموبقات والمصيبة تقع عليه؟! - هل تتهمينني هذه التهمة يا مس كروس؟! - كل شيء ممكن في الوجود، وإذا كنت لا تستحي أن تتهمني أني ممالئة لهوكر، فلا أستحي أن أتهمك أنك تفعل الشرور باسمه. - إذا كان بريئا؛ فلماذا يختفي؟ لماذا لا يظهر ليثبت براءته؟! - لأنك برأت نفسك في حين كان متغيبا، وألقيتم التهمة عليه وجعلتم تطاردونه. - إذن تعتقدين حضرتك أن هوكر بريء من التهم التي ثبتت عليه؛ ولهذا تساعدينه على التخفي! - لم أقل كذلك. - يكفي أن أبلغ إدارة البوليس أنك تعرفين مقره، ويكفي أن أقيم جواسيس على كل من يتصل بك فنهتدي إليه.
فسكتت إيفا هنيهة، ثم قالت بصوت خافت: مستر شفلر. - نعم، مس كروس. - أرجو منك أن تعدل عن مطاردة ذلك الإنسان. - لا أقدر يا سيدتي؛ فإن اسمي أصبح مضغة في الأفواه بسببه، وكل يوم أقع تحت تهمة، وصار شغلي الشاغل أن أبرهن للبوليس وللناس أني لم أفعل الفعلة التي فعلها جاك هوكر باسمي. - جاك هوكر لن يفعل شيئا بعد الآن، كما أنه لم يفعل أمرا إدا في الماضي، وما كان فكله سوء تفاهم. - وأين ذهبت ألوف الجنيهات التي اختلسها؟ - لم يختلس شيئا؛ فقد عاد أو سيعود كل ريال لصاحبه. - والعشرة آلاف التي بيني وبين بكاروف؟ - سترد له بعد الغد؛ إذ كنتم تتعهدون أنكم تكفون من مطاردة هوكر، وإن كان هوكر لم ير بكاروف ولا أخذ منه تحويلا ولا ريالا. - لا أفهم ماذا تعنين يا مس كروس؟ - لا تهتم بماذا أعني يا مستر شفلر، أرجو أن تكفوا عن الرجل؛ فإنه بريء وسليم النية وطيب القلب ومظلوم، والذي ضاع عليه ريال يأخذه، غدا يصل لبكاروف ماله. - أما أنا فلا أتنازل عن حقوقي يا سيدتي. - ما هي حقوقك؟ - هوكر أضر بي جدا، وكثيرون خافوا أن يعاملوني؛ لأنهم ظنوا أني هوكر أنصب عليهم، وأمس واليوم خسرت بسبب ذلك صفقتين لا يقل ربحي منهما عن 6 آلاف ريال، فأنا أدفع الآن ألف ريال وألفين وثلاثة؛ لكي أجد هوكر ولا بد من إيجاد هوكر.
فجعلت إيفا تفكر وشفلر وقف من شدة الحدة، وجعل يتمشى، ثم قال: لا مناص يا مس كروس من إقرارك عن مقر هوكر، لا بد أن أبلغ البوليس في الحال.
وهم أن يخرج؛ فأسرعت وأمسكته قائلة: تقول أنك خسرت بسبب هوكر 6 آلاف ريال، فأنا أعوضها عليك. - ولكن من يضمن لي في المستقبل أن هوكر لا يرتكب الجرائم باسمي؟! - أنا أضمن لك ذلك.
فسكت شفلر مفكرا، ثم قال: يا سيدتي تضعين نفسك تحت مسئولية عظمى، فدعينا نسلم الرجل إلى البوليس. - بربك لا، سترى هوكر رجلا صالحا، تعال خذ 6 آلاف ريال، وتعهد لي أنك لا تطارده بعد.
وتقدمت إيفا إلى مكتبها لتكتب تحويلا باسم جان شفلر بقيمة 6 آلاف ريال، وعند ذلك دخل البواب يقول: المستر أفلن يريد مقابلتك يا سيدتي.
فقالت: ماذا يريد الآن؟ لا بأس دعه يدخل.
فقال شفلر: أمهل يا هذا ريثما أخرج من هنا؛ لأني لا أريد أن أرى هذا الإنسان.
فقالت إيفا: لماذا؟! - أنسيت كيف كان يهينني أول أمس في أثناء التحقيق؟!
فقال للبواب: أدخل المستر شفلر إلى القاعة التالية ريثما يدخل المستر أفلن إلى هنا لكيلا يتصادفا.
وفي الحال أنهت كتابة التحويل، ودفعته إلى شفلر، فخرج وتبع البواب إلى القاعة المجاورة، ففتحها له، وقال: لك أن تقيم هنا ما شئت يا مستر هوكر أو يا مستر شفلر إذا لم تتنازل عن هذا الاسم.
فانتبه شفلر إلى خبث البواب، وقال: تعال يا هذا؛ فأدفع لك ما تريد.
وكان البواب قد خرج وابتعد وأجابه عن بعد: سبق السيف العذل يا هذا، وما فات مات.
فأطل شفلر من الشباك فوجد شرذمة من الشرطة محيطين بالمنزل؛ فحار في أمره.
أما أفلن ففي الحال دخل على مس كروس وقال لها: المستر هوكر عندك فأين هو؟
فبغتت إيفا، وقالت: كلا، ليس هنا. - دخل إلى هنا منذ ربع أو ثلث ساعة وكان هنا قبلا مرة أخرى.
فقالت: كان المستر شفلر هنا، وأما هوكر فلم يأت قط. - لا فرق بين شفلر أو هوكر، فأين شفلر؟ - خرج قبل أن دخلت، فما الخبر ؟ - لا تزالين تنخدعين يا مس كروس، متى كنت مع هوكر يجب أن تعدي أصابعك؛ لئلا يختلس منك إصبعا وأنت لا تدرين.
عند ذلك التفتت إيفا إلى أصابعها، فوجدت أن أكبر خواتمها مفقودا، فظنت أنه سقط من إصبعها، فنظرت إلى الأرض أمامها لعلها تجده، ثم خطر لها أنه لما كان هوكر يقبل راحتها كان ضاغطا على كفها وبالجهد خلصتها من بين كفيه، ورآها أفلن تبحث في أصابعها وفي الأرض؛ فقال: لا تزال أصابعك عشرة! لا تخافي، متى خرج هوكر؟
قالت: ويلاه! خاتمي خاتمي، أين خاتمي الجميل؟ - أظن أن هوكر سرقه من إصبعك وهو يصافحك؛ فعضت إيفا على شفتيها، وقالت: لعله بين حلاي، أما هوكر فلا أدري أين هو، وأما شفلر فخرج قبيل أن دخلت، أفما التقيت به في السلم؟!
فعاد أفلن كلمح البرق ونزل فوجد غريمه بين أيدي الشرطة وهو يقول لهم: أنا شفلر ألا تصدقون؟! غدا تندمون على هذا الاعتداء، لا بد أن يوقع الله هوكر في يدي، فأصب نقماتي عليه لأجل ما أقاسيه بسببه.
فقال أفلن: كفاك كذبا ونفاقا، لا يهمني إن كنت هوكر أو شفلر فأنت مختلس دبوسي، وما خطا به الشرطة بعض خطوات حتى رآهم زيمر وشفلر بينهم، فمشى نحوهم لكي يلتقي بهم وهو يغني لنفسه أغنية «أحبك ولو كنت تجهلني.» ولما وصلوا به إلى المخفر؛ قال أفلن لمدير البوليس: ها هوكر فاحتفظ به، وإن كنت تعتقد أنه يوجد شفلر فابحث عنه واجمعه بهذا لنرى شخصين باسمين.
فقال المقبوض عليه: أنا شفلر فأطلقوني وابحثوا عن هوكر فهو غريمكم.
فقال أفلن: أنت غريمنا إلى أن يوجد شخص باسم هوكر.
فقال مدير البوليس: غدا نرى إن كان يوجد شفلر آخر أو هوكر آخر، فإني أكاد أضيع لبي بين هذين الاسمين.
أما زيمر فمضى من هناك رأسا إلى «تشيناتون»، ودخل إلى مجمع العصابة السري، وهم يتوقعون بفارغ الصبر وأخبرهم بمجمل ما كان، ثم قال: بما أن نائب الرئيس يقوم مقام الرئيس في غيابه، فأنا أترأس الجلسة الآن ، وآمر أخانا المستر «بهل» أن يبرح الآن إلى وشنطون يمثل فيها دور شفلر، ولا سيما لأن هناك شخصا يعرفه بهذا الاسم، وبالطبع ينزل في فندق آستور ويعود حين نخبره تلفونيا، ولي الأمل أن يمثل دور شفلر جيدا، وأما هرتمان ونوبلي فيبقيان في المكتب - كالعادة - ولا يعرفان شفلر في السجن بل يعلمان أنه في وشنطون، والباقي علي.
وبعد ذلك جرى تفصيل البحث بينهم في هذه المواضيع مما لا موجب لبيانه هنا، وسيعرفه القارئ فيما بعد.
وفي صباح اليوم التالي الساعة 8 جاء مدير البوليس بنفسه إلى مكتب شفلر، فأظهر هارتمان ونوبلي استغرابهما إذ دخل عليهما وسألهما: أين المستر شفلر، ألم يأت بعد؟
فقال هارتمان: ذهب أمس إلى وشنطون. - متى يعود؟ - قد يعود غدا أو بعد غد، الله أعلم. - أتعرف أين ينزل هناك؟ - أعهد أنه ينزل دائما في فندق آستور. - من من معارفه هناك؟ - المستر هارفي سكريتير بنك سكندناشنال. - أرجو أن تتبعاني. - إلى أين؟ - إلى حيث أذهب؛ فلا تبطئا.
فأقفلا المكتب وتبعاه إلى أن وصلوا إلى المخفر، فاستقبل المدير سكريتيره وقال له هذا: لقد ثبت أنه هوكر بعينه؛ لأن صوته ناعم والنقطة السوداء في أيمن عنقه.
فهمس هارتمان في أذن نوبلي: هذه غلطة زيمر؛ فقد نسي أن يعطيه زجاجة يودور البوتاس.
فقال نوبلي: بل هي غلطة شفلر نفسه؛ فإنه اكتفى بالطوق العريض غير حاسب حسابا للتقادير.
ثم استدعاهما المدير إلى رواق فيه بضعة أشخاص، وجاء بالمقبوض عليه إلى غرفة مظلمة يطل شباكها على ذلك الرواق، فكان المقبوض عليه يرى من في الرواق وهم لا يرونه، وقال له المدير: إن كنت شفلر - كما تزعم - فلا بد أن تعرف المستخدمين عندك، فهل ترى أحدا منهما بين القاعدين هناك في الرواق؟
فقال: ليس أحد منهم هنا.
قال: هل رأيت الكل فلم تجد أحدا من مستخدميك بينهم؟ فأجال نظره، وقال: لا.
عند ذلك عزلهما المدير إلى مكان آخر وحدهما، وسأله: هل تعرف هذين الشخصين؟ - لا.
ثم صرفهما المدير فعادا إلى مكتبهما، وأما هو فأرسل إلى وشنطون التلغرافات التالية:
الأول: وشنطون
مدير البوليس
المرجو منكم أن تبحثوا في فندق آستور إن كان يوجد شخص باسم جان شفلر، ربع القامة، حليق الوجه جميله، أسود الشعر وأسمر العينين، واسألوا سكريتير بنك سكندناشنال إذا كان يعرفه، وليتتبع خفيتكم خطواته سرا إلى أن يبرح وشنطون، وحينئذ تخبروننا إلى أين برحها؟ جاوبونا على تلغرافنا هذا في أول فرصة بعد وصوله.
بتنهام مدير بوليس نيويورك
الثاني: وشنطون
فندق آستور
جان شفلر
أرجو عودتكم من وشنطون اليوم إن أمكن أو غدا من كل بد لأجل شغل ضروري يهمكم. جاوب.
جوزف بلاك المحامي
وأخبر مدير البوليس المحامي بلاك عن هذا التلغراف، وطلب إليه أن يدفع له الجواب إذا ورد جوابه.
ونحو الظهر ورد على مدير البوليس التلغراف التالي:
نيويورك
مدير البوليس
يوجد رجل حسب وصفكم، في فندق آستور باسم جان شفلر، سمسار في نيويورك في مكتبه في 160 برودواي، وهو هنا في شغل سمسرة على ما يقول، وقد سألنا عنه سكريتير بنك سكندناشنال؛ فقال إنه يعرفه وإنه قابله اليوم، ويظن أنه يبرح غدا.
رافل مدير بوليس وشنطون
وورد على المحامي بلاك التلغراف التالي:
نيويورك
جوزف بلاك
أجتهد أن أبرح إلى نيويورك غدا صباحا.
جان شفلر
وفي الحال، أرسل هذا التلغراف إلى مدير البوليس، فقال هذا في نفسه: غدا نستقبله ونجمعه بالسجين ونرى أيهما هوكر وأيهما شفلر.
وعند المساء، ورد تلغراف إلى مدير بوليس نيويورك من مدير بوليس وشنطون يخبره فيه أن المسمى جان شفلر برح الساعة الخامسة إلى فيلادلفيا على نية أن يبرحها غدا صباحا إلى نيويورك.
وكان كلما أخبر مدير البوليس المستر أفلن شيئا من أخبار جان شفلر في وشنطون يقول: إن كان يوجد جان شفلر حقيقي؛ أي إذا كان يوجد شخص آخر غير هوكر باسم جان شفلر فلا بد أن يظهر في مكتبه سواء عاد من وشنطون أو من فيلادلفيا أو من السماء أو من جهنم. وحينذاك نرى المتشابهين ونحكم على الجاني من الشخصين، وما دام جان شفلر بعيدا عن مكتبه وعن قومه؛ فنحسب جان شفلر وجاك هوكر شخصا واحدا سجينا في سجن مركز البوليس.
الفصل الثالث عشر
مؤامرة في السجن
في الساعة الحادية عشرة مساء، جاء إلى مركز البوليس رجل في ثوب قديم وسخ كل قطعة منه بلون وشكل، وعلى رأسه قبعة عريضة الحاشية جدا ولقدميتها صارت الحاشية مدلاة قليلا، وطلب إلى مأمور سجن البوليس أن يفتح له إحدى غرف السجن لكي ينام؛ إذ ليس معه أجرة فندق لينام، وهذه عادة مألوفة في أميركا، فإن بعض العمال الذين تشتد بهم الفاقة حتى لم يعد معهم أجرة نوم ليلة يلجئون إلى مراكز البوليس وينامون في سجونها، فلما وافى هذا الرجل وطلب هذا الطلب سأله مأمور السجن: ماذا تشتغل أو بالأحرى ما هي صناعتك؟ - لا صناعة خاصة لي، ولكني اشتغلت بالأكثر في دهن الجدران والأخشاب. - ألا شغل لك الآن؟! - مر علي إلى الآن شهران من غير شغل؛ فأنفقت كل ما جمعته. - أنفقته في الحانات يا تعس! - لا وايم الحق، ولكن قلة الأشغال في هذه الأيام تذل الرجال، على أن المستر برون سكريتير جمعية الشبان المسحيين وعدني بشغل في الجمعية غدا، ولهذا يجب أن أعود باكرا جدا؛ لأني أضطر أن أمشي إلى هناك؛ إذ ليس معي إلا ما أدفعه ثمن فطوري، فأرجو أن تتكرم علي بغرفة أنام فيها الليلة.
ففتح المأمور دار السجن ودخل الرجل وراءه، ثم فتح له غرفة فيها سرير وكرسي ومائدة ومصباح، ثم دله على المرحاض وعاد، فأقفل باب الدار وأوى إلى غرفته.
أما الرجل فبعد أن قعد في غرفته برهة، وهو يقرأ في إحدى الجرائد، خرج إلى المرحاض وهو يغني بصوت خافت، ثم عاد وهو يغني، وما دخل إلى غرفته حتى وجدها مظلمة، وسمع فيها رجلا آخر يقول له: أخاف أن غناءك يوقظ القوم. - هل شعر بك أحد إذ أتيت من غرفتك إلى غرفتي؟ - كلا، فإن غرفتي الثالثة بعد غرفتك وليس بيننا دخيل، ولكن يوجد سجين واحد فقط أظنه نائما. - حسن جدا، هات ثوبك وحذاءك وقبعتك وقميصك إلى هنا وخذ ثوبي وقبعتي وحذائي في الحال، ثم عد فأخبرك.
وفي الحال نزع ضيف السجن ثوبه؛ فأخذه ذاك إلى غرفته بكل خفة من غير أن يشعر أحد، وعاد بثوبه إلى غرفة الضيف، ثم أقفلا الغرفة - وهي لا تزال مظلمة - وجلسا معا على السرير؛ فقال السجين: ثم ماذا؟ - يجب أن تستيقظ الساعة الخامسة صباحا، وتنقر على باب الدار حتى يصحو السجان، فتقول له: «بربك افتح لي لكي أذهب؛ لئلا يستبطئني المستر برون.» فإذا قال لك: «لم يزل الوقت فجرا.» قل له: «إني مضطر أن أمشي إلى شارع 93، فإذا لم أبكر فلا أصل في الموعد المعين.» ويجب أن تعرف أن صناعتك دهن الجدران والخشب، والمستر برون سكريتير جمعية الشبان المسيحيين ينتظرك صباح اليوم الساعة السابعة لتشتغل عنده، وليس معك إلا خمسة سنوت فقط؛ ثمن فطور بسيط. - بارك الله بهمتك يا زيمر ثم ماذا؟ - متى خرجت من هنا تصعد إلى محطة القطار العلوي الغربية (القطار الذي يسير على صقالات فوق الشوارع)، فتجد هناك «نوبلي» فتدخلان إلى المرحاض الواحد بعد الآخر وتتبادلان ثوبيكما، ويعطيك نقودا وهو يعرف إلى أين يذهب، وأنت تذهب إلى محطة سكة بنسلفانيا، وتسافر في أول قطار إلى ترنتون، وهناك يلتقي بك بهل عائدا من فيلادلفيا ويخبرك ماذا تفعل، فقم. - هل أنت ناعس يا زيمر الآن؟ - كلا، ولكني أخاف أن السجان يداهمنا هنا. - لا تخف؛ السجان أتى مرة فلا يأتي بعد؛ لأجل سجينين برهن سلوكهما أنهما هادئان إلا إذا كان يوجس منك. - مني لا يوجس قط؛ لأني أتقنت تمثيل دوري كما تعهد. - إذن لا تخف فلا يأتي بعد؛ فقل إذن ما هي وظيفة أخينا بهل؟ - بهل ذهب منذ أمس ليلا أي على أثر القبض عليك إلى وشنطون، وهناك مثل دور جان شفلر. - حسن جدا؛ فإن هناك بعضا يعرفونه بهذا الاسم. - ولهذا ما زلت أنت هوكر في نظرهم هنا، وإن ادعيت أنك شفلر لأن ...
فقاطعه قائلا: لأن النقطة السوداء لا تزال في عنقي، وما حسبنا نحن حساب القبض علي لكي نزيلها، فاكتفينا بتغطيتها بالطوق العريض، ولكن لا بأس فقد فهمت قصدك من أغنيتك «أحبك ولو كنت تجهلني.» فأبقيتهم يعتقدون أني هوكر ويؤكدون ذلك؛ لأن مدير البوليس أراني هارتمان ونوبلي فتجاهلتهما، وبذلك أعتقد أني هوكر بعينه وإن كنت أنا ما زلت أدعي أني شفلر. - صدق ظني بأن تكون فطنا وتلقي تبعة كل الجرائم على هوكر وحده لكي يبقى شفلر بريئا، ونحن نتكفل. - أؤكد أنكم تتكفلون بتخليص هوكر، بقي أنك قلت لي أن بهل عائد من فيلادلفيا، ثم قلت لي إنه ذهب إلى وشنطون، فكيف ذلك؟ - ذهب إلى وشنطون أمس، وفي هذا المساء خاطبناه تلفونيا أن يأتي إلى فيلادلفيا، وينام في فندق ريمون، ومنذ الساعة الخامسة ينتظر تلفونا منك تخبره فيه أنك ذاهب في القطار التالي إلى ترنتون فيلاقيك إليها، ثم تعود في نفس القطار بناء على تلغراف من جان شفلر من فيلادلفيا إلى شريكه جوزف بلاك المحامي يخبره فيه أنه قادم في قطار الساعة التاسعة. - برافو زيمر، الحق إنك لتستحق أن تكون نائب الرئيس، بقي أن أعلم كيف تخلص أنت؟
هذه مسألة بسيطة لا تهتم بها، فقم نم الآن، وها زجاجة فيها محلول يودور البوتاس لإزالة النقطة قبل الخروج من هنا.
فتناولها شفلر أو هوكر وفتحها في الحال لكي يزيل النقطة فشم رائحة قوية منها؛ فقال: ويحك يا زيمر! هذا كلوروفورم (بنج). - بالله هاتها، هذه زجاجتي، وخذ هذه زجاجتك وقم في الحال.
عند ذاك عاد هوكر إلى غرفته وأزال النقطة؛ فأصبح في لحظة شفلر، ثم نام.
الفصل الرابع عشر
سجن ولا سجين
لم ينم شفلر أكثر من 3 ساعات، فلما سمع ساعة السجن تقرع الخامسة نهض ولبس ثوب زيمر، فأصبح ذلك العامل الذي نزل ضيف ليلة في السجن، فخرج وأقفل غرفته، وتقدم إلى باب الدار، ونقر عدة نقرات، فنهض السجان من سريره، وفتح باب غرفته، وهو محاذ لباب الدار، وقال: ماذا تريد يا ثقيل؟ فإني كنت أحلم بالسعادة فقطعت علي حلمي. - وأنا كنت أحلم بالجوع فنهضت مرتعبا، وتذكرت في الحال أن المستر برون ينتظرني. - أي برون هذا يصحو الآن ؟! فعد إلى غرفتك يا ثقيل. - بربك أطلقني الآن؛ فإني مضطر أن أمشي على قصب رجلي حتى شارع 93، رحماك يا سيدي إذا لم أشتغل اليوم أموت جوعا.
وكاد صوته يملأ الدار، فعاد السجان بالمفتاح، وفتح له حتى إذا خرج ركله برجله قائلا: لا تعد إلى هنا بعد اليوم؛ فإني لا أقبل ضيوفا يزعجونني في نومي الهنيء.
فخرج وهو يتعثر ببعض الشرطة الذين غلب عليهم النعاس وهو يقول: ماذا أشتري بخمس سنوت لأملأ جوفي يا رباه؟!
فكان يركله الواحد بعد الآخر حتى صار في الشارع.
فلما كانت الساعة الثامنة، فتح السجان باب دار السجن، فوجد السجين الآخر يتمشى؛ فسأله: هل صحا هوكر؟ - يظهر أنه لم يصح بعد. - حان موعد الفطور؛ فإلى متى النوم؟!
ثم تقدم إلى غرفته ونقر فلم يسمع صوتا؛ فحرك مصراع الباب فانفتح فدخل، ودهش إذ لم يجد أحدا ففتح بعض الغرف حتى وصل إلى الغرفة التي يعهد أن الضيف كان فيها، فلما فتحها وجد فيها رجلا نائما خافت النفس، ثم تقدم إليه فوجد على أنفه منديلا. وفي الحال، شم رائحة الكلورفورم، والتفت فرأى زجاجة كلورفورم على الطاولة، ولكنها مقفلة، ولم يبق فيها إلا النزر اليسير، فأسرع واستدعى مدير البوليس فحضر، وفي الحال حملوا الرجل إلى غرفة أخرى نقية الهواء، فعاد نفسه إليه، فأجلسوه وجعل يلتفت حوله وهو يقول: أين أنا؟ ماذا جرى بي؟ كنت أحلم أحلاما سعيدة؛ فلماذا قطعتموها علي؟ حلمت أن أمامي غرفة من العيش، وقصعة من الأوت ميل، وعجلا كله ستيك، وديكا روميا مقليا.
فالتفت المدير بالسجان، وقال: من هذا؟
فأجاب السجان مذعورا: مولاي هذا ... هذا هوكر، هذا ... - أراك جننت ما هذا هوكر، من هذا؟
فأجاب وهو ينتفض من الخوف: هذا ضيف يا سيدي ولكن ... - ولكن ماذا؟ - الضيف خرج، وبقي هوكر. - يا لله! خرج هوكر؟! - أظن كذا يا سيدي خرج بدل هذا. - قبحك الله! ألا تميز بين هوكر وغيره، ثم التفت المدير إلى الرجل، وقال: من أنت؟ - أنا عامل فقير لا أملك شروى نقير، ولم يبق معي أجرة سرير، فأويت إلى هنا في الليلة الماضية، والآن صحوت بين أيديكم لا أدري ما الخبر، كم الساعة الآن؟ ويلاه! المستر برون يستبطئني الآن لا يقبلني بعد فماذا أفعل؟ كيف أحصل قوت اليوم يا ناس ارحموني؟!
وكاد الرجل يعول؛ فجره المدير إلى غرفته التي نام فيها وأجلسه على الكرسي، وجعل يتأمل في الغرفة، فرأى ثوب هوكر معلقا، فقال له: أين ثوبك؟
فالتفت الرجل إلى الثوب المعلق، وقال: لا أدري أين هو؟ ليس ذاك ثوبي، لعل القسيس أبدله شفقة علي إذ رأى ثوبي رثا.
فقال المدير: أي قسيس هذا؟ - كيف تسأل؟! قسيس السجن زارني أمس، ووعظني وكلمني كلاما حلوا ولطيفا، ووعد أن يساعدني وبقينا ساهرين معا نحو ساعة وهو يسألني عن كل دقيقة من حياتي.
فقال السجان: وهل أخبرته أنك ستشتغل اليوم عند المستر برون؟ - بالطبع؛ لأن المستر برون صاحبه على ما فهمت؛ فقال المدير: والله إنها لفعلة هوكر اللعين لقد خدعنا بحيلة غريبة، ولكن ألم تفتشه قبل أن أدخلته إلى السجن؟
فقال السجان: فتشته جيدا فلم أر معه زجاجة كلورفورم. - مثل هوكر لا يعجز عن أن يخبئها في مكان لا يهتدى إليه.
ولكن أنت أحمق يا هذا، أما أنعمت النظر في من خرج من عندك لتعلم إن كان الخارج ضيفا أو سجينا؟! - كانت الساعة الخامسة والوقت ظلام، وأنا لم أزل ناعسا فلم يخطر لي أن هوكر يخرج بهذه الحيلة.
ثم أذن المدير لذلك الضيف أن يلبس ثوب هوكر ويخرج إلى مسترزقه، وجلس إلى مكتبه مكتئبا جدا لفرار هوكر، وما هي إلا هنيهة حتى دخل على المدير المستر جوزف بلاك المحامي باسما، وقال له: ورد إلي هذا التلغراف من جان شفلر يقول إنه يصل إلى هنا الساعة التاسعة، فرأيي أن نستقبله في المحطة، ونأتي به إلى هنا لكي يقابل شبيهه. - فضحك المدير مكفهرا، وقال: يظهر أن هذين الشخصين لن يجتمعا معا. - ماذا تقول؟ - أقول أن هوكر قد فر.
وعند ذلك روى له ما كان في السجن؛ فاستغرب بلاك كل الاستغراب، ثم ذهبا معا إلى المحطة قبل التاسعة، ولما وصل القطار كان شفلر أول الخارجين منه، فصافحهما باسما متوددا، وقال بلاك: وصلني تلغرافك، وأنا على أهبة أن أعد صديقا أن أقبل دعوته للغداء اليوم؛ فأريته تلغرافك واستأذنته أن يعفيني. - هل تلغرافي معك؟ - نعم، ها هو.
ومد شفلر يده إلى جيبه، واستخرج أوراقا منها وتناول من بينها التلغراف بعينه ودفعه لبلاك.
أما مدير البوليس فعاد إلى مقره، وبث الشرطة والجواسيس في كل جهة من نيويورك وضواحيها وشدد عليهم النكير في أن يجدوا هوكر.
وأما شفلر فذهب مع بلاك إلى مكتبه، وهناك سأله عن الغرض الذي لأجله أرسل تلغرافا يستدعيه؛ فقال بلاك: جاءني بعض من معارفي وأقاربي يودون أن يشتروا قطعا من الأرض التي لنا في «لون آيلند»، وإلى الآن لم نقطعها ونخططها ونعلن عنها؛ فوددت أن نهتم بذلك سريعا. - الحق معك، ولكني أتأسف أني منشغل جدا في هذه الأيام؛ فلا أقدر أن أقوم بذلك فإذا كنت أنت أو بكاروف تستطيعان أن تتوليا هذه المهمة، فالذي يقوم بها منكما يحسب أتعابه على الشركة. - وبكاروف يقول كذلك أيضا. - إذن تول الأمر أنت يا مستر بلاك، خذ غدا عملة وخطط لهم الأرض حسب خارتتنا ودعهم يشتغلون.
على هذا الأمر افترق الاثنان.
الفصل الخامس عشر
التقاء هوكر وشفلر في حلم
في مساء ذلك النهار وردت رسالة في البريد إلى مدير البوليس، هذا نصها:
مستر بنهام مدير البوليس
في نيويورك
أما بعد: فقد ضقت ذرعا من عيشة الفرار من مكان إلى مكان من وجه الشرطة الجهريين والسريين، وعن نيويورك لا غنى لي؛ ولذلك شعرت أني واقع في أيديهم لا محالة، ولهذا فضلت أن أسلم نفسي إليك تائبا حتى متى سمعت وجدتني رجلا طيبا، وتقبل اقتراحي في أن تعينني شرطيا، فأفيد المدينة أكثر من أن أكون في سجنها يوما ثم أهرب، فإذا مررت غدا أمام مركز البوليس ووجدت عند الباب راية بيضاء علمت أنك وعدت بشرفك أن تعفو عني، وتعينني بوليسا سريا، سأمر من هناك بين الساعة 8 و10.
جاك هوكر
الطريد
فلما قرأ مدير البوليس هذه الرسالة دهش وذهب توا إلى حاكم نيويورك، وعرضها عليه وسأله رأيه، فقال: عده وعدا صادقا، ولا ترى أفضل من هوكر بوليسا سريا، ومن كان في وظيفة كهذه، فلا بد أن يتوب عن أفعاله، فانصب الراية غدا.
وفي صباح اليوم التالي، ظهرت الجرائد ناشرة هذا الخبر وقرار الحاكم أيضا، فتقاطر الألوف إلى أمام دار البوليس لكي يروا هوكر الذي حير البوليس وهرب من السجن، والمستر جان شفلر نفسه سأل في التليفون مدير البوليس عن صحة الخبر فأثبته له، فقال شفلر له: سآتي الآن إليك لكي أرى هوكر هذا؛ لأني رأيته الليلة الماضية في نومي مصافحا لي، ولهذا أتوق أن أراه.
وكانت الساعة الثامنة ونصف حين وصل جان شفلر إلى مكتب مدير البوليس، فحياه تحية الصديق للصديق، وسأله: أما جاء هوكر بعد؟ - لم يجئ بعد، ننتظره الدقيقة بعد الدقيقة، ولكن مرت الساعة التاسعة كلها حتى وافت العاشرة وهوكر لم يأت، فقال شفلر: لقد مللت الانتظار وعندي شغل، فلا أقدر أن أنتظر بعد، فإن جاء في غيابي أرجو أن تكلمني تلفونيا فآتي حالا.
فوعده المدير بذلك، وذهب، ثم مرت الساعة بعد الساعة حتى بعد الظهر فلم يأت هوكر؛ فيئس مدير البوليس والذين انتظروه معه من مجيئه، وقال بعضهم: إن هوكر يهزأ بالبوليس والحكومة، وقال آخرون: لعله غير واثق من وعد الحاكم بالعفو، فقرر الحاكم أن ينشر العفو عنه في الجرائد رسميا لعله يؤمن فيسلم.
ولما كانت الساعة السابعة مساء طلب مدير البوليس إلى التليفون؛ فتناول البوق ووضعه على أذنه، وقال: من هذا؟ - أنا دولن أحد الشرطة السريين. - ماذا عندك؟ - علمت من مصدر ثقة أن هوكر وشفلر سيجتمعان اجتماعا سريا هذه الليلة الساعة الثامنة في مكتب شفلر، وسيكون المكتب مقفلا مظلما حسب عادتهما؛ لأنهما كان متواطئين دائما، وكذا كانا يجتمعان. - كيف عرفت ذلك؟ - متى التقينا أخبرك، أنا في جرزي ستي الآن؛ فعجلوا بالاستعداد للقبض عليهما معا.
عند ذلك، جمع مدير البوليس قوة من الشرطة الجهريين والسريين، وأوعز إليهم أن يذهبوا واحدا بعد الآخر إلى 160 برودواي، وينبثوا في جهات مختلفة حول ذلك المكان من غير أن يلاحظ أحد، وأن ينتبهوا للإشارة جيدا حتى متى سمعوها أسرعوا وأحاطوا بمنافذ المكان.
وكان مدير البوليس قد أوعز إلى بواب البناية أن البوابة غير موصدة، وكان اثنان من البوليس السري قد دخلا إلى البناية وصعدا إلى السطح، فلما صارت الساعة الثامنة دخل المدير واثنان من الشرطة، وصعدوا إلى مكتب شفلر من غير أن يسمع لوقع أقدامهم صوت، فوجدوا الباب مقفلا كسائر أبواب المكاتب في البناية، فنقر المدير عليه فلم يجب أحد من الداخل قط، فحرك مصراع الباب فانفتح في الحال كأنه غير موصد، ولكن لم ير شيئا في الظلمة؛ فنادى: «شفلر، هوكر»، فلم يجب أحد، فخاف أن يغدرا به إذا دخل. فأشعل أحد الشرطيين عود ثقاب (كبريتا)، ودخل والمدير معه فلم يلمحوا أحدا في المكان، وقبل أن ينطفئ العود ضغط زر النور الكهربائي فضاء المكتب فلم يجدوا أحدا، ولكن وجدوا على الجدار ورقة وقد كتب فيها بالقلم العريض هكذا: «إذا كان شفلر وهوكر قد زاراك أمس من الساعة الثامنة ونصف حتى الساعة العاشرة ولم تهتد إليهما؛ فهل تنتظر أن تهتدي إليهما في هذه المرة؟! الوداع، الوداع يا دائرة البوليس، ويا أفلن، ويا بكاروف، ويا بلاك، ويا مس كروس.»
فبهت مدير البوليس إذ قرأ هذه الكتابة، وبعد هنيهة قال: إذا لم أستطع القبض على هذين الشقيين فيجب أن أستعفي.
وما انتهى من هذه العبارة حتى دخل بلاك، وقال: قل هذا الشقي ولا تثن؛ لأن هوكر وشفلر واحد، إن شفلر هذا لنصاب عظيم، الأرض التي باعها للشركة التي عقدناها معه ليست ملكه؛ بل ملك رجل آخر لأننا لما شرعنا اليوم بتخطيطها جاء مالكها الأصلي ومنعنا وأثبت لنا أنها ملكه.
عند ذلك دخل دولن أحد الشرطة السريين؛ فقال له مدير البوليس: من قال لك أن شفلر وهوكر سيجتمعان هنا الليلة؟ - لم يقل لي أحد، ولا قلت لأحد كذلك، ولما أتيت إلى مركز البوليس، وسألت سؤالك هذا وعلمت أن واحدا كلمك باسمي كذلك أسرعت لأرى ما الخبر، وخطر لي أن شفلر نفسه هو الذي كلمك باسمي لأنه يعرفني، ويعرف أني بوليس سري.
وعند ذلك عاد الكل بصفقة المغبون، وفي اليوم التالي ظهرت جرائد نيويورك تهزأ بإدارة البوليس التي لعب فيها شفلر ألاعيبه وهي لا تدري، والقراء دهشوا لغرائب هذا الإنسان وصاروا يتوقعون منه أعمالا أغرب وأعجب.
نامعلوم صفحہ