Hudud and Ta'zir in Ibn al-Qayyim's Thought
الحدود والتعزيرات عند ابن القيم
ناشر
دار العاصمة للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الثانية ١٤١٥ هـ
اصناف
ـ[الحدود والتعزيرات عند ابن القيم]ـ
المؤلف: بكر بن عبد الله أبو زيد بن محمد بن عبد الله بن بكر بن عثمان بن يحيى بن غيهب بن محمد (المتوفى: ١٤٢٩هـ)
الناشر: دار العاصمة للنشر والتوزيع
الطبعة: الثانية ١٤١٥ هـ
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي]
نامعلوم صفحہ
حقوق النشر محفوظة
النشرة الثانية ١٤١٥ هـ
دار العاصمة
المملكة العربية السعودية
الرياض - ص ب ٤٢٥٠٧ - الرمز البريدي ١١٥٥١ هاتف ٤٩١٥١٥٤-٤٩٣٣٣١٨- فاكس ٤٩١٥١٥٤
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على توالي نعمه وعظيم إفضاله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته. وأشهد أن محمدًا عبده المجتبى ونبيه المصطفى. صلى الله وسم عليه وعلى آله وأصحابه وبعد:
فإنه في ليلة الخامس والعشرين من شهر الله المحرم من عام أربعمائة وألف من الهجرة النبوية منَّ الله تعالى علي بمناقشة رسالتي باسم (الحدود والتعزيرات عند ابن قيم الجوزية/ دراسة وموازنة) (١) وذلك في قاعة المعهد العالي للقضاء بمدينة الرياض، وكانت هذه الرسالة تقع في ثمان وثمانمائة صفحة بقسميها.
وقد طبعت القسم الأول منها باسم (ابن قيم الجوزية حياته وآثاره) في كتاب مستقل. ثم أعدته مع زيادات هامة في مقدمة كتابي الموسوعي لفقه ابن قيم الجوزية (٢) .
والآن أحتسب عند الله تعالى تقديم كتابي هذا، الحدود والتعزيرات عند ابن
قيم الجوزية/ دراسة وموازنة. والذي يمثل الموضوع الرئيسي للرسالة. راجيًا من
_________
(١) مقدمة لنيل الشهادة العالمية العالية. وبالاصطلاح الغرب الوافد (ماجستير) . وقد حصلت على تقدير (ممتاز) .
(٢) طبع منه جزآن الأول والثاني، والبقية تحت الطبع.
1 / 5
الله تعالى أن ينفعني به ومن شاء من عباده.
وإن هذا الموضوع في دراسته التحليلية هو في الواقع واحدة من ثمار تتبعي لفقه ابن قيم الجوزية من كتبه المطبوعةِ والتي تبلغ واحدًا وثلاثين كتابًا في قرابة ستين مجلدًا في نحو عشرين ألف صحيفة.
والآن أضع إمام الناظر في هذا الكتاب طلائعه المثلة لمفاتيح التصور للبحث ودوافعه، وتفسير عنوانه. ومسالك البحث فيه. وتبيانها كالآتي:
موضوع البحث:
لقد تحصّل لي من السير في ذلك المشروع المبارك (التقريب لفقه ابن قيم الجوزية) . أن لابن القيم رحمه الله تعالى مباحث عزيزة المطلب: في الحدود والتعزيرات منتشرة في أربعة عشر كتابًا من مؤلفاته (١) عالجها من ناحيتين: أولاهما: من ناحية حكمتها وأسرارها التشريعية.
والثانية: من ناحية أحكامها الفقهية.
وقد أولى ذلك عناية فائقة، وبسط الكلام في الكثير منها أشد البسط فنالت من تحقيقاته وآرائه وتحريراته: النصيب الأوفى والحظ الأوفر. وحسبي في هذه الدراسة أن أتناول ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في هذه الجزئية من مباحثه بالدراسة
_________
(١) هي: ١- أحكام أهل الذمة ٢- أعلام الموقعين عن رب العالمين ٣- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ٤- إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ٥- بدائع الفوائد ٦- تهذيب سنن أبي داوود ٧- الداء والدواء ٨- روضة المحبين ونزهة المشتاقين ٩- الروح ١٠- زاد المعاد في هدى خير العباد ١١- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ١٣- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ١٣- المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ١- الوابل الصيب في الكلم الطيب.
1 / 6
والتحقيق والموازنة والترجيح بين رأيه وغيره من المذاهب. مبينًا ما التقى فيها مع غيره وما انفرد به عن المذاهب الفقهية المشهورة: الحنفية (١) والمالكية (٢) والشافعية (٣) والحنابلة (٤) .
وبذلك تبرز مكانته (٥) العلمية بجلاء.
دوافع البحث:
والغاية التي دفعتني الى اختيار مباحث " الحدود والتعزيرات" من بين عامة مباحثه، لتكون موضوعًا لهذه الرّسالة، هي في وجوه متعددة منها ما يلي:-
الأول: أن القاضي أحوج ما يكون الى مباحث ابن القيم في ذلك، إذ أنه رحمه الله تعالى من أولئك العلماء الأفذاذ الذين انطلقوا من ربقة التقليد ونهجوا في
_________
(١) نسبة الى إمام المذهب: أبي حنيفة النعمان بن ثابت التيمي مولاهم الكوفي ولد سنة ٨٠ هـ وتوفي سنة ١٥٠ هـ (انظر: تاريخ بغداد/ للخطيب البغدادي ١٣/٣٢٣ وتذكرة الحفاظ للذهبي ١/١٦٨) .
(٢) نسبة الى إمام المذهب: مالك بن أنس الأصبحي نسبًا. إمام دار الهجرة وعالم المدينة ولد سنة ٩٥ هـ وتوفي سنة ١٧٩ هـ (انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي ١/٢٠٧، الأعلام للزركلي ٦/١٢٨) .
(٣) نسبة الى إمام المذهب: محمد بن إدريس بن العباس القرشي الشافعي. عالم قريش ولد سنة ١٥٠ هـ وتوفي سنة، ٢٠٤ هـ (انظر: تذكرة الحفاظ ١/٣٦٧، الأعلام للزركلي٦/٢٤٩) .
(٤) نسبة الى إمام المذهب: أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني إمام أهل السنة ولد سنة ١٦٤ هـ وتوفي سنة ٢٤١ هـ انظر (تاريخ بغداد ٤/٤١٣، تذكرة الحفاظ ٢/٤٣١، طبقات الحنابلة ١/٤ الأعلام للزركلي ١/١٩٢) .
(٥) كثر في لسان الأدباء والمحدثين التعبير بلفظ "شخصي" بمعنى عظيم وذو مكانة وقد رغبت عن هذا اللفظ لأنه محدث لا يساعد على معناه المراد منه وضعه اللغوي. (انظر: المعجم الوسيط لأحمد الزيات ورفيقاه ١/٤٧٨، ط مجمع اللغة العربية بمصر وانظر: تقويم اللسانين للهلالي ص ١٠٥/١٠٦ط الأولى الرباط سنة ١٣٩٨ هـ) .
1 / 7
البحث والتحقيق منهج الاستدلال والمناقشة. وهذا ما يتطلبه القاضي المنصف المتطلب للصواب والحكم بين الناس بالحق.
الثاني: أن أحكام الحدود والتعزيرات هي من أهم أعمال القضاء إذ عليها المدار لحفظ الضروريات:
ففي حد الردة حفظ الدين.
وفي حد الزنا حفظ الأنساب.
وفي حد الخمر حفظ العقل.
وفي حد القذف حفظ الرض.
وفي حد السرقة حفظ المال.
وابن القيم رحمه الله تعالى قد أفصح عن جل أحكام هذه الحدود وحكمها وأسرارها وتحقيق ما يلائم سياسة الأمة بالعدل وحالة العمران في كل زمان ففي تقريبها تحقيق لذلك.
الثالث: أنه رحمه الله تعالى لم يؤلف في ذلك تأليفًا مستقلًا- حسب التتبع بل هي أبحاث متناثرة في كتبه المتكاثرة. والوقوف على الكثير منها قد يكون صعبًا لذلك ولوجود طائفة منها في غير مظنته. إذ أنه رحمه الله تعالى يكثر الاستطراد لأدنى مناسبة، لسيلان ذهنه وفقه نفسه.
ومن هنا يعم الناظر شدة الحاجة ومبلغ الأهمية لجمعها في صعيد واحد وترتيبها على النسق المعروف في المدونات الفقهية تيسيرًا للقارئ وتوفيرًا لجهده
الرابع: أنه قد كثر الشغب في الأزمان المتأخرة من المستشرقين وتلامذتهم بالتنديد بالعقوبات الإسلامية المقدرة على الجرائم الأخلاقية من أنها: وحشية
1 / 8
وتعسف إلى أمثال هذا الطيش وتلك القلاقل والبداءات بغيًا من أنفسهم للصد عن دين الله وشرعه وتحكيمه في أموال الناس وأعراضهم وسائر أحوال مدنيتهم.
وإن ابن القيم رحمه الله تعالى قد أبان من حكمة التشريع وأسراره لهذه العقوبات ما أماط اللثام وأزهق الباطل، ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. وقد نظرت في مباحث حكمة التشريع عند جماعة من أهل العلم فلم أر عالمًا يفري فريه قد ضرب من الحق بعطن أمثال هذا الإمام: في مباحثه العزيزة وتحقيقاته المنيفة.
فكأنما أعطى رحمه الله تعالى نسخة من إيراداتهم، فكر عليها بالنقض حتى أصبحت في حساب الوساوس والأحلام الرديئة.
ومن المعلوم أن تقرير ذلك من أهل العلم لم يكن الا ردًا للباطل وزيادة في تثبيت الإيمان، وإلا فمقتضى الإيمان وموجب الإسلام: التسليم لأوامر الله ونواهيه سواء علمنا حكمة التشريع أم لا.
هذه جملة من الأسباب التي دفعتني الى اختيار "الحدود والتعزيرات عند ابن قيم الجوزية" موضوعًا للرسالة. وأرجو أن تكون أسبابًا مقنعة للتدليل على سلامة الاختيار وأحقيته عند أنصار ابن القيم وخصومه على السواء
تسمية الرسالة:
ولما كانت تسمية الكتاب أو الرسالة من المتعين على أهل الإسلام أن يراعوا
في ذلك الأصالة في اللسانين: لسان الشريعة المطهرة، واللغة العربية الكرمة كالشأن في سائر محرراتهم وألفاظهم.
ولما كانت تسمية الرسالة ينبغي أن توحي بموضوعها وفلكة مغزلها الذي تدور عليه حتى تكون التسمية كالإطار العام للرسالة.
1 / 9
لما كان الأمر لا بد أن يكون كذلك فقد وسمت هذه الرسالة بما يلي: (الحدود والتعزيرات عند ابن قيم الجوزية/ دراسة وموازنة) .
إيضاح هذه التسمية:
فلفظ (الحد والتعزير) لفظان جاريان في اللغة والاصطلاح (١) وجعلهما الفصل الأول في عنوان الرسالة يفيد موضوعها.
ولفظ (عند ابن قيم الجوزية) يقيد الإطلاق في الفصل الأول. فيتقيد الموضوع بحدود ما ذكره ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى.
ولفظ (دراسة) من ألفاظ القرآن الكريم في بضع آيات (٢) كما في قوله تعالى: (٣) (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) والدراسة هنا تعني القراءة ومعاهدة المقروء والتفهم (٤) .
وأما لفظ (موازنة): فهي تأتي في اللغة بمعنى المقارنة بين الشيئين والمحاذاة. قال الرازي (٥):
(وازن بين الشيئين موازنة ووزانًا، وهذا يوازن هذا إذا كان على زنته أو كان محاذيه) .
_________
(١) يأتي بيان معناهما.
(٢) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم/ لمحمد فؤاد عبد الباقي ص/٢٥٦ ط بيروت.
(٣) الآية رقم ٧٩ سورة آل عمران.
(٤) انظر: مختار الصحاح للرازي ص/٢٠٣ ط الأولى سنة ١٩٦٧ م بيروت والمعجم الوسيط إخراج أحمد الزيات ورفقاه جلد اص/٢٧٩ ط مجمع اللغة العربية بمصر. ومعجم متن اللغة لأحمد رضا ٢/٤٠٠ ط مكتبة الحياة في بيروت سنة ١٣٧٧ هـ.
(٥) انظر: مختار الصحاح ص/٧١٩. والرازي هو: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر المتوفى سنة ٦٦٦ هـ. (انظر: الأعلام للزركلي ٦/ ٢٧٩) .
1 / 10
قال ابن فارس (١):
(هذا يوازن ذاك أي هو محاذيه، ووزين الرأي: معتدلة، وهو راجح الوزن
إذا نسبوه إلى رجاحة الرأي وشدة العقل) .
وهذا المدلول اللغوي (موازنة) يوافق المعنى المراد من ذكرها في عنوان هذه الرسالة وهو: ذكر خلاف (٢) العلماء بجانب آراء ابن القيم واختياراته حتى تحصل المعرفة لمدى قوة اختيار ابن القيم وانتخابه للرأي الذي رآه في مسألة ما من بين الآراء والمذاهب.
سبب العدول عن لفظ (مقارنة) إلى لفظ (موازنة):
تبين من بيان معنى لفظ (موازنة) لغة وإيضاح مدلولها في عنوان الرسالة أن هذا يعني ذكر (خلاف العلماء في المسألة بجانب رأي ابن القيم) .
وعلم خلاف الفقهاء: فن مستقل بنفسه اشتهر باسم (علم خلاف الفقهاء) واشتهرت كتبه باسم (كتب الخلافيات) (٣) .
_________
(١) انظر: معجم مقاييس اللغة ٦/١٠٧ ط الثانية سنة ١٣٩٢ هـ بمطبعة الحلبي بمصر. وابن فارس هو: أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا القزويني المتوفى سنة ٣٩٥ هـ (انظر: الأعلام للزركلي ١/ ١٨٤) .
(٢) يقرر الشاطبي في كتابه: الموافقات ٤/١١٠- ١٤٤ التفريق بين الخلاف والاختلاف. فالخلاف ما كان عن هوى وضلال في العقائد والأديان والاختلاف ما صدر عن مجتهدي أمة
محمد ﷺ. وهذه التفرقة التي قال بها الشاطبي محض اصطلاح ذكره لم يلتزمه العلماء
في مدوناتهم فهم يذكرونها على سواء. (انظر هذا البحث مبسوطا في كتاب: مجموعة بحوث فقهية لعبد الكرم زيدان ص/٢٧٣- ٣٠٣ ط مؤسسة الرسالة بيروت سنة ١٣٩٦) .
(٣) مثل: كتاب الإفصاح لابن هبيرة. والمغني لابن قدامة. ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة للدمشقي. وأول من وضع علم خلاف الفقهاء: أبو زيد عبيد الله بن عمر الدبوسي الحنفي
المتوفى سنة ٤٣٠ في كتابه (تأسيس النظر) كما ذكره ابن خلكان في تاريخه (وفيات الأعيان) =
1 / 11
وقد اشتهر في لسان هذا العصر باسم (الفقه القارن) وكتبه باسم (كتب الفقه
المقارن) .
وهذا إطلاق سليم من حيث مدلوله اللغوي فإن المقارنة في اللغة جمع شيء إلى شيء فتقول قارنت بين الشيئين (١) .
لكنها في عرف الوقت الحاضر من مصطلحات (علم الحقوق الحديث) (٢)، يقصد بها مقارنة شريعة رب الأرض والسماء بقوانين البشر الموضوعة المختلقة المصنوعة (٣) .
فانتقل هذا الاصطلاح الحقوقي من المقارنة بين الشريعة والقانون إلى المقارنة بين أقوال فقهاء الإسلام. فأصبح هذا الاصطلاح من المشترك المعنوي وفي ضوء هذا يمكن لنا أن نقوم حكم نقل هذا الاصطلاح بهجر اسم (علم خلاف الفقهاء) واستبداله باسم (علم الفقه المقارن) .
فنقول: أن هذه بلوى وقع في شراكها كثير من أهل الإسلام حيث استبدلوا الكثير من مصطلحات العلوم الإسلامية. وامتحنوا المسلمين بأسماء جديدة تبعدهم عن تراثهم وتوحي بغرابة كتب أسلافهم على أفهامهم وعلومهم وثقافتهم.
وقد وقع من هذا الشيء الكثير وعمت البلوى بانتشاره وإدخاله في مؤلفات علماء الإسلام.
_________
جلد ١ ص/٣١٧. (انظر المدخل الفقهي العام ٢/٩٥٥ لمصطفى الزرقا ط مطبعة طربين بدمشق سنة ١٣٨٧ هـ) والبداية والنهاية لابن كثير ١٢/ ٥١. ومفتاح السعادة لطاش كبري
زادة ١/٣٠٦- ٣٠٨) .
(١) انظر: مختار الصحاح للرازي ص/٥٣٢. ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس ٥/٧٦.
(٣) انظر: المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا ٢/٩٥٥ حاشية.
(٣) انظر: في التنديد بخطورة المقارنة بين الأديان ص/٧٣- ٨٦ من كتاب أخطاء المنهج الغربي الوافد. لأنور الجندي. ط أولى سنة ١٩٧٤ م دار الكتاب اللبناني. بيروت.
1 / 12
كما في تسمية (أحكام النكاح وتوابعه) باسم (الأحوال الشخصية) (١) . وتسمية (وضع الجوائح) باسم (نظرية (٢) الظروف الطارئة) .
إلى غير ذلك من ألفاظ الاصطلاح الناشئة لدى الفرنجة تنقلها الأقلام المنهزمة
إلى علوم الإسلام وهي من الغرابة بمكان؟.
ومن المؤسف جدًا أن تأتي هذه المصطلحات في رسائل الشهادات العالية والشهادات العالمية من طالب يتلقى دروسه في معاهد الإسلام وفي ديار الإسلام ومنازله، وتحت إشراف أساتذة في علوم الإسلام.
ولا يعار لهذا انتباهًا بل يرى الكثير أن هذا من المرونة وسعة الأفق والاطلاع المدهش.
وأقول بكل ثبات إنها تسميات آثمة وخطط مأجورة ساقنا إليها دافع الغفلة والسبات العميق عما يراد بنا.
وإن من أخشى ما أخشاه أن تورث هذه المشابهة في الظاهر التفاتة في الباطن فتشتبك الروح بالهيكل، وتنفخ فيه روح أصله وحينئذ يقع المسلمون في الاحتكام إلى غير ما أنزل الله.
_________
(١) انظر: في كشف هذه التسمية (محاضرة للشيخ عبد الله التركي) ألقيت في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عام ١٣٩٨ هـ بعنوان توجيهات الإسلام في نطاق الأسرة. وعندي أن الشيخ قد دفع آفة بأخرى فإن معنى الأسرة في اللغة: الجماعة القوية قال ابن مالك في ألفيته واختار عكسًا غيرهم ذا أسرة- وهو بفتح الهمزة أيضًا كما في حاشية الصبان على الأشموني (انظر: كتاب تقويم اللسانين للهلالي ص/٤٦- ٤٨ ط الأولى سنة ١٣٩٨ ط الرباط) .
(٢) ولفظ (نظرية) أيضًا خطأ صرف بالنسبة لأحكام الإسلام لأن كلمة نظرية تعني الفرض والتصور الدائر بين النفي والإثبات. وأحكام الإسلام حقائق ثابتة لا تقبل النفي فصارت تسمية خاطئة. انظر في بيانها ص/٧ من تعليقات مصطفى حلمي على كتاب: نظريات ابن تيمية في السياسة والاجتماع للمستشرق لاوست ط الأولى سنة ١٣٩٦ بمصر.
1 / 13
ونضرع إلى الله أن لا يقع هذا. فليتق الله أهل الإسلام في إسلامهم وفي أمتهم ولينشروا العلم في قالبه السليم في الشكل والمضمون والظاهر والباطن (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا) (١) .
وليحذر المسلمون الطاعة في بعض الأمر والملاحنة في القول فقد توعد الله الفعلة لذلك بقوله: (٢) (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزَّل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكليف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم. ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم. أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يُخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) .
مسلك البحث الإجمالي:
وفي إطار هذا العنوان للرسالة سلكت في إبراز موضوعها مسلكًا أرجو أن يكون مثمرًا للفائدة المرجوة. مرتبًا على مسلكين اثنين في تضاعيفهما مباحث تفصيلية تساعد على الوضوح والتجلية وإبعاد الغموض والتعمية.
ولما كان الحكم فرع التصور فقد جعلت بين يدي ذلك مقدمة مفصلة في التعريف بابن قيم الجوزية، تكشف عن كثير من الجوانب، للتعريف بشخصيته وبيئته وعلومه وآثاره. حتى يحصل تمام المطابقة بين الذات وآثارها. وفي ذلك أيضًا- أن شاء الله تعالى- تبصير وتنوير للذين في نفوسهم اعتلال وفي قلوبهم مرض صدهم عن الاستفادة من علوم مؤسسي المدرسة السلفية ومحيي السنة
_________
(١) الآية رقم ٣٦ سورة الأحزاب.
(٢) ٠ الآيات رقم ٢٦- ٣٠ سورة محمد.
1 / 14
المحمدية، وباعثي النهضة الإسلامية.
عسى أن ينتهي بهم المطاف إلى الحكم العادل والقول الحق فيثوبوا لرشدهم ويناصروا الحق وأعوانه، فينهلوا ويرتووا من علوم ابن القيم وإخوانه من علماء المدرسة السلفية في الحاضر والغابر (١) .
هذا إن نظروا إلى ذلك بعين الإنصاف والتجرد من الهوى والتبعية (٢) .
_________
(١) من هؤلاء: شيخ ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم النميري المتوفى سنة ٧٢٨ هـ والشيح محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة ١٢٠٦ هـ. والشيخ جمال الدين القاسمي المتوفى سنة ١٣٣٢ هـ. والشيخ نعمان بن محمود الآلوسي المتوفى سنة ١٣١٧ هـ والشيخ صديق خان المتوفى سنة ١٣٠٧ هـ. وغيرهم كثير في عامة الأقطار الإسلامية ولله الحمد.
(٢) من خصوم ابن القيم في القديم العلامة: على بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة ٧٥٦ هـ. وغيره من آل السبكي ومنهم في العصر الحاضر محمد زاهد الكوثري المتوفى سنة ١٣٧١ هـ وأقرانه الغماريين أحمد بن الصديق المتوفى بعد الثمانين من هذا القرن وعبد الله بن الصديق الغماري وأخوهما عبد العزيز جمال الدين الغماري وغيرهم. والله المستعان به.
1 / 15
ثَانيا: موضوع الرسَالة
الحدود والتعزيرات
عَندَ ابن القيم
"دراسة وموازنة"
والبحث في هذا في مسلكين اثنين:
المسلك الأول:
عرض كلام ابن القيم على الترتيب الفقهي المشهور على ما يلي:-
كتاب الحدود. وفيه ذكر الأحكام والمباحث العامة للحدود.
باب حد الزنا.
باب حد القذف.
باب حد السكر.
باب حد السرقة.
باب حكم المرتد.
باب التعزير (١) .
المسلك الثاني:
مسلك الموازنة بين رأي ابن القيم وبين آراء المذاهب الفقهية الأخرى الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. مع بيان ما يلتقي فيها مع غيره وما ينفرد بها دونهم.
_________
(١) لم أذكر بابي الحرابة والبغاة لأنني لم أر فيهما مباحث لابن القيم.
1 / 16
ومن ثم ترجيح ما يؤيده الدليل.
خطوات العرض والدراسة في هذين المسلكين:
حصل بالتتبع لمنهج ابن القيم في الحدود والتعزيرات ما يلي:
أن ابن القيم قد يذكر التعريف الاصطلاحي للجريمة وقد لا يذكره. وابن القيم
قد يذكر حكمة التشريع من وجوه متعددة وقد يذكرها من وجه واحد.
وابن القيم قد يذكر المسألة مفصلة بذكر الخلاف وأدلته مع بيان وجوه الاستدلال ومناقشتها.
وقد يعرض المسألة بصفة دون ذلك.
وقد يذكر المسألة بمجرد الإشارة إليها.
وابن القيم لا يعنى بذكر العناوين التفصيلية للمسألة.
وابن القيم أيضًا: قد يذكر المسألة في بحث واحد وقد يبحثها في موضعين فأكثر من كتاب فأكثر.
وعلى أي من هذه الأحوال فإنني سقت الحديث في كل باب من أبواب الحدود في جملة مباحث على هذا الطرد والنسق.
١- تعريف الجريمة في اللسانين اللغة والشرع.
٢- مبحث حكمة التشريع في حدود ما ذكره ابن القيم.
٣- مباحث الأحكام الفقهية. وفي كل مبحث ما يلي:
أ- ذكر الخلاف والقائل به.
ب- ذكر أدلته.
ج- ذكر وجوه الاستدلال منها.
1 / 17
هـ- الترجيح لما يظهر بدليله.
والمنطلق في كل مبحث مما ذكره ابن القيم في ذلك المبحث من عامة كتبه المطبوعة والله الموفق.
مسارد الرسالة:
وقد أتبعت هذه الرسالة بمسارد تكشف عن أهم المصادر والمراجع وعن موضوعات الرسالة. وأثبات بالآيات والأحاديث والأعلام.
هذه تقدمة لعلها تكشف للقارئ موضوع الرسالة وهيكلها العام واستميحه العذر في الإطالة فلعل نقاطًا هامة استدعت ذلك كما يظهر للمطلع الفطن وأرجو من الله أن يكون حائزًا للرضا مقبولًا عند أولي النهي. ولا يجول في خلدي أنني بلغت أدنى درجة الكمال فضلًا عن الكمال إذ هذا أمر لله وحده. والخطأ من لوازم البشر (لانقطاع العصمة بانقطاع عالم النبوة والأنبياء) ومما يفسح ميدان الأمل أن الله ﷾ تجاوز لنا عن الخطأ. والمرء نفسه إذا كتب شيئًا في يومه ثم عاوده بعد أمد قدم فيه وأخر وغير وبدل إذ الأمر كما قيل (ما ألف أحد في يومه إلا قال في غده لو قدمت أو أخرت وهذا مما يدل على ضعف القوى والقدر وكمالها لواهبها سبحانه) .
وختامًا أدعو بدعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ فأقول:
" اللهم أجعل عملنا هذا صالحًا واجعله لوجهك خالصًا ولا تجعل لأحد فيه شيئًا".
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم
بكر بن عبد الله أبو زيد
1 / 18
كتاب الحدود
جرت عادة العلماء خاصة علماء الحنابلة أن يجعلوا بين أبواب الحدود المباحث التي تشترك فيها الحدود، كبيان من يجب عليه الحد ونحوه من المسائل، ونحن بصدد دراسة آراء ابن القيم في الحدود والتعزيرات، سوف نقصر الكلام في هذه التقدمة على المباحث التي تناولها ابن القيم منتظمة لأبواب الحدود بالاتفاق أو على الراجح من الخلاف في نظره، مقفيًا ذلك بمسلك الموازنة والترجيح.
1 / 19
توطئة الحدود
توطئة في تعريف الحد في اللسانين: اللغة والشرع:
لغة:
الحد: جمعه حدود، وهو في أصل الوضع العربي بمعنى المنع (١) ومنه قول نابغة ذبيان (٢) .
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند (٣)
ولذا قيل للحاجز بين الشيئين حدًا، لأنه يمنع من اختلاط أحدهما بالآخر (٤) .
ومنه: حدود الأرض، وحدود الحرم، ونحوهما، كتسميهَ أهل الاصطلاح المعرف للماهية بالزانيات حدًا (٥)، إذ الحد يمنع أفراد غير المعرف من الدّخول في
_________
(١) انظر: الصحاح للجوهري ١/٤٥٩ ط دار الكتاب العربي بمصر تحقيق عبد الغفور عطار. وتاج العروس شرح القاموس للزبيدي ٢/ ٣١. تصوير: دار مكتبة الحياة في بيروت. والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي ١/٣٣٥ ط الحلبي بمصر.
(٢) هو، زياد بن معاوية الغطفاني الشهير بالنابغة الذبياني شاعر جاهلي مشهور مات سنة ٦٠٤ م. انظر (الأعلام ٣/ ٩٢) .
(٣) انظر: الصحاح للجوهري ١/٤٥٩.
(٤) انظر: المفردات في غريب القرآن ص/١٠٩ ط الحلبي بمصر سنة ١٣٨١ هـ.
(٥) انظر: شرح فتح القدير للعاجز الفقير لابن الهمام ٥/٤ ط الأولى بمصر سنة ١٣١٥ هـ.
1 / 21
التعريف ويمنع أفراد المعرف من الخروج عن التعريف. ومنه أيضًا للإشارة إلى المنع (١):
(سمّي الحديد حديدًا لأنه يمنع من وصول السّلاح إلى البدن وسمّي البوّاب والسّجّان: حدادًا، لأنه يمنع من في الدّار من الخروج منها ويمنع الخارج من الدّخول فيها) .
ومنه أيضًا سمّيت الحاد في العدّة، لأنها تمنع من الزينة (٢) . وعليه سمّيت العقوبات المقدرة: حدودًا (٣) .
فالحد إذا على كثرة إطلاقاته وسعة مدلولاته لا يخرج عن معناه الأصلي الذي وضع له وهو (المنع) .
لماذا سمّيت العقوبات المقدرة (حدودًا):
لا خلاف في أن العقوبات المقدرة إنما سمّيت حدودًا لعلة المنع وإنما حصل الخلاف في تعليل مورد المنع في ذلك على أقوال ثلاثة هي:
ا- لأن هذه العقوبات تمنعه المعاودة في مثل ذلك الذّنب وتمنع غيره أن يسلك مسلكه (٤) .
٢- لأنها عقوبات مقدرة من الشارع، تمتنع الزيادة فيها أو النقصان (٥) .
_________
(١) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٢/٣٣٧ ط الثالثة سنة ١٣٨٦ هـ. بدار القيم في مصر.
(٢) انظر: تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) ٢/٣٣٧.
(٣) انظر: لسان العرب لابن منظور ٤/٤١٥ ط بيروت سنة ١٣٧٥ هـ. والمصباح المنير ١/١٣٥
(٤) انظر: المفردات للراغب ص/١٠٩، وفتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر ١٢/٥٨ ط السلفية بمصر، والمطلع على أبواب المقنع لأبي الفتح البعلي الحنبلي ص/٣٧٠ ط الأولى المكتب الإسلامي بدمشق سنة ١٣٨٥ هـ.
(٥) انظر: فتح الباري ١٢/٥٨. والمطلع ص/ ٣٧٠.
1 / 22
٣- لأنها زواجر عن محارم الله (١) .
وفي الواقع أن هذه التعليلات ليس هناك ما يمنع التعليل بها مجتمعة لاشتمالها على هذه المعاني الثلاثة: فهي عقوبات مقدرة على مرتكبي محارم الله وحقوقه تمنعهم من العود لمثلها، وهي موانع وزواجر عن محارم الله، ويمتنع الزيادة عليها أو النقصان منها.
الحد في الاصطلاح (٣):
تكاد تتفق كلمة أهل الاصطلاح على أن تعريف الحد اصطلاحًا:
عقوبة مقدرة في الشرع لأجل حق الله تعالى.
شرح التعريف:
لفظ عقوبة: جنس في التعريف تشمل المقدرة وغير المقدرة.
ولفظ مقدرة: تخرج غير المقدر وهو ما عرف باسم: التعزيرات
ولفظ في الشرع: يفيد أنها توقيفية على لسان الشارع ﷺ. فتخرج العقوبات المقدرة في القوانين الموضوعة المختلقة المصنوعة. فلا تسمى حدودًا.
لأجل حقّ الله تعالى: يخرج به ما كان حقًا للعبد، وهو: القصاص في نفس أو طرف. والله أعلم.
_________
(١) انظر: المطلع ص/ ٣٧٠.
(٢) انظر: شرح فتح القدير ٥/٤، والحدود لابن عرفة المالكي ص/٤٨٩ ط الأولى بالمطبعة التونسية في تونس سنة ١٣٥٠ هـ. والتعريفات للجرجاني ص/،٧ ط الحلبي بمصر سنة ١٣٥٧ هـ. المطلع على أبواب المقنع ص/ ٣٧٠. ونيل الأوطار للشوكاني ٩٢/٧ ط الثالثة بمطبعة الحلبي في مصر سنة ١٣٨٠ هـ.
1 / 23