في هذه اللحظة، أخذت قضمة من إحدى قطعتي النقانق خاصتي، ثم يا إلهي!
حقيقة لم أتوقع أن يكون لهذا الشيء مذاق جيد؛ فقد توقعت ألا يكون له مذاق، مثل قطعة الخبز، ولكن هذه كانت تجربة لا تنسى. دعني أحاول أن أصفها لك.
لنقانق الفرانكفورتر جلد مطاطي، بالطبع، وطقم أسناني لم يكن متناسبا بشكل جيد معها؛ فكان علي أن أحركه كالمنشار قبل أن أتمكن من غرس أسناني في جلد النقانق، وفجأة! انفجر ذلك الشيء في فمي كالكمثرى الفاسدة؛ إذ كان شيئا لينا فظيعا يتسرب في جميع أرجاء لساني. أما عن المذاق، فلبرهة لم أستطع تصديق الأمر، فلففت لساني حوله مرة أخرى وجربته ثانية. لقد كان عبارة عن سمك! نقانق، شيء يسمونه فرانكفورتر، محشو بالسمك! نهضت وخرجت على الفور دون أن أمس قهوتي. الرب أعلم ماذا قد أرادوا أن يكون مذاق هذا الشيء.
بالخارج، لوح بائع الصحف بصحيفة «إستاندرد» في وجهي وصاح: «الساقان! اكتشافات رهيبة! وأسماء كل الفائزين في سباق الخيل! الساقان! الساقان!» كنت لا أزال أدحرج ذلك الشيء حول لساني، وأبحث عن مكان أستطيع أن أبصقه فيه. تذكرت شيئا كنت قد قرأته في صحيفة ما عن مصانع الأطعمة تلك في ألمانيا حيث يصنع كل شيء من شيء آخر تماما، ويسمون ذلك بالطعام الاصطناعي. تذكرت كذلك أني قرأت أنهم كانوا يصنعون النقانق من السمك، ويصنعون السمك بلا شك من شيء آخر مختلف. جعلني ذلك أشعر أنني قد أخذت قضمة من العالم الحديث واكتشفت أصوله الحقيقية. هذه هي الطريقة التي تسير بها الأمور اليوم؛ كل شيء براق وانسيابي، كل شيء مصنع من شيء آخر. السليوليد والمطاط وفولاذ الكروم في كل مكان، والمصابيح القوسية متوهجة طوال الليل، والأسقف الزجاجية فوق رءوسنا، وأجهزة الراديو تصدح كلها بالنغمة نفسها، والغطاء النباتي يتضاءل، والإسمنت يغطي كل شيء، والسلاحف المزيفة ترعى أسفل أشجار الفاكهة المتعادلة الحموضة. ولكن عندما يتعلق الأمر بضروريات الحياة وتغرس أسنانك في شيء صلب، مثل النقانق، فهذا ما ستحصل عليه؛ سمك فاسد في جلد مطاطي، انفجار شيء قبيح في فمك.
عندما وضعت طقم أسناني الجديد، شعرت بتحسن كبير. إنه يتلاءم جيدا وبسلاسة مع اللثة، وعلى الرغم من أنه قد يبدو من السخف أن أقول إن طقم الأسنان من شأنه أن يشعرك بأنك أصغر سنا، فهذه حقيقة. جربت أن أبتسم لنفسي في نافذة أحد المتاجر، ولم يكن الأمر سيئا كما ظننت؛ فعلى الرغم من أن وورنر خدمته رخيصة الثمن، فهو فنان جدا ولا يريدك أن تبدو كمن يظهرون في إعلانات معاجين الأسنان. وهو لديه خزانة كبيرة مليئة بأطقم الأسنان - التي أراني إياها ذات مرة - كلها مرتبة حسب الحجم واللون، وهو يختار منها كصائغ يختار أحجارا كريمة لعقد. كان سيظن تسعة أشخاص من بين كل عشرة أشخاص أن أسناني طبيعية.
ألقيت نظرة على نفسي بالحجم الكامل في نافذة أخرى كنت أمر أمامها، وقد هالني أنني وجدت نفسي في الواقع لست بذلك السوء. أعترف أنني بدين بعض الشيء، ولكن الأمر ليس مثيرا للاشمئزاز؛ فقط ما يقول عنه الخياطون «جسم ممتلئ»، كما أن بعض النساء يحببن الرجل ذا الوجه الأحمر. أعتقد أنني ما زلت أتمتع بالحيوية. تذكرت الجنيهات السبعة عشر، وعزمت بلا أدنى شك على أن أنفقها على امرأة. كان لدي ثمة وقت لتناول الجعة قبل أن تغلق الحانات، فقط لتطهير الأسنان؛ وقد شعرت بالغنى لامتلاكي سبعة عشر جنيها، فتوقفت أمام متجر السجائر واشتريت سيجارا بستة بنسات من النوع الذي أحبه كثيرا. يبلغ طول السيجار الواحد من ذلك النوع ثماني بوصات، وهو مصنوع بالكامل من أوراق نقية من هافانا. أظن أن الملفوف ينمو في هافانا كنموه في أي مكان آخر.
عندما خرجت من الحانة، شعرت باختلاف نوعا ما.
شربت كأسين من الجعة أمداني بدفء داخلي، وكان دخان السيجار يتسرب حول أسناني الجديدة، ويعطيني شعورا بالانتعاش والنظافة والسلام الداخلي. شعرت فجأة أنني أقرب إلى أن أكون مفكرا أو فيلسوفا. كان جزء من ذلك يرجع إلى أنه لم يكن لدي عمل أؤديه، ورجع ذهني إلى التفكير في الحرب كما فعلت في صباح هذا اليوم عندما كانت الطائرة القاذفة للقنابل تطير فوق القطار. شعرت بنوع من الإحساس التنبئي، ذلك الإحساس الذي يجعلك تتوقع نهاية العالم ويشعرك بنوع خاص من المتعة.
كنت أسير غربا إلى شارع إستراند، ورغم برودة الجو بعض الشيء، سرت ببطء للاستمتاع بالسيجار. كان الازدحام المعتاد الذي تشق طريقك فيه بصعوبة واصلا للرصيف، وكان على وجوه الجميع ذلك التعبير الأبله الثابت الذي يعتلي وجوه الناس في شوارع لندن، وكان هناك الازدحام المروري المعتاد بالحافلات الحمراء الكبيرة التي تتحسس طريقها بين السيارات وزئير المحركات وصفير أبواق السيارات. أظن أن تلك الضوضاء كافية لإيقاظ الموتى، ولكنها ليست كافية لإيقاظ هؤلاء القوم. شعرت كما لو أنني الشخص الوحيد المستفيق في مدينة من السائرين نياما. هذا وهم بالتأكيد؛ فعندما تسير وسط حشد من الغرباء، يكاد يكون من المستحيل ألا تتخيل أنهم جميعا تماثيل شمعية، لكنهم أيضا يرونك كما تراهم على الأرجح. وهذه الحالة التنبئية التي تنتابني هذه الأيام، ذلك الشعور بأن الحرب على الأبواب وأن الحرب هي نهاية كل شيء، لا تنتابني وحدي؛ فكلنا يشعر بالأمر، بشكل أو بآخر. أعتقد حتى أنه بين الأشخاص الذين يعبرون الطريق في هذه اللحظة لا بد أن ثمة رجلا قد ارتسمت في ذهنه صور تجمع بين انفجارات القذائف والوحل. أيا كانت الفكرة التي تفكر فيها، فهناك ملايين الأشخاص الذين يفكرون في الأمر نفسه في اللحظة نفسها. ولكن هذا ما كنت أشعر به: جميعنا على ظهر مركب واحد يحترق، ولا يعلم أحد بالأمر إلا أنا. نظرت إلى الوجوه التي تتسم بالغباء التي مرت أمامي، ورأيتهم كالديوك الرومية في شهر نوفمبر حيث نأكلها في عيد الشكر؛ فلم يكن لديهم أدنى فكرة عما سيحدث لهم. كان الأمر كما لو أنني منحت تقنية الأشعة السينية في عيني، ويمكنني أن أرى هياكل عظمية سائرة أمامي.
تخيلت المستقبل بعد بضع سنوات، ورأيت هذا الشارع - لنقل - بعد خمس سنوات أو ثلاث (إذ كان من المتوقع أن تندلع الحرب في عام 1941) بعد بدء القتال.
نامعلوم صفحہ