كان علي أن أشتري شيئا بعد كل تلك الجلبة. سحب جورج الثاني، أو ربما الثالث أو الرابع، علبة سجائر بلايرز، وكان لا يزال يمضغ شيئا أسفل شاربه. كان بإمكاني أن أرى أنه كان عابسا؛ لأنني اضطررته إلى ترك شايه لا لأجل شيء يذكر. ولكنه بدا من السخيف للغاية أن أضيع نصف كراون. خرجت، وكانت هذه آخر مرة على الإطلاق أرى فيها إلسي.
رجعت إلى فندق جورج وتناولت العشاء. بعد ذلك، تفتق ذهني عن فكرة غريبة وهي أن أذهب إلى إحدى دور السينما، إن كانت مفتوحة، ولكني انتهى بي المطاف بدلا من ذلك في إحدى الحانات الصاخبة الكبيرة في الجزء الجديد من البلدة. قابلت هناك رجلين من ستافوردشير، كانا مندوبي مبيعات متجولين وكانا يبيعان الأدوات المعدنية، وتحدثنا عن حالة التجارة، ولعبنا بالأسهم، وتناولنا جعة الجينيس. وعندما حان وقت إغلاق الحانة، كان الاثنان قد أسرفا في الشرب لدرجة أنني اضطررت إلى مرافقتهما للمنزل في سيارة أجرة، ولم أكن على ما يرام بعض الشيء أنا الآخر؛ وفي الصباح، استيقظت ورأسي أثقل من أي وقت مضى.
5
ولكن كان علي أن أرى البركة في منزل بينفيلد.
شعرت بأنني في حالة شديدة السوء في ذلك الصباح. الحقيقة كانت أنني منذ أن وصلت إلى لوير بينفيلد وأنا أشرب باستمرار تقريبا منذ موعد فتح الحانات وحتى موعد إغلاقها كل يوم. السبب، الذي لم أكتشفه إلا في هذه اللحظة، هو أنه لم يكن ثمة شيء آخر يمكن أن أفعله في الواقع. هذا ما كانت عليه رحلتي حتى ذلك الحين، ثلاثة أيام من الإسراف في الشرب.
وكما فعلت تماما في الصباح الفائت، استيقظت زاحفا من على السرير، واتجهت إلى النافذة حيث شاهدت الرجال في القبعات المستديرة، والأطفال في قبعات المدارس يمشون على عجل هنا وهناك. أعدائي، هكذا رأيتهم. ذلك الجيش الغازي الذي نهب البلدة وغطى أنقاضها بأعقاب السجائر والأكياس الورقية. تعجبت من اهتمامي بالأمر. لعلك تعتقد أنني إن كنت قد صدمت من اكتشافي أن لوير بينفيلد قد ابتلعت وغدت ما يشبه ضاحية داجنهام؛ فإن ذلك فقط لأنني لم أرد أن أرى الأرض تمتلئ بالناس والريف يتحول إلى حضر. ولكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق؛ فلا أمانع نمو البلدات، ما دامت تتطور وليس فقط تتوسع كمرق اللحم على غطاء مائدة. أعلم أن الناس لا بد لهم من أماكن ليعيشوا فيها، وأنه إن لم يكن أحد المصانع في مكان ما فسيكون في مكان آخر. أما عن الأشياء الريفية الزائفة، من ألواح البلوط والصحون من البيوتر وأوعية تدفئة الأسرة النحاسية وما إلى ذلك، فإنها لا تشعرني إلا بالغثيان في الواقع. أيا ما كنا في الماضي، فلم يكن لدينا كل هذا؛ فلم تكن أمي ترى قط أي معنى في امتلاك التحف التي ملأ بها ويندي منزلنا. ولم تكن تحب الطاولات القابلة للطي، كانت تقول إنها «تطبق على السيقان». أما عن صحون البيوتر، فما كان لها أن تقتني أيا منها في منزلها، وكان تقول عنها إنها «أشياء ملساء كريهة». ولكن، ولتقل ما شئت، كان لدينا شيء في تلك الأيام ولم يعد موجودا الآن، شيء ربما لا يمكنك الحصول عليه في حانة عصرية للوجبات السريعة من منتجات الألبان حيث تستمع للراديو. وقد عدت للبحث عنه، ولكني لم أجده. وما زلت بشكل ما أعتقد في ذلك الشيء حتى الآن، وأنا لم أضع طقم أسناني بعد وكان بطني يتوجع في احتياج إلى قرص أسبرين وكوب من الشاي.
جعلني ذلك أفكر ثانية في بركة منزل بينفيلد. بعد أن رأيت ما فعلوه في البلدة، انتابني شعور لا يمكنك وصفه إلا بالخوف من الذهاب ورؤية ما إذا كانت البركة ما زالت موجودة. ولربما كانت موجودة، لم أكن أعلم. كانت البلدة ترزح أسفل الطوب الأحمر، وكان منزلنا مليئا بالخردة التي جلبتها ويندي، وكان نهر التيمز مسمما بزيت المحركات والأكياس الورقية. ولكن ربما كانت البركة لا تزال هناك، وربما كان لا يزال يعوم في أرجائها ذلك السمك الأسود الكبير. ربما كذلك كانت لا تزال مختبئة في الغابة ولم يكتشفها أحد منذ ذلك اليوم وحتى الآن. كان ذلك ممكنا جدا؛ إذ كانت الغابة التي أخفتها كثيفة للغاية، وكانت مليئة بشجيرات العليق والأيكات المتعفنة (تراجعت أشجار الزان مفسحة الطريق لأشجار البلوط، ما جعل الشجيرات النامية تحت الأشجار أكثر سمكا)، ولا يهتم معظم الناس بمكان كهذا. ولكن حدثت أشياء أكثر غرابة.
لم أبدأ الرحلة إلى هناك إلا في وقت متأخر من بعد الظهيرة؛ فلا بد أن الساعة كانت الرابعة والنصف تقريبا عندما أخذت السيارة وقدتها إلى طريق أبر بينفيلد. وفي منتصف الطريق صعودا إلى التل، أخذت المنازل تتضاءل ثم اختفت، وبدأت أشجار الزان في الظهور. هناك تشعب الطريق، وأخذت الجهة اليمنى قاصدا الانعطاف والرجوع إلى منزل بينفيلد على الطريق. ولكني توقفت بعد لحظة لألقي نظرة على الأجمة التي كنت أقود سيارتي عبرها. لقد بدت أشجار الزان كما كانت من قبل تماما. يا إلهي، كيف تكون كما كانت في الماضي؟! تركت السيارة في مساحة بها قليل من العشب بجوار الطريق، أسفل ركام من الطباشير، وخرجت منها وتمشيت. كان المكان كما كان تماما، بنفس الهدوء، وبنفس الطبقات الكبيرة من أوراق الشجر التي تصدر حفيفا، التي يبدو أنها تزيد من سنة لأخرى دون أن تتعفن. والمكان ليس فيها كائن سوى الطيور الصغيرة على أعالي الأشجار التي لا يمكنك رؤيتها. لم يكن من السهل التصديق أن الضوضاء الصاخبة للبلدة كانت على بعد ثلاثة أميال فقط من هنا. بدأت أشق طريقي عبر الأجمة الصغيرة، في اتجاه منزل بينفيلد؛ وتمكنت على نحو غامض من تذكر المسارات هناك. يا إلهي! أجل! ها هو التجويف الطباشيري نفسه؛ حيث كانت تذهب مجموعة اليد السوداء ويلعبون بمراجمهم، وحيث أخبرنا سيد لوفجروف كيف تولد الأطفال، وحيث كان اليوم الذي اصطدت فيه سمكتي الأولى قبل ما يقرب من أربعين سنة مضت!
عندما قلت الأشجار مرة أخرى، كان بإمكانك أن ترى الطريق الآخر وسور منزل بينفيلد. كان السور الخشبي القديم المتعفن قد أزيل، بالطبع، وقد بنوا سورا عاليا من الطوب بنتوءات معدنية أعلاه، كما قد تتوقع أن ترى حول مستشفى للأمراض العقلية. احترت لبعض الوقت في كيفية الدخول إلى منزل بينفيلد، حتى خطر ببالي في النهاية أن أقول لهم إن زوجتي كانت مجنونة وإنني كنت أبحث عن مكان لأضعها فيه. بعد ذلك، سيكونون مستعدين تماما لأخذي في جولة في المكان. وربما كنت في بدلتي الجديدة أبدو ثريا بما يكفي لأن تكون لدي زوجة في إحدى المصحات العقلية الخاصة. لم يخطر في بالي أن أفكر فيما إذا كانت البركة لا تزال في مكانها حتى وصلت بالفعل إلى البوابة.
كانت الأراضي القديمة لمنزل بينفيلد على مساحة خمسين فدانا، على ما أعتقد، بينما كانت أراضي مستشفى الأمراض العقلية لا تتعدى خمسة أو عشرة فدادين. ولم يكونوا في حاجة إلى بركة كبيرة من الماء كي يغرق فيها المرضى النفسيون أنفسهم. أما الكوخ الذي كان يسكن فيه العجوز هودجز، فكان كما هو، ولكن الجدار الأصفر من الطوب والبوابات الحديدية الضخمة كانت جديدة. لم أعرف المكان بالنظر إليه عبر البوابات؛ فقد رأيت مسارات مغطاة بالحصى، وأحواض زهور، ومروجا، وبعض الأشخاص الذين يتجولون بلا هدف، المرضى النفسيين، على ما أعتقد. أخذت الطريق إلى اليمين. كانت البركة - البركة الكبيرة، التي كنت أصطاد فيها - على بعد بضعة مئات الياردات خلف المنزل؛ فلا بد أنني قد مشيت مائة ياردة قبل أن أصل إلى جانب السور، ومن ثم فالبركة خارج أراضي المستشفى. بدأ سمك الأشجار يقل، وكان بإمكاني سماع أصوات أطفال. يا إلهي! لقد كانت البركة موجودة.
نامعلوم صفحہ