استدرت متوجها إلى حانة جورج؛ فقد كان غياب معلف الخيول بمثابة صفعة لي جعلتني أخرج من المكان دون أن أنظر حتى لأعرف ما إذا كانت مدخنة مصنع الجعة ما زالت موجودة أم لا. تغيرت حانة جورج كذلك؛ فكل شيء فيها قد تغير ما عدا اسمها. وقد تزينت وجهتها الأمامية حتى بدت كأحد الفنادق الساحلية، وقد بدلت لافتتها كذلك. كان من الغريب أنه على الرغم من أنني لم أكن أفكر في اللافتة القديمة ولو مرة حتى تلك اللحظة لمدة عشرين عاما، فقد اكتشفت فجأة أنه يمكنني تذكر كل تفصيلة فيها، حيث كانت معلقة في هذا المكان منذ أقدم وقت يمكنني تذكره. كانت لافتة غير متقنة مرسوما عليها القديس جورج يركب حصانا شديد النحافة ويدهس تنينا شديد الضخامة؛ وفي الزاوية، على الرغم من تشقق الطلاء وتغير لونه، يمكنك قراءة توقيع صغير، وهو «ويليام ساندفورد، رسام ونجار». أما اللافتة الجديدة، فقد كانت ذات مظهر فني جذاب؛ إذ يمكنك أن ترى أن راسمها فنان حقيقي، ويبدو فيها القديس جورج شابا عاديا مخنثا. أما الساحة التي كانت مرصوفة بالحصى، حيث كانت توضع أمتعة المزارعين وكان السكارى يتقيئون في ليالي السبت، فقد زاد حجمها بما يعادل ثلاثة أمثال ورصفت بالإسمنت، وأحاطتها بالكامل مواقف السيارات. تركت السيارة في أحد مواقف السيارات هذه وخرجت.
من الأشياء التي لاحظتها عن العقل البشري هو أنه متأرجح؛ فلا عاطفة تدوم لفترة طويلة. في ربع الساعة التي سبقت ذلك الحين، كان لدي ما يمكنك أن تصفه بعض الشيء بالصدمة. شعرت وكأن لكمة شديدة قطعت أحشائي عندما توقفت أعلى تل تشامفورد، وفجأة أدركت أن لوير بينفيلد قد اختفت، وشعرت بطعنة صغيرة أخرى عندما رأيت أن معلف الخيول لم يعد موجودا. همت في الشوارع بسيارتي عابسا، وشعرت كما لو أنه قد زال مجدي. ولكن عندما ترجلت من السيارة ورفعت قبعتي الملساء على رأسي، شعرت فجأة أن الأمر لا يهم في شيء؛ فقد كان يوما صيفيا جميلا، وكان لساحة الفندق مظهر صيفي نوعا ما، بورودها في الأحواض الخضراء وما إلى ذلك. بالإضافة إلى ذلك، فقد كنت جائعا وأرتقب تناول الغداء.
دخلت إلى الفندق بنوع من التباهي، وتبعني عامل الفندق، الذي كان قد انطلق لاستقبالي بالفعل، حاملا حقيبتي. شعرت ببعض الدعة، التي ربما كانت جلية على مظهري؛ فيمكنك القول إنني بدوت كرجل أعمال كبير، على أي حال إن لم تكن قد رأيت سيارتي. كنت سعيدا أنني أتيت ببدلتي الجديدة، التي كانت زرقاء من قماش الفلانيلة وبخطوط بيضاء رفيعة، ما أضفى علي مظهرا ملائما؛ فقد كان لها ما أطلق عليه الخياط «تأثير التخسيس». أعتقد أنني في ذلك اليوم كان بإمكاني أن أبدو كسمسار في البورصة. قل ما شئت، ولكنه شيء لطيف للغاية أنه في يوم من أيام شهر يونيو، عندما تكون الشمس ساطعة على نباتات إبرة الراعي الوردية في الأواني على النوافذ، أن تدخل فندقا ريفيا جميلا وبانتظارك لحم الحمل المشوي بصلصة النعناع. ليس من ميولي الإقامة في الفنادق؛ فأنا أرى الكثير منها، ولكن في تسعة وتسعين في المائة من المرات التي أراها فيها تكون تلك الفنادق «العائلية والاقتصادية»، مثل روبوتوم، حيث كان من المفترض أن أقيم في ذلك الحين، ذلك النوع من الأماكن التي تدفع فيها خمسة شلنات مقابل المبيت والإفطار، وحيث الملاءات الرطبة دائما وصنابير الحمامات التي لا تعمل أبدا. بدا فندق جورج عصريا حتى كدت لا أعرفه؛ إذ كنا في الماضي بالكاد نطلق عليه فندقا، فلم يكن سوى حانة، على الرغم من أنه كان به غرفة أو غرفتان للإيجار وكان يعد الغداء للمزارعين (لحم البقر المشوي وبودينج يوركشاير، والحلوى الدسمة وجبن ستلتون) في أيام السوق. بدا كل شيء مختلفا باستثناء البار العام، الذي ألقيت نظرة عليه وأنا أمر، وقد بدا تماما كما كان دائما. مررت في ممر به سجادة ناعمة، ومعلق على جدرانه صور صيد، وأوعية تدفئة للأسرة مصنوعة من النحاس، وما شابه من أشياء. يمكنني على نحو باهت تذكر الممر القديم، حيث بلاط الأرضيات البالية ورائحة الجص الممزوج برائحة الجعة. كانت ثمة شابة أنيقة، بشعر مجعد وفستان أسود، التي أعتقد أنها كانت موظفة أو ما شابه؛ أخذت اسمي في الاستقبال، قائلة: «هل تريد غرفة يا سيدي؟ بالتأكيد يا سيدي. باسم من يا سيدي؟»
صمت قليلا. على أية حال، هذه لحظتي الكبرى. كنت متأكدا من أنها ستعرف اسمي. إنه ليس بالاسم الشائع، وهناك الكثير من أفراد العائلة المدفونين في مدفن الكنيسة؛ فقد كنا إحدى عائلات لوير بينفيلد القديمة، آل بولينج من بلدة لوير بينفيلد. وعلى الرغم من أنه من المزعج بعض الشيء أن يعرفني أحد، تمنيت لو يحدث ذلك.
فقلت بوضوح شديد: «بولينج، السيد جورج بولينج.» «بولينج يا سيدي. بوا ... أوه! بو؟ أجل يا سيدي. وهل أنت آت من لندن يا سيدي؟»
لا شيء. لا رد فعل. لم تسمع بي قط. لم تسمع قط عن جورج بولينج، نجل صامويل بولينج، صامويل بولينج الذي كان يحتسي كوبا من الجعة في هذه الحانة نفسها كل سبت لأكثر من ثلاثين عاما.
2
تغيرت غرفة الطعام كذلك.
كان بإمكاني تذكر الغرفة القديمة، على الرغم من أنني لم أتناول قط وجبة واحدة بها؛ كانت برف موقد بني اللون وورق حائط أصفر برونزي - لم أعرف قط ما إذا كانت مصممة في الأساس لتكون بذلك اللون، أم أنها أصبحت كذلك بفعل الزمن والدخان - وكان بها لوحة زيتية موقعة كذلك باسم «ويليام ساندفورد، رسام ونجار»، وكانت لمعركة التل الكبير. الآن، ارتقوا بالمكان فيما يشبه نمط القرون الوسطى، حيث مدفأة من الطوب مع مقعدين متقابلين أمامها، وعارضة خشبية كبيرة عبر السقف، وألواح بلوط على الجدران، وكل جزء منها يبدو مصطنعا حتى من مسافة خمسين ياردة. كانت العارضة الخشبية من البلوط الأصلي، الذي ربما جلبوه من سفينة قديمة؛ ولكنها لم تكن تحمل أي شيء، وكنت أشك في الألواح منذ اللحظة التي وقعت عيناي عليها. عندما جلست إلى الطاولة، وأتى إلي النادل الشاب الزلق بالطعام عابثا بمنديل المائدة خاصته، طرقت على الجدار ورائي. أجل! كما اعتقدت! لم يكن حتى من الخشب؛ فقد قلدوه بتركيبة ما، ثم طلوه.
ولكن الغداء لم يكن سيئا. تناولت لحم الحمل مع صلصة النعناع، وزجاجة من نبيذ أبيض ما باسم فرنسي جعلني أتجشأ قليلا، ولكنه جعلني سعيدا. كان ثمة شخص آخر يتناول الغداء هناك؛ امرأة في الثلاثين من عمرها تقريبا ذات شعر أشقر، وبدت كأرملة. كنت أتساءل ما إذا كانت تقيم في الفندق، وفكرت في خطة غير واضحة للتعرف عليها. من الغريب اختلاط المشاعر داخل المرء؛ فقد ظللت أرى الأشباح نصف الوقت. وكان الماضي يتداخل مع الحاضر. رأيت أيام السوق حيث المزارعون الأقوياء المعروفون يلقون بسيقانهم أسفل الطاولات الطويلة، بمسامير نعالهم التي كانت تحك بشدة في الأرضية الحجرية، ويتناولون كميات كبيرة من اللحم البقري والحلوى لا تكاد تصدق أن إنسانا يقدر على تناولها. ثم أرى الطاولات الصغيرة، وعليها المفارش البيضاء اللامعة وكئوس النبيذ والمناديل المطوية، والزينة المقلدة وأجواء الرخاء تخيم على المكان. وفكرت قائلا في نفسي: «معي اثنا عشر جنيها وأرتدي بذلة جديدة. أنا جورج بولينج الصغير، ومن كان يظن أنني سأرجع إلى لوير بينفيلد بسيارتي الخاصة؟» ثم أثر علي النبيذ ببعض الدفء المنبعث من معدتي، ونظرت إلى المرأة ذات الشعر الأشقر، وتخيلت أنني أخلع عنها ملابسها.
نامعلوم صفحہ