عملت في تلك المهنة إجمالا لمدة عام. كان عاما غريبا . الرحلات عبر البلدات، والأماكن البشعة التي تصلها، وضواحي بلدات وسط البلاد التي لن تسمع عنها طوال حياتك العادية، ولو بلغت مائة عام، ونزل المبيت والإفطار حيث رائحة الملاءات الممتزجة دائما بنفحة من بقايا الطعام والبيض المقلي على الإفطار ذي الصفار الأكثر بهتانا من ليمونة حامضة. ومندوبو المبيعات الملاعين المساكين الآخرون الذين تقابلهم دائما، والذين كانوا أرباب أسر في منتصف العمر، وكانوا يرتدون معاطف بالية وقبعات مستديرة، ويؤمنون بصدق أن التجارة ستتخطى أزمتها عاجلا أم آجلا وأن دخلهم سيزيد ليصبح خمسة جنيهات في الأسبوع. والمشي من متجر لآخر، والجدال مع أصحاب المتاجر الذين لا يرغبون في سماعك، والتنحي جانبا والشعور بالمهانة عندما يأتي زبون. لا أعتقد أن شيئا من ذلك قد ضايقني على وجه الخصوص؛ ولكن أسلوب الحياة هذا يعد جحيما لبعض الرجال. هناك بعض الرجال الذين لا يقدرون حتى على الدخول إلى المتاجر وفتح حقيبة العينات خاصتهم دون التعبير عن امتعاضهم. ولكنني لست من ذلك النوع؛ فأنا قوي الشكيمة، ويمكنني إقناع الناس بشراء أشياء لا يحتاجونها؛ وحتى إن أغلقوا الباب في وجهي، فلا يزعجني ذلك. بيع الأشياء بالعمولة هو بالفعل ما أحب عمله، على شرط أن أرى أنه يمكنني من خلاله كسب الكثير من المال. لا أعلم ما إذا كنت قد تعلمت الكثير في تلك السنة، ولكني تخلصت من أمور كثيرة؛ حيث انتزعت مني هراء الجيش، ونشطت في ذهني الأفكار التي خزنتها فيه أثناء سنة الركود التي كنت أقرأ فيها الروايات. لا أعتقد أنني قرأت كتابا واحدا، باستثناء القصص البوليسية، طوال الوقت كنت أتجول فيه في الطرقات بائعا. لم أعد مثقفا، بل نزلت إلى حقائق الحياة الحديثة. ربما تسألني: ما هي حقائق الحياة الحديثة؟ حسنا، أهمها هو الصراع الأبدي المسعور على بيع الأشياء، الذي يصل إلى بيع النفس لدى معظم الناس، المتمثل في الحصول على وظيفة والحفاظ عليها. أعتقد أنه لم يمر شهر واحد منذ الحرب، في أي مجال عمل قد يخطر على بالك، إلا وكان عدد الرجال يفوق عدد الوظائف المتاحة؛ فقد خلف هذا شعورا مروعا غريبا في حياتنا، كما لو كنا في سفينة تغرق، بها تسعة عشر شخصا وأربعة عشر طوق نجاة فقط. وقد تتساءل عما إذا كان في ذلك أي شيء يتعلق بالحداثة، وعن علاقة ذلك بالحرب. حسنا، يبدو أن الأمر كذلك بالفعل؛ فهذا الشعور بأنه عليك دائما وأبدا خوض الصراعات والتكالب على الأمور، وأنك لن تنال أي شيء ما لم تنتزعه من غيرك، وأن ثمة شخصا آخر دائما يسعى لأخذ وظيفتك منك، وأنهم في الشهر التالي أو الشهر الذي يليه سيخفضون عدد الموظفين وأنك ستطرد من منصبك؛ أقسم إن كل ذلك لم يكن موجودا في أيام ما قبل الحرب.
ولكن مع ذلك لم أكن معدما؛ فقد كنت أكسب القليل، وكنت لا أزال أحتفظ بالكثير من الأموال في البنك - ما يقرب من مائتي جنيه - ولم أكن خائفا من المستقبل. كنت أعلم أنني عاجلا أم آجلا سأحصل على وظيفة منتظمة. وبالفعل بعد ما يقرب من عام وبضربة حظ حدث ذلك. أقول بضربة حظ، ولكنني في الواقع كنت دائما أتخطى المصاعب؛ فلست من ذلك النوع الذي يقبل المعاناة، ولكني من المحتمل أن ينتهي بي الحال في ملجأ للفقراء تماما كما هو من المحتمل أن ينتهي بي في مجلس اللوردات؛ فأنا من النوع المتوسط، ذلك النوع الذي يجذبه نوع من القانون الطبيعي نحو مستوى الجنيهات الخمس في الأسبوع. وأينما وجدت أمامي أي وظيفة أيا كانت تحقق ذلك، فسأبذل ما في جهدي للحصول عليها.
حدث ذلك عندما كنت أتجول لبيع دبابيس الورق وأشرطة الآلات الكاتبة؛ حيث تسللت إلى مبنى مكتبي ضخم في شارع فليت استريت، وكان ممنوعا فيه التجول للبيع في الحقيقة؛ ولكني تمكنت من إعطاء عامل المصعد انطباعا بأن حقيبة العينات التي أحملها حقيبة أوراق. مشيت في أحد الممرات بحثا عن مكاتب شركة صغيرة لمعاجين الأسنان، أوصاني أحد الأشخاص بتجربة البيع لها، ولكني رأيت شخصا شديد الأهمية في الجهة الأخرى من الممر. علمت على الفور أنه شخص مهم. تعلم كيف هي سمات رجال الأعمال الكبار هؤلاء؛ إذ يبدو أنهم يشغلون مساحات أكبر ويتحدثون بصوت عال أكثر من أي شخص عادي، وتخرج منهم هالة من المال يمكنك رؤيتها على بعد خمسين ياردة. عندما اقترب مني، أدركت أنه السير جوزيف تشيم. بالطبع كان في ملابس مدنية، ولكني لم أجد صعوبة في التعرف عليه. أظن أنه كان في ذلك المكان لحضور مؤتمر عمل أو ما شابه. وكان يتبعه موظفان، أو سكرتيران أو أيا كانا؛ كانا كأنما يحملان ذيل ثوبه رغم أنه لم يكن يرتدي ثوبا ذا ذيل، ولكن شيئا في المشهد يشعرك بأن الأمر كذلك. بالطبع تنحيت جانبا على الفور، ولكن من المفاجئ أنه عرفني على الرغم من أنه لم يرني منذ عدة سنوات، وما فاجأني أيضا أنه وقف وتحدث معي، قائلا: «مرحبا! لقد رأيتك في مكان ما من قبل. ما اسمك؟ إنه على طرف لساني.» «بولينج يا سيدي. كنت في فيلق خدمة الجيش.» «بالطبع. أنت الشاب الذي قال إنه ليس من الأعيان. ماذا تفعل هنا؟»
كان بإمكاني أن أخبره أنني أبيع أشرطة الآلات الكاتبة، ولكن ربما كان سينهي ذلك كل شيء؛ ولكن أتى لي خاطر مفاجئ كالذي يأتي المرء من حين لآخر، شعور بأنه بإمكاني أن أستفيد من هذا الموقف إذا تعاملت معه بشكل ملائم، فقلت بدلا من ذلك: «حسنا يا سيدي، في الواقع أنا أبحث عن وظيفة.» «وظيفة، حقا؟ ممم. إنه ليس بالأمر السهل هذه الأيام.»
نظر إلي متفحصا لبرهة. كان حاملا الذيل على مسافة قليلة منه؛ ورأيت وجهه العجوز الوسيم، وحاجبيه الرماديين الكثيفين، وأنفه الذي ينم عن الذكاء، وهو يرمقني وأدركت أنه قد قرر مساعدتي. غريبة هي سلطة هؤلاء الرجال الأغنياء؛ فلقد كان عابرا بجواري بقوته ومجده وتابعاه خلفه، ثم في لحظة صفاء عدل من وجهته كإمبراطور يرمي فجأة عملة معدنية لشحاذ، وقال: «إذن أنت تريد وظيفة. ماذا يمكنك أن تفعل؟»
نشط إلهامي مرة أخرى، ولكن بلا فائدة هذه المرة؛ فالمبالغة في ذكر المزايا غير مجد مع رجل كهذا، فقررت قول الحقيقة. قلت: «لا شيء يا سيدي. ولكني أرغب في العمل كمندوب مبيعات متجول.» «مندوب مبيعات! ممم. لست متأكدا من أنه يمكنني أن أجد لك شيئا في الوقت الحالي. سأرى.»
زم شفتيه لأعلى. لوهلة، أو ربما لنصف دقيقة، أخذ يفكر بعمق شديد. كان الأمر مثيرا. حتى في ذلك الوقت كنت أدرك أنه مثير. هذا الرجل الكبير المهم، الذي كان يمتلك على الأقل نصف مليون جنيه، كان بالفعل مهتما بأمري؛ فلقد عارضت طريقه وأضعت على الأقل ثلاث دقائق من وقته، كل ذلك بسبب ملحوظة صادف أني أبديتها منذ سنوات سابقة. لقد علقت في ذاكرته، ومن ثم كان مستعدا للتعامل مع المشكلة الصغيرة المتمثلة في إيجاد وظيفة لي. أستطيع القول إنه في ذلك اليوم قد طرد عشرين موظفا. وأخيرا قال: «ماذا عن العمل في شركة للتأمين؟ إنه شيء مستقر إلى حد ما، كما تعلم؛ فالتأمين أصبح ضرورة، مثله مثل الطعام.»
بالطبع أحببت فكرة العمل في شركة للتأمين، وكان السير جوزيف «متحمسا» لشركة فلاينج سلامندر. الواقع، كان «متحمسا» للعديد من الشركات. وتقدم أحد تابعيه بدفتر للملاحظات، وعلى الفور أخرج قلم الحبر الذهبي من جيب صدريته وكتب توصية من أجلي إلى أحد أصحاب المناصب الرفيعة في فلاينج سلامندر. شكرته ومضى في طريقه، وتسللت أنا في الاتجاه الآخر، ولم ير أي منا الآخر ثانية.
وهكذا، حصلت على الوظيفة؛ وكما قلت من قبل فقد حصلت علي الوظيفة هي الأخرى. إنني أعمل في فلاينج سلامندر منذ ما يقرب من ثمانية عشر عاما؛ وقد بدأت بالعمل في المكتب، ولكني الآن أعمل في وظيفة يطلقون عليها مفتش، أو عندما يكون ثمة داع للإبهار، يطلقون علي ممثلا. أعمل يومين في الأسبوع من المكتب المحلي؛ وبقية الوقت أتجول بين مقابلة العملاء الذين يرسل أسماءهم الوكلاء المحليون، وتقييم المتاجر وغيرها من الممتلكات، ومن حين لآخر إجراء صفقة أو صفقتين لحسابي الخاص؛ وأكسب حوالي سبعة جنيهات بالتقريب في الأسبوع. في الحقيقة تلك هي نهاية قصتي.
عندما أرجع بالذاكرة، أدرك أن حياتي الحقيقية - إن كنت قد عشت حياة بهذا المعنى بالفعل - انتهت في سن السادسة عشرة؛ فكل شيء كان مهما بالفعل بالنسبة لي قد حدث قبل ذلك العمر. ولكن الأمور كانت لا تزال تحدث - الحرب، على سبيل المثال - حتى وقت حصولي على الوظيفة في فلاينج سلامندر؛ ولكن بعد ذلك، حسنا، يقولون إن الأشخاص السعداء ليس لديهم تاريخ، وكذلك من يعملون في مكاتب التأمين؛ منذ ذلك اليوم وما بعده، لم يكن ثمة شيء في حياتي يمكنك أن تصفه بالحدث، عدا ما حدث بعدئذ بعامين ونصف العام في بداية عام 1923 حين تزوجت.
نامعلوم صفحہ