لم يحدث قط خلال الوقت الذي قضته كارين في المدرسة بصحبة تيد وجريس أن وجدت نفسها في مكان تنبعث منه تلك الرائحة المزعجة للسكر المحروق والدهن ودخان السجائر والقهوة. أما روزماري فقد طافت عيناها بسعادة بين أرفف الكعك المحلى بالكريمة - المحشو بالجيلي والمغطى بطبقة من السكر البني والزبد والشوكولاتة - والبقلاوة والإكلير والحلوى المخروطية والكرواسون المحشي وكعك الشوفان والشوكولاتة. لم تجد سببا لأن ترفض أيا من هذه الأصناف، ربما بالطبع فيما عدا الخوف من السمنة، ولم تكن قادرة على تصور ألا تكون هذه المأكولات هي ما يشتهيه الجميع.
وعلى طاولة المتجر - حيث لا يسمح لأحد بالجلوس أكثر من عشرين دقيقة كما تقول اللافتة - جلست روزماري بالقرب من امرأتين شديدتي البدانة، شعرهما كثيف مموج، وبينهما رجل نحيل طفولي المظهر رغم تجاعيد وجهه، كان يتحدث بسرعة وبدا يتندر بالنكات. وبينما كانت السيدتان تهزان رأسيهما وتضحكان - وروزماري تلتقط الكرواسون باللوز من الطبق - غمز الرجل بعينه لكارين على نحو بذيء وإيحائي؛ نبهتها هذه الغمزة إلى أن أحمر الشفاه لا يزال على شفتيها. ثم قال لروزماري: «لا تستطيعين مقاومة الحلوى، أليس كذلك؟» فضحكت على اعتبار أن ما قاله دال على الألفة المميزة لأهل المدينة.
ردت عليه: «بلى، لا أستطيع البتة.» ثم التفتت لكارين وسألتها: «أواثقة أنك لا تريدين شيئا؟ قطعة حلوى واحدة؟»
فقال الرجل صاحب التجاعيد: «تحرص فتاتك الصغيرة على العناية بقوامها.» •••
كادت شوارع ذاك الجزء الشمالي من المدينة تخلو من أي سيارات مارة. بدأ الجو يبرد وتفوح منه رائحة رطوبة عطنة، وعلا صوت نقيق الضفادع حتى إنه غطى على صوت السيارة في بعض الأماكن. انعطف هذا الطريق السريع ذو الحارتين أمام صف من الشجيرات الكثيفة دائمة الخضرة وحقول أشجار العرعر الأقل كثافة والمزارع التي تمتد حتى الغابة، ثم انعطف مرة أخرى فأنارت مصابيح السيارة الأمامية الطريق وسقط ضوءها على أول كومة من الأحجار؛ كان بعضها ذا لون رمادي ووردي لامع، والبعض الآخر أحمر بلون الدم الجاف. وسرعان ما تكرر المرور بهذه الأحجار مرة تلو الأخرى، وفي بعض الأماكن رأتاها بألوان رمادية أو بيضاء مائلة للخضرة؛ متراصة في طبقات سميكة أو رفيعة - وكأن شخصا ما نظمها على هذا النحو - غير مكومة معا كأول مرة صادفتاها. تعرفت كارين على هذه الأحجار؛ إنها أحجار الكلس التي تبنى بها الأساسات، وفي هذه الأماكن كانت مختلطة بأحجار الدرع الكندي. ديريك هو من قال لها هذا. كان يقول إنه يتمنى لو كان جيولوجيا؛ لأنه يحب الصخور، لكنه ما كان ليفضل ذهاب الربح لصالح شركات التعدين. وكان شغوفا بالتاريخ أيضا؛ كان له مزيج غريب من الأشياء المفضلة. كان يقول إن التاريخ يصلح للرجل البيتوتي، والجيولوجيا للرجل المنطلق المحب للعمل في الهواء الطلق؛ يردد ذلك بوقار ورزانة يوحيان بأنه يسخر من نفسه.
الشيء الذي أرادت كارين أن تتخلص منه الآن - بل وتمنت أن تطيح به من نوافذ السيارة ليتلاشى في ظلمة السماء مع الهواء المندفع - هو مشاعر الازدراء والتعالي نحو حلوى الكرواسون باللوز والقهوة الرديئة التي تحتسيها روزماري خلسة، وذاك الرجل الذي كان يجلس على طاولة المتجر، بل وأيضا فستان روزماري المتصابي الذي كان أقرب لثياب الهيبيز، وشعرها المشعث. أرادت أيضا التخلص من شعورها بافتقاد ديريك، وبأنه خلف فراغا كبيرا، وبأن فرصة لقائه آخذة في التضاؤل. لكنها قالت بصوت عال: «إنني سعيدة؛ سعيدة أنه رحل.»
قالت روزماري: «أحقا أنت سعيدة؟»
قالت كارين: «ستكونين أكثر سعادة.»
ردت روزماري: «نعم، لقد بدأت أستعيد احترامي لذاتي. لا يدرك المرء إلى أي حد قد فقد احترامه لذاته، وإلى أي مدى يفتقده إلا بعد أن يبدأ في استعادته. أود أن نحظى معا بعطلة صيفية طيبة بالفعل. يمكن أن نخرج في رحلات قصيرة معا. لا مشكلة لدي في الذهاب بالسيارة إلى أي مكان آمن. يمكننا أن نسير في الغابة حيث كان يصطحبك ديريك. أحب أن نفعل هذا.»
قالت كارين: «حسنا» مع أنها لم تكن واثقة تماما أنهما لن تضلا الطريق دون ديريك. لم تكن تلك النزهات هي ما يشغل تفكيرها، بل انشغلت بمشهد حدث الصيف الماضي. حينها كانت روزماري مستلقية على الفراش، متدثرة بلحافها، تنتحب وتعض بأسنانها عليه وعلى الوسادة من الغضب والحزن، بينما يجلس ديريك أمام الطاولة - حيث كانا يعملان - وفي يده صفحة من النص يقرؤها. قال لكارين: «هل بإمكانك أن تفعلي شيئا لتهدئة أمك؟»
نامعلوم صفحہ