لمحها الرجل وهي تتلمظ بعد الوجبة الشهية، مسحت فمها بكفها كأنما تخفي الإثم، شدت عضلات ظهرها، سارت تدب بقدميها كما كانت تفعل وهي طفلة، إنها تسرع الخطى، كأنما لتلحق موعدا محددا في المكان المحدد، أنفاسها تلهث كالأطفال، تكاد تصرخ من الفرح حين تصل قبل الموعد بلحظة، تلك الليلة كانت الريح تعصف، والغبار الأسود يحجب السماء والأرض، ظلت جالسة في مكانها تنتظر، ربما انتصف الليل وهي تنتظر، كانت على يقين أن النسوة هناك وراء السحب، وأنهن سوف يظهرن مثل كل ليلة، السحب كانت تراها متحركة، وسوف تنتقل من هذا المكان إلى مكان آخر، سوف تظهر النسوة حتما، عن يقين سوف يظهرن، وبدأت تغني لتسلي نفسها، كانت تسمع خالتها والنسوة من الجارات يغنين للست الطاهرة، أو يغنين للشمس حين تطلع، أو للقمح عند الحصاد، أو لمياه النيل حين تفيض، أو للقمر حين يصبح بدرا، تتوه عيناها في خضم الظلمة السوداء، تلمع الدموع في عينيها، النسوة لم يظهرن ككل ليلة. - هل وشين بها عند صاحب الجلالة؟
كانت الريح تلطم وجهها بالذرات السوداء، كل شيء من حولها تغطى بالظلمة، لا هي بالسائلة ولا هي باليابسة، تتسرب من تحت الجلد وتدخل مسام جسمها، تزحف من تحت العظام إلى مراكز الحس والعصب. - بللي لسانك بقطرة أو قطرتين.
كان الرجل واقفا، ذراعه ممدودة إليها بالزجاجة، وهي تحاول أن تمد ذراعها، عيناها مفتوحتان عن آخرهما، شفتاه تتحركان دون أن تسمع الصوت، وأذناها مسدودتان، تراكمت الذرات وذابت مع السخونة كالشمع الأسود، وهو واقف أمامها على بعد امتداد الذراع، يده تمسك الزجاجة، ذراعها ملتصقة بجسمها، تحاول أن تحركه فلا يتحرك، جسمها في مكانه ثابت، بينما الضفدعات تتطاير بخفة حول اللمبة.
اتسعت عيناها تحملقان في الضوء، جفونها ملتهبة لا تقوى على إغلاقها، اللهب يلسع البياض العاري، شدت جفونها وأغمضت عينيها، بدت الظلمة أفضل من الضوء، عقلها أيضا بدا لها أكبر من عقل الضفدعة، من تحت الجفون كانت ترى نقاط الضوء تسبح في المساحات السوداء، مثل قطرات الماء تنزلق من بين عينيها. - أتبكين كالنسوة؟
لم تكن تعرف أنها هي التي تبكي، كان النشيج يسري في أذنيها كصوت واحدة من الجارات، أو صوت خالتها، أو أمها وهي بعد جنين، أو ربما هي الست الطاهرة نفسها، لم تكن سمعت صوت السيدة الطاهرة أبدا، لكن خالتها كانت تسمعه، وحين تنام تترك النافذة مفتوحة، ترهف أذنيها في الليل، قبل طلوع الفجر، يسري الصوت هادئا كشعاع من الضوء، لا تكاد تسمعه وهي راقدة فتنهض، تشرئب بعنقها نحو الأفق، يأتيها الصوت من بعيد قبل ظهور الشفق. - أمرت بشفائك من وجع الرأس، انهضي!
تنهض خالتها على الفور من رقادها، تفك المنديل من حول رأسها، تجلس في الطشت، تصب الماء بالكوز فوق جسمها، مع كل كوز تهمس باسم الست الطاهرة ثلاث مرات. - من هي الست الطاهرة يا خالتي؟
تفتح خالتها ذراعيها كأنما هي كل العالم، الست الطاهرة هي أم الكون، هي أم السماء والأرض، هي الوحيدة القادرة على شفائها، هي أم الآلهة جميعا والأنبياء، هي واهبة الحياة والصحة، وهي إلهة المرض والموت. - نعم يا ابنتي، من تعطي الحياة هي القادرة على أخذها ومن تجلب المرض هي التي تجلب الشفاء. •••
من وراء الكثبان العالية، عبر المسافة البعيدة في الليل، رأت مندوب البوليس جالسا، كان هو الكرسي المتحرك ذاته، يدور به فيصبح وجهه ناحية زوجها، بدا كأنما أيقظوه فجأة من النوم. - أراك متورم الجفون، وشفتاك مشققتان، هل أنت مريض؟ - منذ العيد لم يرسلوا إلينا المنحة. - ألا تكف عن التذمر وأنت في نهاية العمر؟ ألا تعرف أن صاحب الجلالة هو الخادم الأمين والساهر على الدوام من أجل راحتنا؟ - أجل، هذا واضح تماما لكن ... - ليس عندك حجة الآن لعدم الكتابة، وعندك هذه الآلة الجديدة. - أتنوي الشركة توصيل التيار؟ - أجل، وإذا جاء التيار يمكن لك أن تكتب حين تنقطع الكهرباء، وهذه الآلة الجديدة كما تعرف تفكر، وتكتب وتشطب وتمسح و... - وتغسل وتطبخ وكل شيء، إنها تقوم بعمل أربع زوجات على الأقل. - ألم تعد زوجتك من الإجازة بعد؟ - أتعني الأولى أم الأخيرة؟ - على أي حال نحن جادين في البحث، لا بد من تقديم تقرير لصاحب الجلالة قبل نهاية العيد، وهو كما تعرف في انتظار مقالك الجديد بمناسبة عيد ميلاده، أتعرف أنه سألني عنك، ولماذا لم تعد تكتب؟
منذ كف عن الكتابة لم يكن هناك إلا فراغ العالم، امتداد الليل في النهار ولا أحد يسأل عنه، مساحات من الظلمة لا يملؤها إلا النوم، أو قراءة الصحيفة أو تحريك الذراعين والساقين في الهواء، مع طرقعة أصابع القدم، كان مثل صاحب الجلالة لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لم يكن له أن يكون أفضل من الملك، ثم ما جدوى القراءة والكتابة؟ الأنبياء جميعا كانوا أميين واستطاعوا رغم ذلك قيادة العالم، أليس كذلك؟
كان يدق طول الليل بأصبعه، الدقات تطرقع في رأسها وهي نائمة، صوت الريح أيضا كان يفرقع، والشلال يهدر كالمطر يدق النوافذ والأبواب، تلف رأسها بالمنديل الأسود، تعقده فوق جبينها كرأس الثعبان، ترى نفسها في المرآة مثل الإلهة سخمت، يرمقها بعينين حمراوين ملتهبتي الزوايا. - صاحية؟ - لأ.
نامعلوم صفحہ