الإهداء
مقدمة
1 - آلهة الحب عند الإغريق والرومان
2 - الحب في الميزان
3 - العواطف
4 - القبلة
5 - العشق
6 - الحب في أمثال الشعوب والأمم
7 - قصة الحب الخالد
الإهداء
مقدمة
1 - آلهة الحب عند الإغريق والرومان
2 - الحب في الميزان
3 - العواطف
4 - القبلة
5 - العشق
6 - الحب في أمثال الشعوب والأمم
7 - قصة الحب الخالد
الحب في الميزان
الحب في الميزان
تأليف
أمين سلامة
الإهداء
إلى التي بهرني حبها ... فأعماني وأعماها،
والتي أرقني هواها ... فأشقاني وأشقاها،
إليك يا من علمتني معنى الحب ... فأبغضته كل البعض،
ويا من أذقتني يوما طعمه ... فأحببته كل الحب،
إليك أهدي هذا الكتاب؛
لعل فيه لك وللعاشقات هداية،
وفيه للمحبين أيضا عبرة ودراية.
أمين سلامة
مقدمة
الحاء والباء
حرفا هجاء
سلني عنهما
من لا يعرفهما!
ولم تسألونني؟
وهناك من سبقوني
ممن عرفوا الحاء،
وعرفوا الباء،
ووضعوا الحاء قبل الباء،
ليفتكا بالناس والدهاء،
فانتشرت «الحاء» بين الأفراد،
وهامت «الباء» بين الآحاد؛
ليعبثا بالقلوب والأجساد،
فلم ينج منهما جد من الأجداد،
ولم يخل منهما بلد من البلاد،
فطغى الحب في الأقطار والنجاد،
وكانت له الغلبة فساس وساد،
ورضخ له الناس من سائر العباد،
فاشتعلت ب «الحاء» قلوب الغيد والعذارى،
كما اضطرمت ب «الباء» قلوب الرجال نارا،
وعمروا ب «الحاء والباء» الدور والأقطارا.
الباب الأول
آلهة الحب عند الإغريق والرومان
وجد الحب بوجود الإنسان،
وليس بعد حب آدم لحواء من حب،
فقصة هذا الحب غير معروفة لنا فعلا.
ولكن .. قد عمر الكون وامتلأ بالمخلوقات، واكتظ ببني آدم وبنات حواء.
ومن المجزوم به الذي لا مراء فيه أن آدم هو أصل هذا الكون، كما أنه مما لا شك فيه أن رسالة حواء في هذا الذي حدث لا تقل عن رسالة آدم، إن لم تزد عليها كثيرا. وفي هذا المعنى يقول أبو العلاء المعري، الفيلسوف الزاهد الشاعر، قوله المأثور:
أكان أبوكم آدم بالذي أتى
نجيبا فترجون النجابة بالنسل؟!
إذن عرف آدم الحب مذ هبط إلى الأرض، وعرفت حواء الحب منذ أن وجدت آدم إلى جوارها.
وكان حب، وكان نسل .. ثم كانت المعمورة.
نما الحب بمرور السنين وتعاقب الأيام، وكبر وترعرع حتى صار عملاقا تتضاءل بجانبه شم الجبال.
وتفنن البشر في ضروب الحب، فصار الحب بتعاقب الملوين فنا عظيما يقصر إزاءه كل فن جميل أو غير جميل، وتعددت صور الحب وتباينت وتلونت وتشكلت، فإذا بالحب يصبح سيدا طاغيا، له على القلوب سلطان، وعلى العقول سطوة وسيادة، وإذا به يدحر ويغلب، ويقهر ويعذب.
عظمت دولة الحب وامتد سلطانها، فأصبحت الدولة العظمى التي تضم جميع البشر في رحابها، وفي ركابها، وتحت لوائها. وإذا بالبشر أجمعين يصبحون بالنسبة إلى هذه الدولة رعايا مخلصين، مؤمنين ظاعنين،
1
راضين طيعين، ملبين خاضعين، ساجدين خاشعين، قد رضوا بالحب ملكا وسلطانا، ورئيسا وسيدا عظيما. لا يسعهم أجمعين إلا أن يرضخوا لكل أمر كبير أو صغير، يصدر من فمه الحلو المرير.
وكان للحب عند الأغارقة والرومان مكانة عظيمة، ومنزلة سامية، يقدسونه تقديسا، ويعبون من كأسه مترعة.
ما كان الأغارقة والرومان ليعترفوا بالحب كشيء يغزو القلوب ويلعب بالأفئدة فحسب، بل بلغ من شدة إيمانهم بهذا الحب أن جعلوا له بين آلهتهم إلهة وإلها.
فمن يا ترى هذه الربة التي ألهها الإغريق والرومان، وعبدوها كخالقة للحب، ومسيطرة على عنفوانه وجبروته، وقدرته وغزواته؟
ومن هو هذا الرب الذي بجلوه هذا التبجيل، وجعلوه على الحب مشرفا ومهيمنا، ونصبوه عليه سيدا وآمرا؟ يتصرف فيه كما يهوى ويشاء، ويوزعه هنا وهناك كما يود ويرغب، والحب له صاغر، وبأمره يأتمر، وفي حضرته خاشع ساجد. •••
أي «فينوس»! يا صاحبة التاج المعلى، ويا ربة الحب عند الرومان.
أي «فينوس»! يا زعيمة الحب، وسيدة الغرام، والمسيطرة على عالم العشق والهيام بين الآلهة وبين البشر.
أي «فينوس»! يا ملكة الملكات في دنيا السموات والأرض، وأميرة الأميرات في كل زمان ومكان، يا من خلدك التاريخ في أنصع صفحاته، فكنت وحي المحبين، وعزاء العاشقين المتيمين. •••
آمن الأغارقة والرومان في عقيدتهم ودينهم ب «فينوس» هذه، وجعلوا من اختصاصها الهيمنة على الحب في السموات والأرض.
ولقد حدثنا هسيود
Hesiod ، الشاعر الإغريقي الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد تقريبا، في منظومته «سلسلة نسب الآلهة»، عن «فينوس» ربة الحب والغرام فقال: «أنجبت الأرض في البدء السماء بنجومها، تساويها في المساحة؛ حتى تكسوها من كل صوب وناحية، ولتصير موطنا أبديا للآلهة المباركين، كما أنجبت البحر العاقر ذا العباب المتلاطم، من غير اضطجاع ولا حب ... بيد أنها اضطجعت فيما بعد مع السماء، وأنجبت أوكيانوس (المحيط) العميق الغور، ثم ولدت كرونوس (الزمن) الداهية الدهياء، أصغر وأقوى أبنائها شكيمة، وأعظمهم بأسا، وكان يكره أباه لشهوانيته.
كذلك أنجبت الأرض للسماء ثلاثة أبناء آخرين، وكان لهم من القوة والجبروت ما يعجز عنه الوصف، ويقصر عن ذكره اللسان. وكان يبرز من أكتافهم مائة ذراع لا يمكن الاقتراب منها. وكان لكل منهم خمسون رأسا فوق منكبيه وأعضائه الفتية. أما القوة الفتية التي في هياكلهم الضخمة فمن العسير مقاومتها؛ لأنهم كانوا أكثر الأبناء هولا وهيبة، دون سائر من ولد للأرض والسماء. وكان أبوهم يكرههم منذ البداية، ويمقتهم منذ ولادتهم، فمتى ولد أحدهم كان يخبئه في مكان خفي تحت الأرض، فلم يتكبدوا مشقة الصعود إلى حيث الضوء.
كان عمله الشرير هذا يدخل السرور على قلبه، والغبطة على فؤاده؛ فيرتاح باله ويهنأ خاطره، أما أمهم الأرض الفسيحة فكانت تئن وتتوجع أحشاؤها، فلما برح بها الألم ونال منها الحزن والكمد، حتى بلغ السيل الزبى، فكرت في مكيدة أثيمة دهياء، فصنعت في الحال عنصر الحجر الصوان الرمادي اللون، وشكلت منه منجلا ضخما، وأطلعت أبناءها المقربين على خطتها، وحدثتهم بفكرتها؛ لترفه عن أنفسهم، وهي في قرارة قلبها تتميز غيظا، وتتحرق أسى، والحزن يسري في أحنائها فيعصر فؤادها عصرا، ويشعل جذوة الحقد الدفين في صدرها، فقالت: «أي بني! يا نسل أب أثيم، ووالد شرير رجيم، أنتم تعلمون ما يقوم به ذلك الداهية من عمل مشين، ويجب علينا أن نعاقبه على ما اقترفت يداه، وجناه فكره. فإن أطعتموني فيما أطلب إليكم عمله، تمكنا من مجازاته، والحد من جرائره ونزواته، فلقد طغى وبغى، واقترف أمورا شائنة وذنوبا فاضحة».»
هكذا حدثتهم أمهم الأرض، ولكنهم ارتجفوا لهول ما حدثتهم، واجتاحتهم جميعا نوبة من الفزع والهلع، حتى سكتوا كأن على رءوسهم الطير، ولم ينبس أحدهم ببنت شفة، ولم يجرؤ على التفوه بكلمة واحدة. وظلوا كذلك فترة لا يعرف مداها، أقصرت أم طال أمدها، غير أن الشجاعة الخارقة والجرأة النادرة، استفزتا كرونوس العظيم الداهية، فمزق ذلك السكون الرهيب، وأجاب أمه بقوله: «أماه! والدتي العزيزة، مري، فتطاعي، وأصدري ما تشائين من أوامر تجديني أطوع إليك من بنانك، سأقوم بتنفيذ خطتك، مهما لاقيت من أخطار، واعترضني من صعاب؛ لأنني لا أحترم أبانا لسوء سمعته، فهو البادئ باقتراف أمور شائنة، والبادي أظلم، والمعارض منتصر.»
ما إن سمعت الأرض الفسيحة كلام ابنها هذا، حتى ابتهجت وعم السرور جميع أحنائها، فساقته أمامها، وخبأته في كمين، ووضعت بين يديه منجلا مثلما، وأملت عليه تفاصيل الخطة كاملة.
وجاءت السماء تجلب الليل معها، والصبا والصبابة، ثم رقدت فوق الأرض ناشرة طياتها عليها نشرا تاما. عندئذ مد كرونوس يده اليسرى، وهو قابع في مخبئه، وقد حمل في يمناه المنجل الضخم الطويل ذا الأسنان المثلمة، فقطع بسرعة البرق عضو أبيه الذكر، وألقى به بعيدا ليسقط خلفه، غير أنه لم يسقط من يده هباء، فإن جميع قطرات الدم التي تساقطت، تلقتها الأرض، وبمرور الزمن، أنجبت ربات الانتقام القاسيات، والجبابرة الشديدات، بدروعهن اللامعة، ورماحهن الطويلة بأيديهن، وكذا الحوريات الفاتنات، في سائر بطاح الأرض الواسعة.
ما إن بتر كرونوس عضو الذكر بالحجر الصوان، وألقى به من فوق الأرض إلى البحر المتلاطم، حتى جرف بعيدا إلى عرض البحر مسافة بعيدة، ثم انتشر حوله زبد أبيض من اللحم الخالد، ونمت فيه عذراء، اقتربت في البداية من كيثيريا المقدسة، ومن ثم وصلت إلى قبرص التي تحيط بها المياه من كل جانب، وبزغت ربة رهيبة ذات جمال فذ وفتنة نادرة، ذات عينين نجلاوين لحاظهما كالسهام فتكا، وعود فارع نحيل، وقد أهيف، تتثنى في مشيتها في رقة ودلال، وسرعان ما نما الحشيش حول أسفل قدميها الرقيقتين، وقد أطلق عليها الآلهة والبشر اسم أفروديت، أي «فينوس»، كما سموها بالربة الزبدية المولد ، لأنها نمت وسط الزبد، وب «كيثيريا» ذات الهامة الناصعة المجيدة؛ لأنها وصلت إلى كيثيريا، وقبروجينيس لأنها ولدت في قبرص، ومحبة الأعضاء الذكرية؛ لأنها خلقت من عضو الذكر، وسار إروس (إله الحب) برفقتها، وقام الشوق الجميل يتبعها ساعة ميلادها في بادئ الأمر، وعندما أخذت تشق طريقها وسط جمع الآلهة.
هكذا حدثنا هسيود عن مولد «فينوس» التي هي أفروديت عند الإغريق.
كان ل «فينوس» هذا الشرف منذ البداية، واختصت بذلك النصيب بين البشر والآلهة الخالدين - همسات العذارى الفاتنات وابتساماتهن الخلابة، وأخاديعهن المتقنة. أضف إلى ذلك الانشراح الحلو، والحب والرحمة.
تفنن الأغارقة والرومان فيما خلعوه على «فينوس»، المولودة من زبد البحر ومن عضو ذكر أبيها، فلم يكتفوا بأن جعلوها ربة الحب ومسراته، والزواج وملذاته، مع القدرة على هدم وقتل الحب في قلوب البشر، بل جعلوها أيضا ربة الجمال التي تهب البشر جمال الجسد وفتنته، وسبي العقل، وربة الإخصاب بسائر ألوانه، بما في ذلك إخصاب الخضراوات والحيوانات.
كانت الزهور مقدسة ل «فينوس»، وكذا الآس والزيزفون والتفاح والخشخاش والرمان والعرعر.
وكانت «فينوس» لا تفضل من الحيوانات غير البجعة والدلفين والعصفور الدوري والحمامة والسنونو والأرنب والكبش والسلحفاة.
وكانت حوريات البحر يقمن بخدمتها وتعليمها في مغاراتها.
ولقد كانت نظرة الرومان ل «فينوس» صورة مطابقة لنظرة الإغريق لأفروديت، بيد أنها كانت عند الرومان بمثابة ربة القوى والطبيعة المنتجة، وربة الكياسة والازدهار، وحليفة البستاني. وعلى أية حال كانوا يصورونها في هيكل جليل ذي رداء.
أما «فينوس» مدينة بومبي، فكانت تصور بتاج على رأسها، وفي يدها غصن الزيتون، وصولجان تستند عليه بيدها اليسرى، يجاورها ابنها المجنح، غير أنها كانت تصور أحيانا مدثرة، تحمل رمحا في يدها اليسرى، وخوذة في يدها اليمنى، وبجوارها درع. كما كانت تصور جالسة تحمل «كيوبيد» في يدها الممتدة.
ولقد بلغ اهتمام الحكام الرومان ب «فينوس» أن حابى «سولا» عبادتها تحت لقب «فينوس فيليكس»؛ أي «فينوس» جالبة الحظ السعيد.
كما بجلها بومبي ك «فينوس فيكتريكس»؛ أي «فينوس» جالبة النصر.
وجعلها يوليوس قيصر ذائعة الصيت ك «فينوس جينيتريكس »، جدة عائلته والشعب الروماني.
وازدهرت عبادتها في عهد الإمبراطورية بواسطة البيت الجولياني.
وفيما بعد كرمها الإمبراطور هادريان؛ فبنى معبدا عظيما مزدوج الشكل ل «فينوس» وروما.
ولقد عبدت «فينوس» أيضا على أنها «فينوس فيرتيكورديا»؛ أي تلك التي تحول القلب حتى تحفظ نساء روما من الخلود.
وكانت الفتيات الرومانيات إذا تزوجن يكرسن دماهن إلى «فينوس».
وكانت العادة المتبعة أن يوضع قبر الفتاة الصغيرة تحت حماية «فينوس»، وأن يزين أحيانا بتمثال لها.
أحبت «فينوس» كما يحب البشر، وهام قلبها بالحب والغرام، وتدلهت بالعشق والهيام، حتى صار يضرب المثل بغرامياتها، وعشقياتها.
وقد طلب آلهة كثيرون الزواج منها فرفضت، ثم طلب زوس كبير الآلهة، وملك الأرباب والبشر أن يتزوجها فرفضت بإباء وشمم رفضا باتا؛ فعز على كبير الآلهة أن ترفضه «فينوس» التي أسرت قلوب الجميع بجمالها ورشاقتها، وحلو حديثها ورقتها، وطلاوتها وبهجتها، فصمم على الانتقام منها.
انتقم زوس من «فينوس»، انتقاما ينم عن الحقد الكامن والغيظ المتلهب، فزوجها من «رب النار» ذي الوجه القبيح المشوه.
ولكن «فينوس» أحبت «رب الحرب والكرب والضرب»، وتملك حبه من شغاف قلبها، واستولى على فؤادها ولبها؛ فألحق بها هذا الحب العار والفضيحة، بعد أن كشف سره زوجها المسكين «هيفايستوس» رب النار، والحداد الماهر، الدميم الخلقة، المشوه الأعضاء.
راحت «فينوس» بعد ذلك تنتقل من حب إلى حب، ومن أحضان إلى أحضان. فأحبت من الآلهة من أحبت، واشتهت من البشر من اشتهت.
هامت بحب «أدونيس» الفتى الصياد الجميل القسمات، العريض المنكبين، الأدعج العينين، بعد أن أقنعته بترك الصيد من أجلها.
كذلك أحبت «أنخيسيس» الراعي، واشتبكت من أجله ومن أجل حبه في نضال مستمر مرير مع ملكة الآلهة، حتى يحقق حبيبها حظه في الحياة، بأن يؤسس الإمبراطورية الرومانية.
كان يلذ ل «فينوس» حب جميع الرجال ولا سيما الشباب منهم، المفتولو العضلات، الأقوياء الأجسام، ذوو الوجوه الباسمة الجميلة، والرقة الأخاذة.
وهناك قصص لا تعد ولا تحصى عن الكيفية التي كانت تساعد بها من يحظى بحبها، ويتذوق حلو غرامها، وكذلك المآسي التي سببها نشاطها. ورغم كل ذلك، اعتبرت «فينوس» مثال الأنوثة الكاملة التي يمشي في ركابها كل ما يمثل الحب والضحك والكياسة والرقة واللطافة.
أنجبت «فينوس» صبيا يسميه الرومان «كيوبيد» أو «أمور»، فكان الرفيق الدائم الصحبة لأمه، واعتبر إله الحب الذي يمثل مبدأ الاتفاق والاتحاد في بناء العالم ومخلوقاته.
ظل «كيوبيد» هذا طيلة حياته طفلا يملؤه المرح والحزن، ولكنه مع ذلك كان لا يعرف الرحمة، قاسي القلب، تصعب مقاومته، ليس لسلطانه حد على الآلهة وعلى البشر سواء بسواء.
صوره الإغريق والرومان مسلحا بقوس وجعبة مملوءة بالسهام، وشعلة كي يتمكن من أن يطعن أو يشعل قلوب ضحاياه.
وكانت له أجنحة ذهبية تساعده على سرعة الحركة، كما دفعته عيونه التي لا تبصر إلى أعمال تهورية لا تحمد عقباها.
كان «كيوبيد» شريكا لأخيه إله الحب المتبادل، وشريكا لإله الشوق وإله الشهرة، وربة الإقناع، وربات الفنون.
وهناك قصص يخطئها الحصر عن نشاط «كيوبيد» وإيقاظه الحب في قلوب الآلهة والبشر، تارة بدافع من نفسه، وتارة بإيعاز من والدته «فينوس».
فمثلا، عندما نصحه رب الشمس مازحا أن يترك سهامه إلى الأبطال، أصاب رب الشمس بسهم جعله يندفع اندفاعا نحو دافني ابنة إله أحد الأنهار، في حين أنه رمى دافني بسهم آخر جعلها تنفر منه نفور الحمر المستنفرة من القسورة.
ولم تنج «فينوس» نفسها من سهام «كيوبيد»، فقد حدث لها أثناء لعبه معها أن جرحت بسهم من سهامه فوقعت في غرام أدونيس. وكذلك «كيوبيد» نفسه لم يكن بمنجاة من سهامه؛ فذات مرة جرحه أحدها، فخر صريع الهوى الذي أقض مضجعه، ولقي فيه شتى ألوان العذاب.
الباب الثاني
الحب في الميزان
نتحدث كثيرا عن الحب في حين أننا لا نعرف عنه شيئا، ولا يشارك المحب شعوره إلا من ذاق مرارة الهوى وحلاوته، وجرب ويلاته ولذاته.
ما الحب إلا شرك تنصبه الطبيعة للبشر؛ فلذا يجب على المرء أن يراعي جانب الاعتدال في الحب، فإن العاطفة العنيفة لا تدوم، والإسراف في الحب أقرب إلى الحماقة.
ولو نظرنا إلى العالم مليا لألفينا أنه لا شيء يدير عجلة الكون غير الحب؛ لأننا في الواقع نحيا في هذا العالم عندما نحب، ولولا الحب ما عرف الخالق.
فالحب إذن كلمة جميلة مغرية، محبوبة إلى السمع؛ فهو الذي يمنحنا في الأرض ما نطمح إليه في السماء.
إنه كلمة قصيرة مسلية، وكما يحتاج العقل إلى التجربة، والقرابة إلى المودة، كذلك يحتاج الحب إلى الأدب.
وقد يكون الحب بلسما للجراح.
وقد يكون مصدرا لأعمق الجراح.
ومع ذلك فالخلاص من الحب إحدى معجزات الكون.
فالحب عظيم .. وقد لا يعظمه شيء آخر.
وهو تافه .. لا يدانيه شيء في تفاهته.
والحب حياة عند بعض الناس، وهو ممات عند معظم الناس.
والحب دواء قد يبتلى به المرء، فيئن ويتوجع.
وهو دواء قد يتجرعه الإنسان فيثمل ويترنح.
والحب إحدى صور الإيمان المقدسة.
وقد يكون أحد مظاهر الكفران المدنسة.
والحب قطرة غيث صافية، تنزل بالتربة الطيبة؛ فتثمر الرحمة والشفقة والبر والإحسان.
الحب طوفان قد يحطم كل شيء أمامه.
وهو أيضا سلام قد يرمم كل شيء في طريقه.
ففي الحب لطافة النسيم العليل، وقوة العاصفة الهوجاء.
والحب وردة جميلة، إن تعهدتها صغيرة نمت وأينعت وأنجبت السعادة والسلام.
الحب مملكة من السهل أن تسوسها لو أوتيت الحكمة والرزانة والروية.
قد يكون الحب نعمة إن راعيت فيه اللين، وقد يكون نقمة لو تعسفت فيه.
وهو كالقتال لا يخلو من الكر والفر .. للحبيب فيه أن يتدلل، وعلى المحب أن يتذلل، وفي ذلك قال عمر بن أبي ربيعة:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
بيد أن الحب ليس بمادة، بل هو شعور، فقد توجد مادة ولا يوجد حب .. ولكن لو وجد الشعور فلا بد من حب.
والحب شرارة تلمع في القلب فتضيء ظلمته. كما أنه قد يهذب كثيرا من أخلاق الشاب، وخاصة إذا كان المحبوب راقيا مهذبا.
إنه كالنور كلما زدته ضياء زادك احتراما. وقل أن يعيش فتى لم يملك الحب فؤاده وجوارحه وعواطفه يوما ما.
فالحب هو اختلاج القلب، ووجوده يبعث الأمل، وزواله يورث الألم.
بيد أن الحب المقيم بالتفكير العميق الكثير، قد يقلب نعيم دنياك جحيما لا يطاق.
ولا شك أنه من الخير أن تحب بعقل وروية، ولو أنه من الممتع أحيانا أن تحب بجنون. •••
لا ريب في أن الكلام عن الحب لذيذ كطعم الحب نفسه، بيد أن الكلام عن الحب شيء، والوقوع فيه شيء آخر. ومن ذاقوا الحب يجاهرون بأن ألذ أنواعه أكثرها ألما وتبريحا. قد يكون هذا صحيحا، وربما يكون العكس هو الصحيح؛ فالحب يبدأ باختيار الإنسان، غير أنه ليس له يد في نهايته. إنه علاقة بين سيد وعبد، فالسيد يريد أن يكون عبدا، والعبد يرغب في أن يصبح سيدا.
تتباين آراء الناس وتتعدد في الحب، فلكل فرد نظرته الخاصة، تكيفها بيئته وميوله واستعداده، وتهذبها ثقافته وتعليمه ومدى تمسكه بدينه. ومهما تعددت آراء الناس واختلفت في الحب، فكلها لا تنكر أهميته، وتعترف بالدور الهام الذي يلعبه في كل قلب، وما أكثر القلوب!
ولكن لم نعير الحب كل هذا الاهتمام البالغ؟
دعنا الآن نسأل ما هو الحب؟ هل هو قوة؟ وإن كان كذلك، فهل هو قوة أقوى من الحياة والموت، وأعلى من السماء وأعمق من البحر كما يقول البعض؟ أم هل الحب احترام؟ وعندئذ فلا سبيل إلى مزجه بالخوف. وهل لنا أن نأخذ برأي فرجيل الشاعر حين يقول:
الحب يقهر كل شيء ... إذن فلنرضخ للحب.
يبدو أننا سنضطر إلى موافقة فرجيل في رأيه، فقد أجمعت الآراء على أن الحب قوة، تتضاءل إزاءها كل قوة.
شبه «ماسفيلد» الحب بالنار فقال: «الحب كاللهيب المستعر المتقد، يحرق العزيمة .. ولا يتركها إلا رمادا لا حياة فيه.»
غير أن هناك من يرى أن الفيضانات تعجز عن إطفاء أوار الحب! «إن المياه الغزيرة لا تستطيع أن تطفئ ظمأ الحب، كما أن الفيضان لا يقدر أن يغرقه.»
أما «برتون»، فلكي يدلل على قوة الحب يقول: «لكي تستطيع فهم مدى قوة الحب ووضوح نوره، ضع شمعة تحت ضوء الشمس.»
ويحدثنا «بيكنسفيلد» عن الحب وقوته فيقول: «إن كل حياتنا، بما فيها من ضرورات وعادات، لتتلاشى أمام الحب. إن الطعام والنوم اللذين - في الظاهر - يتقاسمان كياننا كما يتقاسم الليل والنهار الزمان فيما بينهما، يفقدان تأثيرهما على العاشق الولهان. المحب كائن روحاني يصلح فقط أن يعيش على طعام الآلهة الذي يحفظ المرء شابا كل أيام حياته، وأن ينام في فردوس يصوره له الخيال. لا تمسه هموم الحياة، ولا تكون أكثر حوادثها اضطرابا وشغبا في نظره سوى حوادث الأيام المنصرمة، وتكون كل ثروة العالم من غير حبيبة بؤسا، وفي وجود المعشوقة تصبح جميع مصائب الدهر حلما زائلا. إن الثورات والزلازل وانقلاب الحكومات وسقوط الإمبراطوريات ليست في نظر العاشق غير ألعاب صبيانية تشمئز منها نفس الرجل الشهم. إن الرجال ليعشقون في زمن الطاعون وينسون الوباء وخطره، ولو أنه يفتك بالعباد حولهم؛ لأنهم يعيشون في حياة مسحورة، كلها غبطة وسرور، ولا يفكرون في الفناء حتى يمس معبودهم، وحينئذ يموتون دون أن يتجرعوا كأس المنون وغمراته، كما يموت المتعصبون من أجل دينهم المضطهد.»
ولبيكنسفيلد هذا برهان آخر على قوة الحب فيذكر: «يؤثر تهكم الناس أكثر مما يؤثر تضرع الأب، ودمعة الأم قد لا تصادف غير الاستخفاف، أما زفرة الحبيبة فقد أحدثت تغييرا عظيما حتى في أشد الناس عنادا.»
أما قوة الحب فيعبر عنها «مارتن» في قوله الموجز: «الحب .. يا له من مجلد في كلمة! وأوقيانوس في دمعة، وسماء سابعة في نظرة، وعاصفة في زفرة، وألف عام في لحظة.»
وعن الحب يقول ابن حزم الذي عرف الدنيا وخبر الناس: «لقد وطئت بساط الخلفاء، وشاهدت محاضر الملوك، فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه، ورأيت تمكن المتغلبين على الرؤساء وتحكم الوزراء وانبساط مديري الدول، فما رأيت أشد تبجحا ولا أعظم سرورا بما هو فيه من محب أيقن أن قلب محبوبه عنده، ووثق بميله إليه، وصحت مودته له. وحضرت مقام المعتذرين بين أيدي السلاطين، ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب، والمتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف محب هيمان بين يدي محبوب غضبان، قد غمره السخط، وغلب عليه الجفاء ، ولقد امتحنت الأمرين وكنت في الحال الأول أشد من الحديد، وأنفذ من السيف، لا أجيب إلى الدنية، ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذل من الرداء، وألين من القطن، أبادر إلى أقصى غايات التذلل لو نفع، وأغتنم فرصة الخضوع لو نجع، وأتحلل بلساني وأغوص على دقائق المعاني ببياني، وأفنن القول فنونا، وأتصدى لكل ما يوجب الترضي.»
لا جدال إذن في أن الحب كما يقول جبران خليل جبران: «عزم يلازم كياننا، ويصل حاضرنا بماضي الأجيال ومستقبلها، وأنه قوة تبتدع قلوبنا، وقلوبنا لا تقدر أن تبتدعها.»
ولا سبيل إلى نكران قوة الحب؛ إذ رأينا كيف أنه يشجع على إتيان الأعمال العظيمة، ويرقي قوة طبيعتنا المبدعة.
لقد نجح قليل من عظماء العالم ونبغوا، ولكنهم لم يعترفوا بالفوائد الجمة التي استفادوها في فاتحة حياتهم العملية من روح المرأة وعطفها.
فكم من منصب رسمي في الوزارة لم يكن في المقدور الوصول إليه لولا روح المرأة الواثقة، وحبها القوي.
وكم من محام كاد يقتله اليأس ويهلكه الاكتئاب، قد سبق الأمراء في المنصب محمولا إلى الأمام على نسيم حب الحبيبة المشجع، ومسترشدا بنور ابتسامتها الحلوة الدالة على النبوة.
إن صديقة محبة ذكية مخلصة، لمقتنى أكثر قيمة من أجمل الحدائق وأعظم القصور.
ومن ثم فإذا قلنا «الحب» يجب أن يتبادر إلى الذهن معنى «الحب الحقيقي» ومعناه «الحق والقوة والجمال» ذلك هو الحب.
فحبنا الحق تقديس لله، وفي غرامنا بالقوة عبادة للخالق، وفي هيامنا بالجمال تسبيح للرب.
ولعل هذا سبب قول أوسكار وايلد: «في مقدوري أن أقاوم كل شيء إلا الحب.»
قلما يتسلط الحب على الجبان؛ لأن الجبان دائما يتردد والحب جريء.
ويقول ميخائيل نعيمة في هذا الصدد قولين صريحين، آية في الروعة والجمال، وغاية في الدقة والإتقان.
أما كلمته الأولى فهي: «الحب سيد مطلق، لا يطيق فوق سيادته سيادة؛ فهو يقود ولا يقاد، ويسوق ولا يساق، ويأمر ولا يأتمر. ولأنه سيد الزمان والمكان نراه إذا احتل قلبا ولو لحظة أو لحظات قصيرات جعله أفسح من الأرض والسماء، وأعتق من الأزل، وأفتى من الأبد. هو الطريق والدليل. وهو الغاية والواسطة، والبداية والنهاية.»
وهاك كلمته الثانية: «لو جندنا كل ما في الإنسان من ذكاء وعبقرية ودهاء، لما استطعنا أن نخلق من القرد غزالا، أما الحب إذا ما تربع في القلب وبث أنفاسه في نياطه وشغافه، استطاع في أقل من طرفة عين أن يعبث بالناس وتقاليدهم، وبالطبيعة وسننها على هواه؛ فالعليل يبرأ، والقبيح يجمل، والضعيف يقوى، والقصي يدنو، والخشن ينعم، والقاسي يلين، والمحدود يغدو بغير حدود. وإذا الأبدية لمحة واللمحة أبدية، وإذا الفضاء بكل ما فيه سرير دافئ وثير. فالزمان والمكان كلاهما عبد طيع للحب ومطية ذلول.»
هذا هو الحب في نظر ميخائيل نعيمة. إنه قوة مطلقة مجردة من كل ضعف .. تسود ولا تساد .. وتفني ولا تفنى .. بل وتجعل الأسود أبيض، والأبيض أسود.
ومع هذا فإن «فاجنر» يذكر الحب مقرونا بالضعف، ولكن بضعفنا نحن، لا بضعف الحب نفسه، ولذلك يقول: «الحب ضعف فطري، ورثناه عن الإنسان الأول.»
والحب في نظر فريق من الناس نزاع لا بد فيه من غالب ومغلوب .. إنه حرب .. والحرب قوة وخدعة كما نعرف.
يرى نابليون أن «الانتصار في الحب هو الفرار منه.» ويشاركه «بترارك» في رأيه هذا إذ يقول: «في معركة الحب، الفرار انتصار!»
ولكي يدلل «قاسم أمين» على قوة الحب، نراه يشبه الحب بالنار فيقول: «أكثر الناس لا يفهمون من الحب إلا أنه تمتع يشبه أكلة لذيذة، وإذا حضرت أكلوها هنيئا، وإذا غابت استعاضوها بغيرها. والحقيقة أنه إحساس عميق يستولي على النفس كلها ويجعلها محتاجة إلى الاختلاط بنفس أخرى احتياجا ضروريا كاحتياج العليل إلى الشمس، والغريق إلى الهواء. نار تلهب القلب لا يطفيها البعد ولا يبردها القرب، بل يزيدها اشتعالا. ومرض يقاسي فيه العاشق عذابا يظهر باحتقان في مخه، وخفقان في قلبه، واضطراب في أعصابه، واختلال في نظام حياته. يظهر في الأخص في الأكل وفي النوم وفي الشغل، ويجعله غير صالح لشيء سوى أنه يقضي أوقاته شاخصا إلى صورة محبوبته مستغرقا في عبادتها، ذاكرا أوصافها وحركاتها وإشاراتها وكلماتها. نظرة في عيون محبوبته، تملأ قلبه فرحا وتجعله يتخيل أنه ماش في طريق مفروش بالورد، أو راكب سحابة وطائر في المرتفعات العالية. في هذه اللحظة يكون سعيدا أسعد من أكبر ملوك الأرض، فإذا انقضت عاد إلى ما كان فيه من العذاب والألم.»
وتجرنا كلمات قاسم أمين الأخيرة إلى الحديث عن الحب وما فيه من سعادة وألم، وما يتضمنه من حلاوة ومرارة، وما يحويه من شهد وحنظل.
قال الشاعر:
سلني عن الحب يا من ليس يعلمه
ما أطيب الحب لولا أنه نكد
طمعان حلو ومر ليس يعدله
في حلق ذائقه مر ولا شهد
وقال آخر:
سلني عن الحب يا من ليس يعلمه
عندي من الحب إن ساءلتني خبر
إني امرؤ بالهوى ما زلت مشتهرا
لاقيت فيه الذي لم يلقه بشر
الحب أوله عذب مذاقته
لكن آخره التنغيص والكدر
وقال ثالث:
يا أيها الرجل المعذب بالهوى
إني بأحوال الهوى لعليم
الحب صاحبه يبيت مسهدا
فيطير منه فؤاده ويهيم
والحب داء قد تضمنه الحشا
بين الجوانح والضلوع مقيم
والحب لا يخفى وإن أخفيته
إن البكاء على الحبيب يدوم
والحب فيه حلاوة ومرارة
والحب فيه شقاوة ونعيم
والحب أهون ما يكون مبرح
والحب أصغر ما يكون عظيم
من ذلك نفهم أن الألم دائما يرافق الحب، غير أن جبران خليل جبران يعتبر هذا الألم ألما لذيذا.
ولئن أردت الحق، فخير لك أن تحب وتتألم بل وتتعذب من ألا تحب مطلقا؛ لأنك إنما تحيا مرة واحدة في هذا العالم. فإذا لم تحب فأنت لم تحي حياتك، بل عبرتها فقط.
ولا شك أن الألم في الحب أعذب كثيرا من المرح، فتقول لطيفة جارية الفضل بن يحيى:
الحب فيه حلاوة ومرارة
فاسأل بذلك من تطعم أو ذق
ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها
في الناس من في عمره لم يعشق
لا يكون الحب حبا إلا إذا استمرأ صاحبه الألم واستهان بالشقاء والكدر. فما العذاب في الحب إلا نشيد المحبين. والحب الذي لا يروى بالدموع السخينة ولا يحن إلى العذاب لا يكون حبا، ولله در من قال:
قالت وقد سألت عن حال عاشقها
بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ
وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
ويتحدث «روشبدر» عن الحب فيقول: «الحب مرض أخشى ما يخشاه المصاب به أن يبرأ منه!» بينما تقول مدام دي لسبيناس: «الحب معاهدة مع الشقاء.»
أما «شو» فيقول: «ليس وراء الحب شيء غير الألم.» ويؤيد هؤلاء جميعا لورد ديوار إذ يقول: «إن الحب محيط عميق من الأحاسيس والعاطفة، لكنه محاط من كل نواحيه بالآلام وباهظ النفقات.»
وما أصدق الشاعر الذي يقول:
من لم يبت والحب حشو فؤاده
لم يدر كيف تفتت الأكباد
وما أروع «أوفيد» الشاعر الروماني حين يقول في هذا المعنى:
الحب والقلق والألم، تسير دائما متشابكة الأيدي.
ويقول «سونبورن» قوله المأثور: «اهربوا من الحب فخير لكم ألا تذوقوا حلاوته، حتى لا تقتلكم مرارته.» كما يقول بيرون: «الحب علة ربها في عناء، وحمى صاحبها في هذيان وهراء.»
غير أن شكسبير ينصح المحبين قائلا: «إن قسا عليك الحب فاقس عليه ... أوخز الحب كما يوخزك؛ فبذا تنتصر على الحب.»
ما أشقى المحبين وإن ظنهم الناس سعداء! انظر إلى ما كتبه هذا الرجل إلى صديقه: «نم يا صديقي ملء جفنيك واهنأ بالحلم السعيد، استرح واستكن وتمتع بالنوم العميق، واتركني وحيدا أسير الهموم والأوهام، فريسة القلق والأرق. اتركني وحيدا أعد النجوم وهي تفر أمام ناظري. اتركني وحدي أمزق قلبي على مذبح التضحية حزنا على فراقها، وأسفا على بعادها، وهي بريئة من دنسي وأنا أيضا من دنسها.»
وهكذا كلما زاد حب الرجل زاد عليه الألم مهما كان صحيح الجسم. ولا يشقى غير المحب العاشق، ولا يوجد - على حد قول جورج إليوت - أبدع وأعذب من امتزاج الألم واللذة في ذلك الذي نطلق عليه لفظة «حب».
هناك من الناس من يعتقد أنه يستطيع أن يخلق السعادة بآلام حب عنيف، فالحب جوه جو عاصف مضطرم لا يؤذن بخير، ولا يثبت أمام عوامل الزمن ، ولكنه مع ذلك يجعلنا سعداء، ولكن إلى فترة وجيزة سرعان ما تنقضي وتخلف وراءها ألف حسرة.
ومهما كان الحب سعيدا متبادلا، فهو أبدا محاط بالريب والشكوك والغيرة والأنانية، والخوف من غدر المستقبل. فيقول لاسال: «ليس الحب سوى أنانية شخصية.» ويقول بلزاك: «عندما يدخل الحب من الباب، تندفع الأنانية من الشباك.»
فالحب بلا جدال أنانية بين اثنين.
ما أسعد البشر لو أن الحب الذي يسوس السموات يسوس عقولهم!
الحب مفتاح السعادة، ولولاه لما تذوق إنسان غبطة الوجود، ولما انتشى بخمرة الحياة.
ويصف جبران خليل جبران سعادة الحب بأنها ترتعش. وهو يرى أن المال مصدر شرور الإنسان، بينما الحب هو مصدر السعادة والنور.
وعلى أية حال، فمهما بلغت الأخطار، ومهما اشتدت الرزايا، ومهما عظمت مشقات الحب، فهو كلمة لذيذة، كأن ضيقه فرج، وعبوسه طلاقة، ومشقته سهولة، ومرارته حلاوة. إنه هو وحده سعادة المرء في دنياه.
لا مراء في أن الحب هو السعادة الأرضية الزمانية، إذا صح أن في السماء سعادة أخرى يسمونها السعادة الأبدية.
وسعيد هو الفن الذي يعيش بين خلائق الفن المحيطة به، التي ترفع الإنسان إلى مستوى عال، وتكسبه شرفا صاعدا.
وسعيد من قامت قصور محبته على دعائم الفضيلة موشاة بالكمال ومسقوفة بالشرف.
وسعادة المرأة في رأي جبران خليل جبران، ليست بمجد الرجل وسؤدده، ولا بكرمه وحلمه، بل هي بالحب الذي يضم روحها إلى روحه، ويسكب عواطفها في كبده، ويجعلها معه عضوا واحدا في جسم الحياة الواحدة، وكلمة واحدة على شفتي الإله الواحد.
وما أصدق من قال: ليست سعادة المرء في جيبه، وإنما سعادته في قلبه. •••
يرى «موروا» أن الحب فن جميل، فيقول في ذلك: «مولد الحب كمولد الكائن الحي، فهو من عمل الطبيعة أولا وأخيرا، ويأتي عمل الإنسان فيه في المرحلة الثانية، وهذا ما نسميه بفن الحب.»
فهل الحب فن حقيقة؟ وهل للحياة - كما يقول البعض - نفحتان؛ حب الفن، وفن الحب؟ أم هل الحب عاطفة سامية؟
يقول جول دي كاستين: «قد يكون الحب قارورة الوضاعة والخسة واللؤم، ومع ذلك فهو لا يكون في نظر المحب إلا ملكا شريفا مقدسا. وتلك أجمل صفات هذه العاطفة السامية.»
ويحدثنا بيكنسفيلد عن الحب كعاطفة سامية فيقول: «ما هو ذلك المطمع الذي يرافقنا شبحه في دور الشباب، أو ما هي تلك الرغبة الشديدة في طلب السلطة، أو ما هي شهوة الشهرة التي ترغمنا على الخروج من النكرات إلى مصاف أعلام العالم - ما هي هذه العواطف التي تمثل السمو والقوة والشرف؟ إن كل هذه لتتلاشى في طرفة عين أمام نظرة سيدة. إن كل الأفكار والمشاعر والمطالب والرغائب والحياة تندمج في عاطفة واحدة، هي عاطفة الحب السامية.»
فيا أيها الحب! يا أيتها العاطفة السامية! عبثا يتفلسفون في معانيك، وعبثا يفحصون عاطفتك التي ترسل وحيا إلى القلوب، ويصوبون إلى مقاتل الحياة سهام البؤس المميتة من تحليلها المشين. فقد يعلن الفيلسوف أن غايتك الزهو والغرور، ولكن العاشق ينظر شزرا إلى فلسفته الباردة.
إن الطبيعة تؤكد له أنك عاطفة جميلة وسامية. •••
والحب - كعاطفة سامية - جل أن يخفى ودق عن أن يرى. له كمون ككمون النار في الحجر، إن قدحته أوراك، وإن تركته توارى.
وهو كالسعال، لا يستطيع المرء إخفاءه؛ ذلك لأن روائح نسيم المحبة تفوح من المحبين وإن كتموها، وتظهر عليهم دلائلها وإن أخفوها، وتدل عليهم وإن ستروها.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكما أن الحب لا يخفى، فهو كذلك يدوم ويخلد. ويقول في ذلك بيرنز: «يكفي أن تنظر إليها لتحبها، فإذا ما أحببتها فإن حبك لها يجب أن يدوم إلى الأبد.» ويقول طاغور: «دع للموتى خلود الشهرة، وللأحياء خلود الحب.» ويرى شكسبير: «أن الحب لا يتغير بتغير ساعاته المحدودة، ولا أسابيعه، ولكنه يبقى حتى حافة القبر.» بينما يرى أوسكار وايلد: «أن الحب الوحيد الذي يدوم إلى الأبد هو حب الذات.»
ويحدثنا جبران خليل جبران عن خلود الحب حديثا طليا إذ يقول: «إن المحبة المحدودة تطلب امتلاك المحبوب، أما المحبة غير المتناهية فلا تطلب سوى ذاتها. المحبة التي تجئ بين يقظة الشباب ، وغفلته تستكفي باللقاء وتقنع بالوصل وتنمو بالقبلات، أما المحبة التي تولد في أحضان اللانهاية وتهبط مع أسرار الليل، فلا تقنع بغير الأبدية ولا تستكفي بغير الخلود، ولا تقف متهيبة أمام شيء سوى الألوهية.»
والرأي السليم أن الحب الصحيح يدوم بدوام العمر إلى ما بعد الموت، فمن الناس من فقدوا من يحبونهم فظلوا على ولائهم ينعمون بحبهم وهم في قبورهم.
وعلى أية حال، فمهما قيل عن خلود الحب في قلوب العاشقين، فهو لا يمكن أن يدوم إلا إذا اتفق مع المصلحة. فإذا تنافر الاثنان فعاقبة ذلك انكسار القلوب.
ولكن ما هي علاقة القلب بالحب؟ وهل القلب حقا بيت الحب؟ وهل لا ينبعث الحب إلا من القلب؟ ولا يقطن إلا في شغافه؟
لقد أجمعت الآراء على أن الله قد خلق القلب وأودعه الحب، وأن الحب إذا زال ترك في القلب أثرا لا يمحى أبد الدهر.
فالحب حسب رأي «دوبسون» يتسلل إلى القلب فلا يحس به أحد، ولكننا نحس به عندما يترك قلوبنا في فراغ ووحشة.
الحب كالنحل يستميل القلوب بحلاوة عسله، وقد يقتلها بزعاف سمه، وهو حالات الروح وتطورات القلب. أوله ابتسامة، ثم تعقبه ضحكة، فإذا تمكن صار بكاء مرا.
وتنصح دوروثي باركر العذارى فتقول: «امتحني دائما قلب فتاك؛ لتعرفي إذا كان يحبك. إن دقات القلب لتكشف عن مدى الحب.»
ويعتقد «أندريه موروا» أن الحب يجب أن يصدر من القلب قبل أن يفكر العقل في شأنه.
قال رجل لعبد الله بن جعفر إن فلانا يقول إنه يحبني فبماذا أعلم صدقه؟ قال: «امتحن قلبه بقلبك، فإن كنت توده فاعلم أنه يودك.»
القلب جهاز يسير على ثلاثة؛ المنفعة والكبرياء والحب.
يقول شوبان: «اعصري قلبي يا حبيبتي الحسناء، فلن تجدي في كل قطرة منه إلا حبي.» ويقول بيرون: «حياتي وقلبي وروحي ملك للمرأة التي تحبني، ولكن أين هي؟»
ويقول الشاعر:
وقائل لست بالمحب ولو
كنت محبا لذبت من زمن
أحب قلبي وما درى بدني
ولو درى ما أقام في السمن
وقال التنوخي:
كأنك في كل القلوب محبب
فأنت إلى كل القلوب حبيب
ويعتقد جبران خليل جبران أن الحب كنز ثمين لا يودعه إلا الله القلوب الكبيرة الحساسة، وأن النفس قد تجني من الشوك وردا بحكمتها، وقد يستمد القلب من الظلمة نورا بمحبته.»
وقد سئل سقراط: «ماذا تفعل لو انكسر حبك؟» فأجاب: «إن انكسر الحب لا ينكسر مكانه.» وقال رجل لأرسطاطاليس: «عظني» فرد عليه: «لا يملأن قلبك محبة شيء، ولا يستولين عليك بغضه، واجعلهما قصدا؛ فالقلب كاسمه يتقلب.»
كما تحب القلوب تكره، وكما تميل تصد، فالرباط بين الحب والكراهية رباط وطيد، والصلة بينهما قريبة. ولقد ينقلب الحب إلى كراهية ومقت، وقد تصبح الكراهية حبا عنيفا.
قالت عائشة رضي الله عنها: «جبلت النفوس على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.»
وكما يتسع القلب للحب، فإنه يتسع أيضا للكراهية، يقول شيلون: «الحب والبغض لا يدومان، فإذا أحببت صديقا، فأبق للعداوة موضعا، وإذا كرهت امرأ فخل للمحبة مكانا.» وجاء في الحديث الشريف: «أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما.» وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: «لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا.»
ويعتقد روشفوكول أن من يتسرع في حب معشوقته لا يلبث طويلا حتى ينبذها ويتحول حبه إلى كراهية. أما «كونجريف» فيؤكد أنه ليس في السموات غضب أعتى من الحب إذا تحول إلى كراهية.
قال الوليد لرجل: «إني أبغضك.» فأجاب: «إنما تجزع الناس من فقد المحبة.»
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل هم بطلاق امرأته: «لم تطلقها؟» قال: «لا أحبها.» قال: «أوكل بيت يبنى على المحبة؟ أين الرعاية والذمم؟»
والصد في الحب أقوى صدمة تصيب القلب، غير أن الرجال في الغالب أشد مقاومة له من النساء.
قال الشاعر:
زار الحبيب فحيا
يا حسن ذاك المحيا
من صده كنت ميتا
من وصله عدت حيا
وهكذا ربط الشاعر حياته ومماته بالحب، وجعل للحب هذا الأثر العظيم في بقائه وفنائه. ويؤيده في ذلك قول جبران: «الحب يقظة تتناول الموت والحياة، وتبتدع منهما حلما أغرب من الحياة، وأعمق من الموت.» وكذلك قال الفيلسوف الروماني بوبليليوس سيروس: «لا أحد يقدر على النجاة من الموت أو الحب.»
ويرى فولتير أن الإنسان يموت مرتين؛ المرة الثانية حين يكف عن التنفس ويدفن في باطن الأرض، أما المرة الأولى فحين يكف قلبه عن الخفقان للجمال والشعور بعاطفة الحب.»
إذن فالحب في نظر فولتير هو الحياة بعينها، وما من شك أن الحياة بدون حب حياة عقيمة، بل هي أشبه شيء بصحراء جرداء قاحلة، لا زهر فيها ولا ثمر.
يقول الشاعر:
ولا خير في الدنيا بغير صبابة
ولا في نعيم ليس فيه حبيب
وعلى ذلك تكون الحياة بدون حب أشبه بشجرة لا زهر فيها ولا ثمر. والحب بغير الجمال كأزهار بلا عطر، أو ثمار بغير بذور. فالحياة والحب والجمال ثلاثة أقانيم في ذات واحدة مستقلة مطلقة، لا تقبل التغيير ولا الانفصال.
وهناك أغنية فرنسية تقول: «إنه الحب .. إنه الحب .. الذي يجعل الحياة تمضي.»
فلا تلذ الحياة لصاحبها إلا إذا تخللها الحب، والحب كماء البحر، كلما زدت منه شربا زادك عطشا، أو هو كالبحر نفسه كلما حدقت فيه ببصرك، كلما تراءى لك أنه أعمق من أن تتناوله الأبصار.
ويرى «توماس مور» أن الحب حلم الحياة الصغير، ويعتقد فريق من الناس أن الحياة زهرة رحيقها الحب. ويرى فريق آخر أنه من ضروريات الحياة أن نحب شيئا. والحب عند «شابمان» شمس الحياة الثانية، كلما أشرق أضفى على الإنسانية معاني الفضيلة. وحب الرجل عند بيرون منفصل عن حياته، ولكن حب المرأة هو حياتها ذاتها.
كتب «برديلون» في هذا المعنى يقول:
لليل ألف عين،
وللنهار عين واحدة،
بيد أن ضوء العالم الساطع يموت
بمغيب الشمس وموتها.
للعقل ألف عين،
وللقلب عين واحدة،
بيد أن ضوء الحياة كلها يموت
بمغيب الحب وموته.
ومن قصيدة لعلي الجارم رحمه الله:
والحب ملهاة الحياة وطبها
ولقد تكون به الحياة سقاما
فالحب إذن مصدر الحياة. هو الحياة عينها، بل قل هو الله نفسه لأن الله محبة؛ ولذلك نجد شكسبير يقول: «يا أيها الإنسان، اركع على قدميك واشكر السماء، فقد وهبك الله الحب.» كما نجد جبران يقول: «الحب وما يولده، والتمرد وما يوجده، والحرية وما تنميه؛ ثلاثة مظاهر من مظاهر الله سبحانه وتعالى.»
ألست معي في أن الطير يحب ولا يعيش بدون الحب؟ ألا ترى الطائر ينتقل في الصباح من غصن إلى غصن، ويغرد تارة هنا وطورا هناك. إن حبه لأنثاه يدفع به إلى ذلك السرور، وينطقه بأعذب الأنغام.
أوليست النساء كالطير؟ تتنقل على غصون الحياة، فإن أحبت سمعت حنينها وأنينها وشكواها، فعرفت كيف تكون نغمات الحب.
لا يعيش النبات بدون الحب، وكذلك لا يعيش الحيوان بغير الحب. انظر إلى الطبيعة واقرأ في معانيها آيات الحب. ألا ترى القمر في كبد السماء تحيط به تلك الهالة الجميلة؟ ثم انظر إلى تلك الكواكب ترنو بألحاظها إليه، وكيف تسطع بشعلات الحب. وها أنا ذا أقول إن الله تعالى - جلت قدرته - يحب؛ فهو يحب عباده، يحب خلقه، يحب الملائكة، يحب ما هو من صنع يديه؛ لأنه هو الحب بعينه.
يقول بايلي:
حبيبتي لا تسأليني عن الحب،
بل سلي الله عنه في السموات،
سلي الشمس العظيمة عن الضوء،
أما الليل فسليه عن الظلام
سليني عن عذوبة قبلتك،
ثم سلي نفسك عن جمالها.
ومحبة الله لا نهاية لها في نظر شكسبير إذ يقول: «لا نهاية لمحبة الله.»
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ما تحاب اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حبا لصاحبه.» وقال عليه السلام أيضا: «إن رجلا زار أخا في الله، فأرسل الله له ملكا فقال: أين تريد؟ قال: أريد أن أزور أخي فلانا، فقال ألحاجة لك عنده؟ قال: لا، قال: فيم؟ قال: أحبه في الله. قال: فإن الله أرسلني إليك يخبرك بأنه يحبك لحبك إياه، وقد أوجب لك الجنة.»
ولقد ورد في الأخبار: «إن الله إذا أحب عبدا ألقى محبته في الملأ، فلا يمر به أحد إلا أحبه.»
والمحبة على حد قول جبران خليل جبران، تهبط على أرواحنا بإيعاز من الله ، لا بطلب من البشر.
ومن ثم فالحب الطاهر في رأي تيمور أجسام متباعدة على الأرض وأرواح متعانقة في السماء. وهكذا يصعد تيمور إلى السماء ليضع الحب بين يدي الخلاق الأعظم. •••
حقا إن أمر الحب لعجيب، لا تتنافس فيه العبودية والحرية. هما لا يتعارضان عند بابه، بل يلتقيان فيه ويتآلفان.
ويلعن «بوب» القيود التي تحد من سلطان الحب فيقول: «لقد خلق حرا يرفرف بجناحيه في الهواء، ويغمر الحياة بنور مشرق رقيق، فلماذا نحاول إطفاء النور وتحطيم الأجنحة الطليقة؟»
ومن رأي جبران أيضا «أن المحبة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم؛ لأنها تسمو بالنفس إلى مقام سام لا تبلغ إليه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسود عليه نواميس الطبيعة وأحكامها.» •••
وكما يميل الحب إلى الحرية، فإنه كذلك يميل إلى الظلم والجور، وفي ذلك يقول أوسكار وايلد: «من الصعب ألا تظلم من تحب.» بيد أن الإنسان كلما زاد خلوا من عاطفتي الحب والرحمة، كلما زاد توغلا في الظلم. •••
ونحن إذا كنا قد تعرضنا لعلاقة الحب بالقلب والحياة، فلا أقل من أن نورد كلمة بسيطة عن علاقته بالروح؛ ذلك لأن الحب الصافي الذي لا يهتم بشيء ما، يضيء الروح برغبته في كل غاية جميلة، على أمل أن يجد له صدى.
ويتساءل رود: «ما هو الحب؟» ثم يجيب بنفسه عن سؤاله فيقول: «الحب روحان في جسد، أو روح في جسدين.» ويرى أرسطو رأي رود تماما.
أما ميخائيل نعيمة فيرى أن الحب ليس إلا ذوبان المحب في محبوبه، ثم ذوبان الاثنين في الكائنات. إنه الشعور بأن محبوبك هو الكون، والكون هو محبوبك، والاثنان وحدة شاملة كاملة، وأنك من ذلك الكون بمثابة الروح من الجسد، وأنه جسد كامل وروح كامل.
وبهذا المعنى يقول جبران:
والحب في الروح لا في الجسم نعرفه
كالخمر للوحي لا للسكر تنعصر
وكذلك صدق من قال: «لو بحثوا عن روحي لوجدوها تعانق روحك، ولو كان للناس أن يروا قلبي لوجوده يقبل قلبك.»
والذي كتب يقول: «إن روحي تطير حيث أنت فرحة جذلة، تقبل وجنتيك تارة، وشفتيك تارة أخرى، وتضحك إليها في حنان وعطف دونه كل حنان وكل عطف.» •••
وللحب علاقة وطيدة بالنظر. هكذا يقولون، وهكذا نؤمن أجمعين بصحة هذا القول؛ إذ للعين دخل كبير في كثير من قصص الغرام، إن لم تكن هي الرسول الأول بين القلوب.
ولئن كان للعقل آلاف العيون، فإن للقلب عين واحدة حتى إذا ما خبت أضواء الحياة، ظلت عين الحب وحدها ساهرة.
يقول شكسبير: «لا يتعمق حب الشبان في قلوبهم، بل في عيونهم.»
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول: «رؤية الحبيب جلاء للعين.»
ويرى موروا أنه لا سبيل إلى تلافي الحب الخاطف، أو ما يسمى بالحب من أول نظرة.
ولا أدل على ذلك من الأسطورة اليونانية القديمة التي تقول إن الإله قد شطر الرجل والمرأة في بدء الخليقة شطرين وإن كليهما يبحث بصفة لازبة عن شطره الآخر. فإذا حدث والتقى الشطران فجأة، سرى بينهما ذلك التيار القوي الذي نطلق عليه اسم الحب الصاعق، فيحب كل واحد منهما الآخر حبا جارفا بلا تحفظ ولا روية.
ويعتقد أبو محمد علي بن حزم أنه إذا اجتمع قلبان في مكان واحد، وتعطلت لغة الكلام، ولم يكن هناك مجال لحديث الهوى، فإن العين تتكلم، وتفرح وتحزن، وتنادي وتطرد. فإذا كانت الإشارة بمؤخر العين فالمحبوبة تقول لا، وإذا أغمضت عينها في راحة واطمئنان فالقلب يقول نعم.
بيد أن ابن حزم الأندلسي هذا قد وضع قاموسا خاصا عن إشارات الحب بالعين جاء فيه:
الإشارة بمؤخر العين معناها «لا».
النظرة الدائمة المستقيمة معناها «إني آسفة.»
النظرة المنكسرة مع إرخاء الجفون معناها «إني سعيدة.»
النظرة السريعة بجانب العين معناها «احذر هناك خطر!»
الإشارة الخفيفة بمؤخر العين معناها «هل أنتظرك غدا؟»
النظرة السريعة إلى أعلى معناها «ليس مناسبا.»
النظرة المهتزة السريعة معناها «لا تقترب مني.»
غير أن ابن حزم لا يؤمن بمسألة الحب من أول نظرة، وإن كان يعتقد أن المحبة لا تصح إلا بعد كثرة المشاهدة، ويقول في ذلك: «إني لا أطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حبه إلا ضربا من الشهوة، وأما أن يكون في ظني متمكنا من صميم الفؤاد، نافذا في حجاب القلب، فما أقدر ذلك، وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهرا، وأخذي معه في كل جد وهزل، وكذلك أنا في السلو والتوق، فما نسيت ودا لي قط، وإن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصبني بالطعام، ويشرقني بالماء، وقد استراح من لم تكن هذه صفته، وما مللت شيئا قط بعد معرفتي به، ولا أسرعت إلى الأنس بشيء قط أول لقائي له، وما رغبت الاستبدال إلى سبب من أسبابي مذ كنت، لا أقول في الألاف والإخوان وحدهم، لكن في كل ما يستعمل الإنسان من ملبوس ومركوب ومطعوم وغير ذلك، وما انتفعت بعيش ولا فارقني الإطراق والانغلاق مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وإنه لشجى يعتادني وولوع هم ما ينفك يطرقني، ولقد نغص تذكري ما مضى كل عيش أستأنفه، وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا، والله المحمود على كل حال لا إلا هو.»
ويؤمن «بارنابي جوجي» بأن الحب قد يولد من النظر:
هناك فتاة جميلة طيبة،
لم يفتني شيء فيها غير وجهها،
ومع أن عيني لم ترها إلا مارة بها
إلا أنني سأموت غارقا في حبها.
كما يؤمن معه في ذلك «بيرنز» إذ يقول:
إن ترها تحببها،
وحبك لها إلى الأبد،
قد خلقتها الطبيعة كما هي
وما خلقت الطبيعة شبيها لها.
ومع ذلك فالقول السائد يعتبر الحب أعمى، وفي ذلك يقول النبي
صلى الله عليه وسلم : «حبك الشيء يعمي ويصم.»
ويعتقد «كاو فمان» أن الزواج هو الإخصائي الوحيد الذي في استطاعته أن يعيد البصر إلى الحب.
إذن والحالة هذه فما علاقة الحب بالزواج؟ يقول شوشر: «من كان عبدا في الحب يصبح سيدا في الزواج.» أما أوسكار وايلد فيقول: «يجب أن تحب دائما، ولذلك ينبغي ألا تتزوج.»
غير أن هناك من يعتقد أن الزواج يطفئ نار الحب، وهناك من يرى أنه لا سبيل إلى الهروب من الحب إلا بكلمة واحدة، هي الزواج. ولعل روسو قد صدق حين قال: «إذا أردت أن تحطم الحب، ففكر في الزواج.» وتؤيده في ذلك ماري كورلي: «إن الحب مجرد وهم يبدده الزواج.»
وهناك فريق آخر يرى أن الحب ليس شرطا في بقاء الزواج أو انفصام عراه، فقد ينقلب زواج الحب إلى مقت، كما قد ينقلب زواج الكراهية إلى حب.
ويرى فريق ثالث أن لا علاقة بين الحب والزواج، فهذا شيء وذاك شيء آخر، وأن الحب من وحي السماء وأما الزواج فمن صنع الأرض.
ومن الناس من يعتقد أن الزواج قسمة ونصيب، وأن الحب شيء لا وجود له إلا في الكتب. ومنهم من يرى الحب مرضا يشبه الزكام، أما الزواج فهو شيء صحيح سليم لا يقبل أن يعيش مع آخر مريض.
غير أنه يوجد من يرى أن زواج الحب هو الزواج القوي الباقي؛ لأنه يحصن الزوجين ضد الفراق ولوعته، فكلما حاولا أن يفترقا حال الحب دون أن يبتعدا عن بعضهما.
وهناك من يقولون إن الحب لا يعرف عمقه إلا ساعة الفراق؛ فالبعد للحب كالهواء للنار يلاشيها إذا كانت قليلة، ويثيرها إذا كانت شديدة.
والفراق في نظر «كوتون» يطفئ نيران الحب المستعرة، ويلطف العاطفة المشتعلة، ويهدئ خلجات القلب.
ومن ثم لزم لنا أن نصدق إذن «ألفونس كار» حين يقول: «الحب يولد من لا شيء، ويموت بأي شيء.»
أما «بروك» فيعتقد أن الحب قد يموت، فيقول: «سأعيش لك دائما، فإذا ذبل الحب في قلبك وجب أن تذبل زهرة حياتي. ولكن أليس من العجيب أن أظل حيا بينما يموت حبي!»
والحب عند موروا قد يذبل ويذوي، ولكن لا يحدث له ذلك إلا في جو الكآبة والأسى.
ولكن هل تبقى للحب ذكرى إذا مات؟ وهل تظل ذكراه إذا ذبل؟ .. يؤيد هذا الرأي قول الشاعر:
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا
ولولا حسن ظني ما حييت
شربت الحب كأسا بعد كأس
فما نفد الشراب وما رويت
وقول القائل:
أتذكرينني يا مهجة القلب، أتذكرين وحي محب؟
أتذكرين من بثك هواه، فكنت له خير ملب؟
أتذكرين يوم لقياك، ما أسعده! أتذكرينه؟
أتبغضين يوم الفراق، ما أبشعه! أتبغضينه؟
أتذكرينني يا لوعتي، أتذكرين من بجلك؟
أتذكرين من حباك، ومن بحبه جلك؟
ولكن هل الحب الصادق هو الحب الوحيد الذي قد تبقى له في نفس المحب ذكرى؟
فالحياة الحقة لا تكون إلا حيث يكون الحب الصادق الذي يملأ النفوس قوة وأملا، ويجعلها تشعر بلذة الحياة بالرغم مما يكتنفها من متاعب وآلام.
فالحب الصادق هو الذي يسمو بصاحبه ويرتفع به إلى حيث الطهر والشرف والعفاف، إلى المجد وإلى العظمة وإلى الزعامة، أما الحب الكاذب فهو الذي يكون لابتغاء لذة طارئة والتماس منفعة زائلة، وإرضاء نزعة مادية جامحة.
ولعل أبدع ما قيل في هذا الصدد قول بوسايد: «دام الحب زمنا طويلا في العصور الخالية؛ لأن وجوه النساء كانت تبدو بعد غسلها كما كانت قبل الغسل!»
وعلى أية حال فإذا اجتمع الحب والصدق، كان الحب هو المتقدم؛ لأنه تاج يضيء ببهاء على جبين الصدق والإخلاص، وقد تناول الشعراء والفلاسفة الصدق في الحب وكتبوا عنه كثيرا من الأقوال:
فقال «توماس مدلتون»:
الحب كله نار، ومع ذلك فهو بارد دائما،
الحب عليل دائما، ومع ذلك فهو لا يموت أبدا،
الحب صادق أبدا، ومع ذلك فهو كاذب على الدوام
الحب في الحق شيء، وهو في الحق ليس شيئا.
وقالت «إدنا»:
لو أحببتك يوم الأربعاء
فماذا يعنيك من هذا؟
إنني لا أحبك يوم الخميس،
وهذا عين الصدق.
أما شكسبير فيقول: «عندما تقسم حبيبتي أنها مصنوعة من الصدق، أصدقها وإن كنت أعلم أنها كاذبة.»
فالحب الصادق مثل الأشباح، يتحدث عنها كل إنسان، ولا يراها إلا القليلون.
ومع كل، فالرجل العفيف الشجاع هو الذي يحب حبا صادقا، وإنه العفيف الشجاع، هو الذي يعرف الإخلاص في حبه. فما الإخلاص إلا لون من ألوان الحب العنيف، وهو يبدو لنا في حلة من الطموح وحب الرفعة.
ويحدثنا نابليون عن الإخلاص في الحب فيقول: «إني واثق تمام الثقة من أنه لا يوجد في العالم من يحبني أو يخلص لي. فطالما لي القوة والسلطان والملك، يكثر من يدعون مودتي تزلفا وتملقا، فإذا خمدت ريحي انفضوا من حولي.»
ويعارض «جوستاف لوبون» فكرة الإخلاص في الحب إذ يقول: «لو صح للنساء الإخلاص في الحب، لفقدن سلطانهن على الرجال.»
وهكذا يرى جوستاف أن الحب لا يعيش إلا على الكذب والنفاق. •••
وهناك من يربط بين الحب والصداقة، ويعتقد أن الصداقة بين الرجل والمرأة ضرب من الحب العاجز.
ويفرق الفيلسوف ديكارت بين الحب والصداقة بقوله: «الحب أعمق، ولكن الصداقة أوسع.»
بل إننا نراه يزيد على ذلك أن الصداقة برغم كونها لونا من ألوان الحب، فإنه يغلب عليها طابع التضحية، بينما يغلب على الحب طابع الغيرة والأنانية؛ إذ «قد تسعى الصداقة إلى أن تكون حبا، أما الحب فلا يرضى أبدا أن يتطور إلى صداقة.»
ومن هنا يتضح السبب في كون المرأة أبرع من الرجل في الحب، ولكنه أبرع منها في الصداقة.
وتختلف الآراء في تفسير نظرة الرجل إلى الحب، ونظرة المرأة إليه.
فهناك من يرى أن الحب من قلب المرأة العاقلة كاللؤلؤ في المحيط، لا يناله إلا الغواص الماهر.
وهناك من يظن أن المرأة لا تفكر في حب الله إلا بعد أن تيئس من حب الرجال.
ويعتقد «كونراد» أنه لا توجد امرأة واحدة يستطيع الرجل أن يخدعها في ميدان الحب.
أما «أثيروتون» فيقول: «إن المرأة تلتهم الكذبة الفاضحة التي تحفظ كبرياءها في الحب، ولكنها لن تغفر الحقيقة المرة إذا قيلت لها!»
ويرى بيرون أن الحب بالنسبة للرجل شيء يختلف تمام الاختلاف عن وجوده «أما بالنسبة للمرأة، فهو وجودها، وهو كيانها.»
وتتباين النساء أمام الحب ويختلفن، فمنهن من ترتعش قلوبهن وتهتز كأوراق الأشجار إذا مرت بها ريح الحب، ثم تعود فتسكن، بينما لا تهتز قلوب غيرهن إلا إذا هبت صواعق الحب وبرق وميضه في قلوبهن، فتضطرب وتهيج ويعز عليها الرجوع إلى السكينة.
غير أن ماري كورلي تعتقد أنه لا توجد امرأة يدوم حبها أكثر من ساعة.
ولعل قولي كورلي يناقض قول القائل: «هم المرأة أن تحب، وهم الرجل أن يعيش. ومن هنا نشأ سوء التفاهم بين الجنسين.»
ومن رأي جبران خليل جبران أن الحب الذي يضم قلب الرجل بقلب المرأة، هو أمر فوق إرادتهما.
إلا أن هناك من يرى أنه يجب علينا أن نحذر حب امرأة أكثر مما نحذر عداوة رجل.
قال رجل ليوسف الصديق: «إني أحبك.» فقال: «لا حاجة لي بمن يحبني، فقد أحبني أبي فطرحت لأجله في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست لأجلها في السجن بضع سنين.»
وهكذا انطبق على سيدنا يوسف قول الشاعر:
إذا لعب الرجال بكل شيء
رأيت الحب يلعب بالرجال
والحب في نظر شوقي الشاعر ضروري في سن الشباب، فقد أورد على لسان زينون في مسرحية كليوباترة قوله:
بني ليس بالفتى
إذا أحب من عجب
من لم يحب لم يؤد
للشباب ما وجب
ويرى أندريه موروا أننا في فترة المراهقة نكون مهيئين للحب؛ أي أن الشباب في هذه الفترة هو الباعث على الحب.
وعلى أية حال، فإذا أحب الرجل امرأة سقاها من كأس حنانه، وإذا أحبت امرأة رجلا أظمأته دائما إلى شفتيها، وأشقى امرأة في الوجود هي تلك التي تمنح جسدها لزوجها، وتمنح قلبها لحبيبها!
والرجل الجدير بالتقدير هو الذي يعرف كيف يقدر الحب دون أن ينسى أن الحب مجرد حادث في الحياة، ولما يصير تحت رقية سحره، يتمتع به ويستثمره من غير أن ينسى أن الحقائق المؤلمة لا تزال أسمى وأعظم من أعذب الأوهام وأحلاها.
فإن رجلا كهذا يعرف كيف يختار أو يصبر بحكمة، أو يحب بثبات، أو يبذل نفسه دون أن يظهر ضعفا. •••
ويدفعنا الكلام عن الحب إلى الحديث عن مراحله ووسائله.
يرى أندريه موروا أن الحب يبدأ عادة بتصادم نفسي يوجده الإعجاب أو العطف أو الرغبة.
يتبع الصدمة وتأثيرها عنصر «الغياب» فهو من أهم العوامل في تنمية الحب؛ لأنه لا يكشف لنا عن مواطن الضعف في شخص المحبوب.
بعد هذه المرحلة يعدو المحبوب في نظرنا شخصا آخر ممتازا، وهذا ما يعبر عنه «بروست» بقوله: «نحن لا نحب أشخاصا حقيقيين بقدر ما نحب في الواقع الأشخاص الذين ابتكرناهم في خيالنا؛ لأن الجمال يكمن حقيقة في عيوننا نحن.»
والحب في هذه المرحلة عبارة عن سعادة مطلقة، لا تبقى نيرانه متقدة إلا بالأمل وبعض التشجيع، بنظرة مثلا، أو كلمة ثناء ومديح.
ويحدثنا أندريه موروا عن وسائل الحب فيقول: «إن التزين والتبرج وسيلة شائعة للفت النظر، فكما تجذب الأزهار بألوانها الحشرات كي تلقحها في الوقت المناسب، كذلك المرأة تتحلى بأفخر الثياب وأنفس الجواهر كي يعجب بها الرجل ويقع عليها اختياره.»
ومن وسائل جذب نظر الجنس الآخر محاولة القيام بما يعجز عنه الآخرون، فكل عاشق يحاول جهده كي يثبت براعته الخارقة في فنه.
وتنشد المرأة أيضا الأمان والحماية، وهي لذلك تختار كل من تتوسم فيه أنه أكفأ من غيره لتحقيق بغيتها هذه.
وللهدايا والإطراء قيمتها الكبرى في استمالة المحبوب، وهو سلاح تعرفه جميع المخلوقات، كما تستخدمه كذلك الطيور والحيوانات.
وقد تخلب البطولة لب المرأة فترمي بها في أحضان الرجل. ولهذه البطولة صور مختلفة؛ منها الشهرة ونباهة الذكر والثراء والنفوذ.
أما الحب عند قاسم أمين، فأوله هزل في الغالب وآخره جد.
فإذا كانت علاقة الحبيبين ترمي إلى اختلاط الأرواح وتعانق النفوس واختبار الرفيق الوحيد، كانت هذه الغاية الشريفة دليلا على رقي الأخلاق وعلو الشعور، ومنبعا مستمرا يتفجر منه الخير لهما ويفيض على الناس.
ويرى بيرون أن المرأة في عاطفتها الأولى تحب حبيبها، وفيما عدا ذلك تحب حبها.
أما هذا الشاعر فله رأيه في الحب الجديد إذ يقول:
جميل أن تكون مرحا وحكيما،
وجميل أن تكون صادقا وأمينا،
ولكن من الخير أن تتخلص من الحب القديم
قبل إقدامك على حب جديد.
هذا هو الحب، وهذه هي مذاهب الناس فيه، فهو باختصار كما يقول جبران خليل جبران: «الحب شعاع سحري ينبثق من أعماق الذات الحساسة، وينير جنباتها، فترى العالم موكبا سائرا في مروج خضراء، والحياة حلما جميلا منتصبا بين اليقظة والنوم .»
وكما أبدع حين قال: «الحب أبي، والحب أمي، ولا يعرف الحب سوى أبي وأمي.»
أو كما يقول بيرنز:
آه يا حبي، إنك لتشبه وردة حمراء
قد نمت حديثا في شهر يونيو،
آه يا حبي، إنك لتشبه أنشودة بديعة
قد عزفت حديثا ألحانها العذبة.
لئن كان بيرنز قد اكتفى بتشبيه الحب بالوردة الحمراء التي أينعت في شهر يونيو، فإن تنيسون يقول إن الذي لا يحب في الصيف، وخاصة في شهر مايو، فقد انطوى على قلب قد من صوان. ويؤيده في ذلك شكسبير، فهو يرى أن الصيف أفضل الفصول للحب.
الباب الثالث
العواطف
في خضم الشهوة والهوى والغيرة
العاطفة تلعب دورها في حياة البشر، إن لم تكن هي عناصر الحياة نفسها. هي كل شيء في حياة الكون كله، فالعاطفة والهوى يحكمان العالم بيد من حديد.
ما أصدق أوسكار وايلد حين يقول: «إن عواطفنا كالنار، يمكننا أن نجعلها تسمو بنا وتنقي نفوسنا، أو أن ندعها تستعر فتحرقنا ونكتوي بها.»
ويتفق مع أوسكار وايلد في رأيه روجيه ليسترانج إذ يقول: «العواطف كالنار والماء، إنها تخدمك إذا كنت المتحكم فيها، ولكن الويل لك إذا خرجت عن سيطرتك.»
ويحدثنا شيلي عن العواطف فيربط بينها وبين الأهواء والمصالح جاعلا من ثالوثهما أداة قوية تسعى نحو تحريك أحط ألوان البشر، وتوليد أضعف الأفكار في أذهانهم.
العاطفة قوة، إنها شباب للقلب، وكل ما يفعل بدون عاطفة يفعل عادة ببرود. ولكن ما من شك في أن ما يعمل بدافع العاطفة وحدها لا بد أن يؤدي إلى الندم. فما أقسى العاطفة التي تستنبت زهرة وتقتلع غابا، أو التي تحيينا يوما وتميتنا دهرا! وليس معنى التحكم في العواطف أن العاطفة ضعيفة ونحن الأقوياء، فالمعروف طبعا أن العواطف حامية، وأن العقل بارد، وأنه من الصعب التوفيق بينهما. والمثل الغربي يقول: «لا يطفئ جذوة العواطف سوى العواطف.»
وعلى أية حال، فلو كان الذوق سمة الرجل المهذب، ولو كان الخيال سمة الرجل المنتج، فإن اتزان العاطفة سمة الرجل الناضج.
ويعجبني قول جبران خليل جبران حين يقول: «قد حررت عواطفي من عبودية الشرائع الفاسدة لأحيا بناموس المحبة الشريفة، وحولت وجهي نحو الشمس لئلا أرى ظل جسدي بين الجماجم والأشواك.»
وهو القائل: «ما أقبح العاطفة التي تبني حجرا من جهة وتهدم جدارا من الجهة الأخرى!»
والهوى شديد الارتباط بالعاطفة، إن لم يكن أقوى دعاماتها، وهو عنيف عنف القوة نفسها. ولقد أجمع الكتاب والمفكرون على ذمه وتحذير الناس منه.
يقول أفلاطون: «لولا أربع لصلح أمر الناس: جهل غالب، وأمل كاذب، وحرص دائب، وهوى جاذب.»
وقال يعقوب بن إسحاق الكندي: «اعص الهوى وأطع من شئت.»
وقال بعض الحكماء: «ارفض الهوى فإنه إذا غلب العقل جعل محاسن المرء مساوئ، فيصير الحلم حقدا، والعبادة رياء والجود تبذيرا، والاقتصاد بخلا.»
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أخاف عليكم اثنين: اتباع الهوى، وطول الأمل؛ فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة.»
والهوى عند البعض آفة قد يصاب بها المرء، ولا شفاء له منه إلا بالعزوف عنه.
قال الشاعر:
وآفة العقل الهوى فمن علا
على هواه عقله فقد نجا
وقال إخوان الصفا: «الهوى آفة العفاف، واللجاج آفة الرأي.»
وتجمع الأمثال العربية على تقبيح الهوى: «الهوى أغشم وال، وأغشى موال، ويجلب الهوان.» «أول الهوى هون وآخره هوان.» «الهوى طاغية من ملكه أهلكه.» «الهوى كالنار، إذا استحكم إيقادها عسر إخمادها.» «الهوى كالسيل إذا اتصل مده تعذر صده.» «من اتبع لحظة هواه أدحضه وأهواه.» «برد الهوى حر، ويوم الهوى دهر.» «المجاهد من جاهد هواه.» «الهوى شريك العمى.»
وعلى كل فقد صدق الحكيم الذي قال: «من أطال النظر أكثر الفكر. من أطاع الهوى ندم، ومن عصاه عصم.»
وكما أن الحب لا يخفى، كذلك الهوى. قال أبو سهل النيسابوري:
يا من تكلف إخفاء الهوى جلدا
إن التكلف يأتي دونه الكلف
وللمحب لسان من ضمائره
بما يجن من الأهواء يعترف
وعز من قال:
ما فائدة الهوى
وفائدته الضرر
وكل ضره أنه
يلدغ كالشرر
وللسيد بشارة الخوري أشعار تتناول ذكر الهوى في معان غاية في الروعة والجمال، وكلها تدور حول العذاب الأليم الذي يعانيه المحب من تباريح الهوى.
فهو في هذه القصيدة مثلا يبكي على هواه وشبابه الذي تحطم:
الهوى والشباب والأمل المن
شود توحي فتبعث الشعر حيا
الهوى والشباب والأمل المن
شود ضاعت جميعها من يديا
يشرب الكأس ذو الحجى ويبقي
لغد في قرارة الكأس شيا
لم يكن لي غد فأفرغت كأسي
ثم حطمتها على شفتيا
أيها الخافق المعذب يا قل
بي نزحت الدموع من مقلتيا
أفحتم علي إرسال دمعي
كلما لاح بارق في محيا
يا حبيبي لأجل عينيك ما أل
قى وما أول الوشاة عليا
أأنا العاشق الوحيد لتلقى
تبعات الهوى على كتفيا
اسقني من لماك أشهى من الخم
ر ونم ساعة على راحتيا
أنا ماض غدا مع الفجر فاسكب
نغمات الحنان في أذنيا
وهو في هذه الأبيات يشكو كثرة الهوى:
كفاني يا قلب ما أحمل
أفي كل يوم هوى أول
أفي كل وجه لنا مرتع
وفي كل ثغر لنا منهل
كفى نهما لن يفر الجمال
وترحل أنت ولا يرحل
عذرتك يا قلب، من للهوى؟
أنتركه بعدنا يذبل
سكتنا فما غرد العندليب
وتبنا فما صفق الجدول
وهو هنا يعتبر الهوى كل شيء في الحياة فيقول:
يا حبيبي قم نرصع
بالهوى ثغر الحياة
نح هذي الكأس عني
واسقني هذي الشفاه
وكما يقول شكسبير: «أرني رجلا لا يكون عبدا للهوى فأضعه في صميم قلبي.» فإن سنيكا يقول أيضا: «أرني رجلا ليس عبدا لشهوته. لا شك أنه أقوى الناس طرا.»
وعلى أية حال فإن تنزيه الحواس والعواطف بالشهوات لا يعد من الخير في شيء، لأنها مدنسة للمرء ولا خير في المدنس، كما أن الرضوخ للشهوة جنون محض، ومقاومتها جنون ميئوس.
ومما لا جدال فيه أن الإنسان أسير الشهوات ما دام حيا، بيد أن شهواته تختلف باختلاف سنه، فشهوة اللعب عند الطفل، وشهوة الحب عند الشاب، وشهوة الطمع عند رجل الأربعين، وشهوة السلطة عند شيخ الستين، جميعها شهوات تعرض صاحبها للهفوات واقتراف الخطايا. ومتى وقع فيها أحدنا يجب عليه ألا يترك نفسه إلى تصرفها ولا يستصعب الخلاص منها ولا ييئس من نفسه، بل عليه أن يقاومها كما يقاوم المريض علته، عليه أن يوجه إرادته إلى مصارعتها والتغلب عليها. عليه أن يحول فكره عن الأمس الذي كان فيه قبيحا وينظر إلى غده الذي يكون فيه جميلا.
والشهوة في نظر شكسبير تموت كما يموت البطين. وهي عند «بولو يرليتون» انهيار يتعرض له القلب. أي نسمة بسيطة منها تستطيع أن تجرده من راحته.
ويفسر «براوننج» الحب بأنه الشهوة الجامحة فيقول: «أيها الحب! أنت نصف ملاك، أنت نصف طائر، أنت العجب كله، أنت الشهوة الجامحة.»
ويشبه بلزاك الشهوة بالربيع والشباب؛ اعتقادا منه بأهميتها وقوتها فيقول: «لو كان أمر الكون بيد من يعترضون على التمتع بملذات الحياة، لألفوا الربيع من السنة والشباب من العمر.»
ويفرق شكسبير بين الشهوة والحب. فالحب في نظره شمس من بعد أمطار، أما الشهوة فعاصفة من بعد شمس. الحب يظل ربيعه يافعا على الدوام، أما شتاء الشهوة فتأتي قبل انتهاء نصف الصيف.
ويحدثنا أفلاطون عن الشهوة، وله فيها آراء جديرة بالذكر. فالنفس عنده مكونة من ثلاثة أجزاء؛ الشهوة وتشمل سائر الرغبات، وجميع الانفعالات الدنيئة ثم شهوة الغضب التي تؤدي إلى الشجاعة، وتستقر بين الحس والفكر، ثم العقل. ولكل جزء من النفس جزء في الجسم يقابله؛ فالشهوة مكانها في أسفل البطن، والشجاعة في الصدر، والعقل في الرأس.
بيد أن أفلاطون لا ينفك يشبه لنا النفس بعجلة يجرها جوادان، أحدهما أسود جموح، دائما على استعداد للثورة، والآخر أبيض كريم يهدي رفيقه إذا حسنت قيادته، ولكنه يجمح معه إن لم تحسن قيادته يد قوية يقظة. فالجواد الأسود العاصي هو الشهوة، والأبيض الكريم هو الشجاعة، والقائد هو العقل. فينبغي للعقل أن ينتفع بالشجاعة، ويستعين بها على الشهوة.
ويعتقد أفلاطون أن الفضيلة المقابلة للشهوة هي الاعتدال، وأن الذي يخدم في حداثته الشهوة يشق عليه في زمن الشيخوخة ما يلحقه من ضعف بدنه عن خدمة اللذة، وأن الذي يخدم في حداثته النفس الفكرية، وما دلت عليه من المعارف، يشق عليه زمان الشبيبة، ويجاهد القوى الباعثة له على اللذات، فيستريح في وقت الشيخوخة.
فالشهوة هي التي تحرك الإنسان في كل سبيل. إنها أقرب إلينا من الرأي؛ لأننا مع الشهوة منذ ولادتنا. وطاعة النفس للشهوة الجسدية مثل تخلية الفارس لفرسه إذا عجز عن ضبطه، فالشهوة في هذا العالم أجرة للخدمة، ولولاها ما أكل الناس ولا نكحوا؛ لأنه لو كان لا ينكح إلا من طلب الولد، ولا يأكل إلا المشتاق إلى البقاء بغير لذة، لما فعل هذا أكثر الناس. فالغضب والشهوة وكل خلق من أخلاق النفس له مقدار يصلح فيه حال الشخص الذي يكون فيه، فإذا زاد على ذلك أخرجه إلى الشر؛ لأن الشهوة تشبه الملح الذي يوضع في الأطعمة، فإن كان بقدر مناسب أصلح الطعام وإن زاد أفسده وكذلك سائر القوى، وفي ذلك يقول الماوردي: «كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.»
ولقد استوطن أفلاطون بلدا موبوءا، فسئل عن ذلك فقال: «حتى إذا لم أمتنع عن الشهوات لمضرة النفس، امتنعت عنها بالضرورة تجنبا لمضرة البدن.»
والامتناع عن الشهوة أمر لا يختلف فيه اثنان، فقد قيل لبعض حكماء الروم: «من هو الملك الأعظم؟» فأجاب: «أن يقهر الإنسان شهوته.» كما سئل فيليمون: «أي الملوك أفضل؟» فأجاب: «من ملك شهواته ولم يستعبده هواه.»
قال المتوكل: «اعلم أيها الإنسان لو خلق فيك شوق إلى لقاء الله، وشهوة إلى معرفة جلاله أقوى من شهوتك للطعام والنكاح، لكنت تؤثر جنة المعارف ورياضها وبساتينها على الجنة التي فيها قضاء الشهوات المحسوسة.»
وتجمع الحكم والأمثال العربية على نبذ الشهوة، والحث على كبح جماحها، كما يتضح من الأمثال الآتية: «عبد الشهوة أذل من عبد الرق.» «من أمات شهوته أحيا مروءته.» «شهوة العاقل من وراء فكرته، وفكرة الأحمق من وراء شهوته.» «من صبا إلى الشهوات أورثته النكبات.» «من أحب الشهوات أبغض نفسه.» «كن للشهوات عزوفا تنفك من أسرها، فمن قهرته الشهوة كان عبدا لها، ومن استعبدته الشهوة ذل بها.» «علاج الشهوات مخالفتها.» «من غلب الشهوات غلب العالم.» «صفت النار بالشهوات والجنة بالمكاره.»
والشهوة عند أبي حاتم المظفر شهوتان؛ شهوة أو لذة جسمية، وشهوة أو لذة عقلية، ويرى أن نسبتهما إلى بعض كنسبة المتنسم إلى المتطعم. ويحدثنا أبو الفتح بن أبي سعيد عن هاتين الشهوتين فيقول: «من طلب شهوة عقلية فليس له أن يطلب لذة حسية تمنعه عنها؛ كي لا يكون كمن باع الذهب بالخزف.»
أما اللذات العقلية فهي عند «بهمن يار» شفاء لا يعقبه داء، وصحة لا يلزمها سقم.
ويربط أرسطو الشهوة بالضعف. فقد سئل يوما: «في أي وقت ترى الباه؟» فقال: «إذا اشتهيت أن أضعف.» والشهوة عنده يندر من لم يصطرع بها. أما عند «دي سنانكور» فهي بداية الاضمحلال. ويعتقد «سومرت موم» أن أنجع وسيلة للقضاء على الشهوات هي إشباعها، في حين يقول كراتوس: «إذا أردت ألا تفوتك شهوتك فاشته ما يمكنك.»
ولإلياس أبي شبكة رأيه في الشهوة الجسدية، فهي عنده ضرورية، ولا مانع من أن يهلك ويفنى بسببها، فيقول:
جملي لي الجسد
واسكبي لي الرحيق
لا تفكري بغد
قد يجي ولا نفيق
ما لنا وللأبد
إن سره عميق
الهوى إذا اتقد
كان للبلى طريق
فلنمت يدا بيد
ولنغيب البريق
بين شهوة الجسد، والرحيق
ويؤيده في هذا الشاعر الذي يقول:
زار الحبيب بليل
وفزت منه بأنسي
وبات وهو ضجيعي
وما أبرئ نفسي
ومع أن الشهوة تعيش دائما بلا غيرة، إلا أن الحب قلما يستطيع أن يعيش بدون غيرة. هذا وإن كان في الإمكان للغيرة أن تحيا بلا حب؛ لأن الغيرة - كما يقول «كولتون» - تستطيع أن تطعم على ما هو حي، إلى جانب ما هو حلو معضدة بالكبرياء والحب.
ويرى «شكسبير» أن الغيرة وحشا أخضر العينين يلازم الحب ويحيا على ذاته، بينما هي أعظم المحن في نظر «لارو شيفو كولد».
ولا شك أن حواء هي أول من شعرت بالغيرة على الأرض، بالرغم من أنه لم تكن هناك أي امرأة أخرى في العالم تنافسها في قلب آدم.
والمعروف أن حواء خلقت من أحد ضلوع آدم؛ ولذلك فإن ضلوع الرجل أقل من ضلوع المرأة بواحد.
وذات يوم خرج آدم للصيد فتأخر عن المعتاد، فلما عاد سألته حواء أين كان، فأجاب: «كنت أصطاد.»
قالت: «ألا توجد هناك امرأة أخرى؟»
قال: «أنت تعرفين أنه ليس على الأرض امرأة سواك.»
فلم تصدقه حواء، ولما جاء الليل ونام آدم، أسرعت إليه تعد ضلوعه!
ويصور هذا الشاعر الغيرة أحسن تصوير حين يقول:
أغار على أعطافها من ثيابها
إذا لبستها فوق جسم منعم
وأحسد كاسات تقبل ثغرها
إذا وضعتها موضع اللثم في الفم
وكذلك قول هذا الشاعر:
أغار عليك من غيري ومني
ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أني خبأتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني
والغيرة كما تولد تموت، فيقول سنيكا: «الغيرة تبث الشك، ولكن متى أقلعنا من ميناء الشك، ودخلنا ميناء الحقيقة، ماتت الغيرة وانمحت آثارها.»
والغيرة في نظر «بريور» لا تعرف إلا قلب المرأة، فهو يقول: «يزداد قلب الرجل برودة، وقلب المرأة غيرة، وهو يسعى إلى الحرية، أما هي فتنشد السلطان.»
ومن رأي شكسبير أن الغيرة تجسم المسائل التافهة في عين المرأة وعقلها فيقول: «المسائل التافهة في عين المرأة الغيور أدلة دامغة كالأدلة التي جاءت في الكتب السماوية.» ويتفق يونج مع شكسبير في هذا الرأي إذ يقول: «من أخص طبائع الغيرة أنها تجسم الأمور وتخلق أشباحا من العدم، ثم تفقد رشدها وسط تلك الأوهام المختلفة التي تصورتها.»
ويعضد هذا الرأي كلمات براوننج عن الغيرة: «يا للغيرة وآثارها! ويا للبشر وحماقتهم! تخلق الغيرة من الكذب صدقا، فتسخر بالعين والأذن. إنها تكسب الضباب صلابة، وتنطق الصمت البهيم، وتقلب الحشد الودود إلى جيش من الأعداء المتآمرين.»
وكما قلنا إن للحب قوة، فالغيرة كذلك لا تخلو من القوة. وإن كان للحب قوة الموت، فللغيرة قوة اللحد. ويشبهها يونج بالموت حين يقول: «الغيرة محنة المحن، أو قل هي الموت المركب». ويذكرها «جون جاي» مقرونة بالجنون فيقول: «ما يمليه الجنون تؤمن به الغيرة». كما يقول أيضا سير آرثر ونج: «النسوة الغيورات بهن مس من الجنون.»
وقد يصل جنون المرأة عندما تغار أن تشعل النار في بيتها؛ ذلك لأن المرأة الغيور تؤمن بما تقترحه عواطفها. والمثل الإنجليزي يقول: «سرعان ما يتهشم رأس الغيور.»
وإن كان هناك من يقول إن الغيرة هي جزاء الحب، فإن «تنيسون» يؤيد رأي هؤلاء حين يقول: «آفة الحب الغيرة.»
والأمر الذي لا جدال فيه هو أن الغيرة جحيم المحب المكلوم، وأنها كالكير، إن ضغطته بلطف أدفأ شهوتك، وإن استعملته بعنف أشعلك نارا موقدة.»
ومع ذلك، فما أكثر الحمقى الذين يخدمون الغيرة المتأججة.
الباب الرابع
القبلة
القبلة سر يباح به إلى الفم بدل الأذن، إنها أزكى من عطر براعم الربيع المتفتحة، وأحلى من الشهد الرضاب، وخير حكم بين العاشقين.
بل هي مفتاح الحب الثمين، إن لم تكن عهوده اللازمة.
والقبلات أشكال وألوان؛ فهناك قبلة الخضوع والاستكانة وهي قبلة العبد، وقبلة الرياء وهي قبلة الخائن، وقبلة الحنان وهي قبلة الشقيق، وهناك قبلة الشفقة والغفران، وهذه هي القبلة الروحية.
ولا شك أن القبلة الروحية حياة بعد يأس، بعكس القبلة الشهوانية التي هي يأس بعد حياة.
والقبلة كأي شيء لها تاريخ، ولها ميلاد وعادات، ولها مبدع ومبتكر. ولله در من قال: «جدير بمن ابتكر التقبيل أن تعلو روحه إلى السموات.»
ذهب البعض إلى أن القبلة لم يكن لها وجود فيما سلف من الزمان، بل هي وليدة عطف الأم وحبها لأطفالها.
ربما يكون هذا الرأي لا نصيب له من الصحة، فقد وجد الحب والبغض بوجود الذكر والأنثى. فكما أن الطبيعة قد علمت الحيوان الفرار عند الخوف، كذلك علمته شيئا من الحركات الجنسية عند الحب. وقد اختص كل نوع من الحيوان بنوع أو أكثر من تلك الحركات.
وقد ذهب البعض الآخر إلى أن قصة القبلة بدأت حين صدر قانون في روما القديمة منذ أكثر من 1500 سنة يحرم على النساء شرب الخمر، ويجعل الرجل مسئولا عن تنفيذ زوجته لهذا القانون. ولكي يطمئن الرجال إلى تنفيذ زوجاتهم لهذا الأمر، كان الزوج يضع شفتيه على شفتي زوجته ليتبين طعم الخمر فيه. فبذلك اكتشف الأزواج ما في هذه الحركة من متعة، فأخذوا يستعملونها في غير حالات التأكد من تطبيق القانون، وانتشرت بعد ذلك هذه العدوى بين الناس.
وسواء صدق هؤلاء أو أولئك، فإن أقدم القبل الواردة في التاريخ هي قبلة يهوذا للمسيح. فحينما حكم رؤساء الكهنة على المسيح بالقتل، ذهب أحد التلاميذ المسمى يهوذا الإسخريوطي إلى رؤساء اليهود وسألهم ماذا يعطونه لو سلم إليهم المسيح، فاتفقوا على أن يعطوه ثلاثين من الفضة، فقبل وأعطاهم علامة أن الذي يقبله يهوذا يكون هو المسيح، فيمسكونه. ثم تقدم إلى يسوع المسيح وقال له: «السلام لك يا سيدي.» وقبله.
ويقسم اليهود القبلة إلى ثلاثة أقسام: قبلة الاحترام والعبادة، وقبلة اللقاء، وقبلة الوداع.
وكانت القبلة عند قدماء الروس رمزا للتحية والسلام، وكان تكرارها دليلا على شدة الحب.
وقد وضع «قسطنطين» قانونا جاء فيه: «إذا مات رجل وكان قد قبل خطيبته دون أن يتزوجها، فلها نصف تركته.»
وكان تقبيل اليد والركبة في عصر الجمهورية الرومانية شائعا بين أفراد الطبقة الواحدة أو المركز الواحد. أما في أيام الإمبراطورية الرومانية، فقد كان ذوو الرتب الدنيا يقبلون أيدي من هم أعلى منهم مرتبة ومقاما.
وفي إنجلترا، إبان عهد الملك إدوارد الرابع، انتشرت القبلة انتشارا واسعا، إذا كان على الزائر أن يقبل جميع أفراد العائلة التي يزورها.
ولقد كتب أحد المؤرخين العرب القدماء عن القبلة في إنجلترا فقال: «ما من شيء أكثر ابتذالا عندهم من التقبيل، فمتى التقيت بجميع الأصدقاء، فلا بد أن يقبلوك فردا فردا، وعند توديعهم يجب أن تقبلهم أنت أيضا.»
أما تقبيل أقدام رؤساء الكنيسة الروحانيين، فقد كان بدؤه من روما، وقيل عن سبب ذلك: إن أحد الرؤساء فقد ذراعيه فاضطر زائروه إلى تقبيل قدميه بدلا من يديه.
وفي إنجلترا أيضا، لا بد أن يقبلوا من يتفق عبوره تحت شجرة اللبلاب في يوم عيد القيامة، وليس لظهور هذه العادة تاريخ معروف. وقد أصدرت الجمعية الروحانية البريطانية منذ عدة قرون أمرا بمنع تزيين الكنائس بأوراق اللبلاب، إذ كان بعض الشبان الماجنين السادرين يتعمدون العبور مع الفتيات تحتها، وبذا تصبح الفتيات هدفا لمعانقتهم وقبلاتهم.
وتؤمن نساء الطبقة الوسطى من الإنجليز بأن الفتاة التي تمر تحت أشجار اللبلاب دون أن يقبلها شاب، لا يمكن أن تحصل على زوج في تلك السنة.
ويرجع أصل هذه المعتقدات إلى الإسكندنافيين. وهناك قصة معروفة جديرة بالذكر تقول إن إله الشر قتل ذات يوم شابا جميلا بهراوة من خشب اللبلاب، ولكنه لما رأى جمال الفتى وبهاء طلعته، عطف عليه فأعاد إليه الحياة، ثم أهدى إلى إحدى الربات شجرة لبلاب وعاهدها على ألا يمس البشر بشر ما دامت أغصان الشجرة متباعدة لم تتصل، ولذلك تجدهم يربطون أغصان هذه الشجرة لئلا يتصل بعضها ببعض، ويقبل الشبان الفتيات عند عبورهن تحتها رمزا للصلح والخير.
ولبعض الممالك قوانين وضعت للقبلة خاصة؛ ففي أيسلندا مثلا، لا يجوز للرجل أن يقبل امرأة متزوجة، وهناك عقاب صارم لمن يخالف هذا القانون.
وفي نيويورك قانون يحرم تقبيل النساء في الطريق.
أما في باراغواي فيحق للرجل تقبيل أي امرأة عندما يعرفها بنفسه.
ومن العادات المتبعة في بعض بلاد إنجلترا في عيد الفصح، أن يتجول الشبان في شوارع المدن ستة ستة، أو ثمانية ثمانية في يوم الإثنين الذي يقع فيه العيد، لمداعبة من يتفق مرورهن من الغادات الحسان. فإذا وجدوا سيدة جميلة، التفوا حولها صائحين، وقبلها كل واحد منهم قبلة حارة. أما يوم الثلاثاء فيحدث العكس، إذ تتجول السيدات في الطرقات باحثات عن الشبان الحسني الوجوه؛ لتقبيلهم. وترجع هذه العادة إلى العصور الغابرة، وكان يقوم بها السوقة والأشراف على حد سواء.
من هذا يتضح أن للقبلة تاريخا غاية في القدم، وعقائد غريبة. كما أن لها علاقة وطيدة بالحب والهوى بصفة خاصة، ولله در بشارة الخوري حين أنشد قائلا:
ما كان أحلى قبلات الهوى
إن كنت لا تذكر فاسأل فمك
تمر بي كأنني لم أكن
ثغرك أو صدرك أو معصمك
لو مر سيف بيننا لم نكن
نعلم هل أجرى دمي أو دمك
أو حين قال:
إن كان أحلى الحب أول قبلة
ما ضره لو مات أول عمره
كالزهر مات مكفنا بأريجه
ووسيم نضرته ونشوة طهره
ولله در زميله الذي قال:
جاءني الحب زائرا
وعلى مهجتي عطف
قلت جد لي بقبلة
قال خذها ولا تخف
أو زميله الذي أنشد:
قبلت رجل حبيبي
فاحمر وازور خدا
وقال تلثم رجلي
لقد تواضعت جدا
فقلت ما جئت بدعا
ولا تجاوزت حدا
رجل سعت بك نحوي
حقوقها لا تؤدى
وما أروع إلياس أو شبكة حين يقول:
لا تطعم الحب اللجا
م ودعه يدلج في سراه
دعه فأم الطفل تم
لكه كما ملكت سواه
لسريرها خلجاته
ولمرشفيها مرشفاه
ونساء هذا العصر إن
أحببن أطعمن الشفاه
أما قلوب العاشقا
ت فإنها ... واخجلتاه
والقبل في رأي هذا الشاعر شفاء وبرء، فيقول:
شفاء الحب تقبيل وشم
ووضع للبطون على البطون
ورهز تذرف العينان منه
وأخذ بالمناكب والقرون
وللقبلة الطويلة معناها عند بيرون إذ يقول:
القبلة الطويلة حقا هي قبلة الشباب والحب.
أما شيلي فيضع قبلة الحبيبة فوق جميع القبلات فيقول:
ألا ترين الجبال تقبل السموات،
والأمواج تقبل بعضها؟!
ألا ترين ضوء الشمس يقبل الأرض،
وضياء القمر البحر؟
ولكن ماذا تفيد كل هذه القبلات
إن لم تقبليني أنت يا حبيبتي!
والفتاة التي تأمرك بالصمت إنما تأمرك بتقبيلها. قال «سواينبيرون»: «المرأة التي تأمرك بالصمت، تأمرك بتقبيلها. لقد تعلمت هذا من السيدة التي علمتني التقبيل.»
وهناك من يرى أن القبلة المتفق عليها ليست كالتي تأتي اتفاقا، فمصدر الأولى الشيطان، ومصدر الثانية الروح.
الأولى دليل الحب الصناعي، أما الثانية فرمز الحب الصحيح. تنتهي الأولى بانتهاء لذتها، أما الثانية فلذتها تدوم رغم انتهائها.
وإحصاء القبلات في الحب أمر قد تحدثت عنه الأجيال، كما ترنم به الشعراء. ولعل كاتولوس الشاعر الروماني خير من سجل هذا الرأي في شيء من الوضوح والجلاء. ولهذا الشاعر قصيدتان في هذا المعنى بالذات.
أما قصيدته الأولى فتربط بين عدد القبلات وبين عين الحسود، وهي تجري كالآتي:
هيا أعطني ألف قبلة ثم مائة،
ثم ألفا أخرى، من بعدها مائة،
وبعد الألف الثالثة هات مائة وهكذا،
حتى إذا طبعنا على الشفاه
آلافا من القبلات
كففنا عن العد؛
لاختلاط الأرقام،
فلا ندري كم ارتشفنا من رضاب. •••
ويحك يا حبيبتي ثم ويحك،
وحذار أن تنسي الحسود؛
فعينه الشريرة لو أحصت قبلاتنا
لهالها ذلك الفيض العظيم،
فتبا لها ثم تبا لكل حسود.
أما في القصيدة الثانية، فلا يغفل ذكر الحسود أو لسانه الثرثار.
تسألينني يا ليسبيا:
كم قبلة من قبلاتك
تشفي غليلي وتكفي
أو تزيد لتطفي الأوار؟
فأقول عدي رمال ليبيا،
وذرات تربتها الخصيبة
ما بين معبد جوبيتر اللافح
والقبر المقدس لباتوس العجوز،
أو بقدر نجوم السماء،
وسط القبة الداجية
التي إذا عسعس الليل اطلعت
على اختلاس العشاق لشهد الهوى،
فإن تقبيلك يا ليسبيا
قدرا كهذا من القبل
فيه ما يكفي كاتولوس
حبيبك المتيم المجنون
وما يزيد على الكفاية،
فما أحلى هذه القبلات
التي لن يستطيع العذول عدها
بعيونه اليقظة الفضولية،
ولا مجال لأخي الشر
أن يحسدها بلسانه الثرثار.
ويتفق مع كاتولوس في هذا الرأي الشاعر الذي يقول:
سألتها التقبيل من خدها
عشرا وما زاد يكون احتساب
فمذ تلاقينا وقبلتها
غلطت في العد وضاع الحساب
أما «ساكس» فيعد حبيبته برد ما هي مدينة له من قبلات فيقول:
أعطني قبلاتك،
فأنا مثلك ثري،
وكل قبلة أدين لك بها
أستطيع دفعها كما تعلمين
فهيا ... قبليني،
قبليني الآن،
وفي كل أوان
هيا قبليني من جديد!
وللقبلة عند بعض الناس طعم الخمر الحلوة. قال الشاعر:
أهيف كالبدر يصلي
في قلوب الناس نارا
يمزج الخمر بفيه
فترى الناس سكارى
أما «بن جونسون» فلا مانع عنده من أن يستعيض القبلة بالخمر نفسها. فيقول: «إن تتركي في الكأس قبلة، فلن أبحث عن الخمر أبدا.»
وفي هذا المعنى كتب بعض الشعراء قائلا:
آه عندما تأتي حبيبتي
وبعين الحب أنظر إليها
فإني أضمها إلى قلبي الخافق
وبين ذراعي أطوقها
لأني لها، ولأنها لي.
آه! إن عناقها الحنون
يشبع غرامي المفتون،
وعطور بلاد بونت
تعطرني بحلاوتها،
ولما تطبق شفتيها على شفتي
أثمل ولا أحتاج إلى خمر.
والقبلة كما تسكر قد تسعد وقد تشقي.
يرى «ليف هنت» أن القبلات المسروقة هي أحلى القبلات وأكثرها إسعادا لقلب المحب. ويتفق معه في هذا «مارشال» إذ يقول: «إنني لا أسعد بالقبلات إلا إذا اغتصبتها اغتصابا من فم حبيبتي وهي تقاومني.»
ويرى «أوستن دوبسون» أن كل سعادته في أنه قد حظي بقبلة من حبيبته، فيقول:
اليوم قبلتني حبيبتي
ولكن هل ستقبلني غدا؟
إن هذا لا يهمني،
كفى أنها قبلتني اليوم،
وفي هذا محض سعادتي. •••
أما «جون دافيدوسون» فيسعده تقبيل التراب الذي وطئته حبيبته بأقدامها. بينما يعتقد «مارلو» أن قبلة واحدة من حبيبته قد تخلع عليه الخلود فيقول: «أي هيلين الحلوة، خلديني ولو بقبلة.» وسعادة «ماسنجر» في أن يخلع على يده شرف حمل قبلة من شفتيه إلى غطاء قدمي حبيبته.
بيد أن القبلة كما تسعد فهي في نظر «وايد» قد تقتل: «كل امرئ يقتل بما يحب. وقد يفعل البعض هذا بنظرة عابسة، والبعض الآخر بنظرة مرائية. أما الجبان فيفعل هذا بقبلة، بينما يفعله الشجاع بالسيف.»
ولا شك أن بين الشفتين والقبلة وقت يكفي للندم. كما أن قبلة واحدة تكفي لأن تصبح الطهارة ذنبا وأنه عندما تنتهي قصة الحياة الحلوة يفترق الجسد عن الروح وتنتهي دنيا القبلات والتأوهات.
ويصدق «أوليفر سانتور» حين يقول: «السعادة كالقبلة، لا تظفر بها إلا بالمشاركة.»
ويؤيد هذا فلتشر إذا يقول: «تلتقي سعادة قلوبنا عندما تلتقي شفاهنا في القبلات.»
وبعض الفتيات تحمر خدودهن إذا ما حاولت تقبيلهن، وبعضهن يستنجدن برجال الشرطة، وغيرهن يثرن أو يعضضن. أما أسوأ النساء فهن اللواتي يضحكن.
ويعتقد «كورمنت» أن القبلة الأولى تبقى في أعماق ذاكرة المرأة لتلهب شفتيها إلى الأبد.
هذا وإن كان بيرون ينظر إلى المرأة على أنها محض فم، يقول: «لا يملك جنس النساء غير فم مورد واحد لتقبيلهن أجمعين مرة واحدة من الشمال إلى الجنوب».
ويؤيد شكسبير الرأي القائل إن النساء لم تخلق لغير التقبيل. فنراه يقول: «لا تعلمي شفتيك مثل هذا الازدراء، فقد خلقت للتقبيل يا سيدتي، لا لمثل هذا الاحتقار.»
ويسخر «مينكن» من أن تقبل امرأة سيدة أخرى فيقول: «كلما رأيت سيدتين تقبل إحداهما الأخرى، تذكرت منظر ملاكمين يتصافحان قبل المعركة.»
ولا يعترض «براوننج» على إقدام الصبية على تقبيل الفتيات إذ يقول: «ما كان يجب عليك أن تجبر صبيا في الثامنة من عمره على أن يقسم على عدم تقبيل الفتيات.»
ولم تخل أمثال الأمم من تناول القبلة بما يجب ذكره. وإليك بعض ما تضمنته هذه الأمثال:
عديم القبلات عديم الشفقة. (مثل إنجليزي)
قبلة وشراب من الماء فطور لا طعم له. (مثل اسكتلندي)
قبلة الوالد عبادة وقبلة الولد رحمة. (مثل عربي)
لا تخلق الأحضان أو القبلات أطفالا. (مثل إسباني)
القهوة الجيدة يجب أن تكون سوداء كالشيطان، ساخنة كالجحيم، حلوة كالقبلة. (مثل هنغاري)
اليد التي لا تستطيع قطعها، قبلها. (مثل سواهيلي)
قبلات العدو كثيرة.
ما أحلى تقبيل الألثغ!
فلنقبل بعضنا ونصبح أصدقاء.
الإسفنجة تمحو الماضي، والوردة تبهج الحاضر، أما القبلة فتحيي المستقبل. (مثل عربي)
الفصل الخامس
العشق
العشق ضرورة تدخل على النفس، والإنسان جاهل بتلك الضرورة.
العشق متعة الشباب، ومثلبة الشيخ.
إنه رسالة القلب في الحياة.
إنه إكسير حياة المرأة ومن ألزم ضرورات روحها، فلا سبيل إلى منعها من طاعته.
إنه لا يباع ولا يشترى، وإنما هو نتيجة الاجتماع والتعارف.
وإذا كان العشق من أجل قوى النفس، ثبت ولم يتغير، وإذا كان من أجل الجسد تغير بتغير الصورة والمزاج.
وهو - تبعا لقول جبران خليل جبران - «حاجة غير منقضية» وفي نظر نابليون «سفه وحماقة وبله وجنون.»
ويعرف الجاحظ العشق فيقول: «العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السرف اسم لما جاوز الجود.»
أما يحيى بن أكثم فيقول: «العشق سوانح تسنح للمرء فيهتم بها قلبه وتؤثرها نفسه.»
سئل أعرابي من بني عذرة عن ماهية العشق فأجاب: «أعين تتلاحظ، وألسن تتلافظ، وعدة تقضى، وإشارات تدل على السخط والرضا.»
وسئل آخر فقال: «العشق هو الميل الدائم بالقلب الهائم.»
وسئل حكيم فأجاب: «العشق طائر لا يلتقط إلا حبة القلب.»
ولا جدال في أن العشق أحد فروع الهوى، وهو «شوق إلى المستقبل، وحنين إلى الماضي.» أو كما يقول الشاعر:
أنا مبتلى ببليتين من الهوى
شوق إلى الثاني وذكر الأول
ويخطئ من يعتقد أن العشق هو الحب، فالفرق بينها شاسع والبون عظيم.
فالحب أول الهوى، بينما الحب هو العشق إذا نما واشتد، وتغلغل واستبد. ومرتبة العشق من الحب كمرتبة السخاء من الجود.
والحب يحل في القلب، في حين أن العشق يحل فيه القلب.
على أن هناك فرقا آخر، فالمحب لا يزداد شغفه بمحبوبه إلا كلما غاب عنه، مع أن العاشق يزداد تعلقه بمعشوقه كلما رآه.
ذلك لأن المحب يحب أن يرى سخطا وتبرما في حبه، أما العاشق فيميل إلى دوام الوصل والراحة في عشقه.
فلسان حال الأول يقول:
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا
فأين حلاوات الرسائل والكتب
أما لسان حال الثاني فيقول:
إذا لم يكن في الوصل روح وراحة
هجرت وكان الهجر أشفى وأسلما
وعلاقة العشق بالنظر مسألة مفروغ منها، فقد قال بعض العرب: «أول العشق النظر، وأول الحريق الشرر.» هذا وإن كان بشار بن برد يرى أن القلب يعشق قبل العين أحيانا.
قال أحد العشاق: «إن قلبي الذي رأى المئات من الفتيات، فما أحب واحدة منهن، ما إن رآك حتى آمن بالعشق من أول نظرة.»
على أنه لا يمكن إخفاء العشق مهما تستر المرء ومهما حاول التكتم. وفي ذلك يقول أنتيفان: «شيئان لا يمكن أن يخفيهما أي إنسان، كائنا من كان، مهما بلغت قدرته على الكتمان: كونه مخمورا، وكونه عاشقا.»
وفي نفس هذا المعنى يقول أعرابي: «العشق خفي أن يرى، وجلي أن يخفى؛ فهو كامن ككمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى.»
ولا ريب في أن عدد من يموتون بسبب العشق كل يوم أضعاف من يموتون بحوادث الطريق المحزنة.
وقد يكون العشق في نظرك تمثالا بديعا تفتنك دقة صنعه، ولكنك سرعان ما تهشمه وقد تشبعت روحك وعقلك بجماله.
وما من شك في أن العشق قوي، فلا يمكن فصله عن الإنسان، ولكنه قد يتسلل إلى مدى بعيد. فيوم يبدأ لا يزول أبدا.
والعشق الحقيقي القوي يعيش في الذاكرة، والمرأة التي لا تنطبع روحها بالعشق لا تستطيع أن تقول إنها تعشق أو إنها تعرف ماهية العشق.
فللعشق حمى تبعث في المرء دفئا وحرارة دونهما كل دفء وحرارة، وتثير فيه ذكريات وآمالا لا يدانيها أي ذكرى ولا أي أمل.
يقول سقراط: «إن العشق قوة هيأها الله سبحانه وتعالى لبقاء الحيوان؛ وذلك لأنه يحرض الحيوان على النكاح الذي تكون منه الأولاد، فتبقى صورة الحيوان، إذا لم يكن في بقاء الأفراد حيلة.» وهذا ما نسميه بالمحافظة على الجنس.
ولا أدل على قوة العشق من هذه الفقرة التي كتبتها الشاعرة الإغريقية «سافو» على لسان عذراء أحست بالعشق يدب في أوصالها فقالت: «أماه الحلوة! لم تعد لي طاقة للعمل على النول، فقد آن لي أن أتطلع بولع إلى عشق فتى بمعونة «فينوس» الحنونة.»
والعاشق - من فرط قوة العشق - قد يجول في العالم كمن يمشي في نومه بأعين تظهر مفتوحة لمن يلاحظه، بينما الحقيقة أنه لا ينظر غير أوهامه الداخلية.
فالعاشق عبد رق، يعز عليه أن يعتق نفسه، أو يتحرر من مظالم مستعبده.
ويحدثنا قاسم أمين عن قوة العشق واستبداده فيقول: «لا شيء يشبه العشق في عنفوان نشأته؛ إذا هجم هذا المستبد القاهر، ارتعدت له الفرائص، وحصر اللسان واختبل العقل، وخلا الطريق أمامه، فوصل إلى القلب بوثبة واحدة أو بوثبات متعددة. ومتى احتله تمدد فيه وانتشر وملأه برمته، فلا يقبل منافسا أو منازعا أو شريكا أو ضيفا بجانبه. بل يستأثر وحده بالنفس فيلهيها عن شواغلها، وينسيها حاجاتها، ويفرق بينها وبين أميالها، ويذهب همومها وأحزانها، ولا يطمئن إلا إذا قطعت العلاقات مع غيره، وأصبحت كلها له كأنها ولدت معه في يوم واحد وتفنى معه في ساعة واحدة، لا تعرف ماضيها ولا تبالي بمستقبلها. فإذا تمكن منها على هذه الحال، وقبض على زمامها رضيت بعجزها، وشكرته على أسرها، واغتبطت برقيها، ووجدت باتصالها بنفس أخرى قوة وفرحا وسعادة لم تر مثلها.»
ولا يدل قول أفلاطون «كل إنسان يصبح شاعرا عندما يعشق» إلا على قوة العشق. وكذلك قول إقراطيس: «الجوع كاف لإذهاب العشق، فإن لم يذهبه في أول أمره، قطع عرفه في العاقبة. فإن لم يذهبه الجوع، فلا حيلة في إذهابه إلا قتل الإنسان نفسه.»
وهناك من ينصح العشاق قائلا: «لا تعشق المجنون على جنونه، لئلا تكون مجنونا مثله.» وفي هذا إشارة إلى قوة العشق وجبروته.
ويذهب البعض إلى وصف العشق بأنه داء؛ فهو كالسوس الذي يفتك فلا يبقي في المرء أودا.
يحدثنا «جوسن بلنجر» فيقول: «العشق كالحصبة لا يصيب الإنسان إلا مرة واحدة. والويل له إذا أصابه في الكبر؛ فإنه لا محالة سيودي به.»
وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «العشق داء عارض يصطاد قلبا خاليا ويورثه ألما جليا يحرك منه الساكن ويسكن فيه الداء المائن.»
في العشق حلاوة ومرارة، كما فيه لذة وعذاب.
قيل لرجل إن ابنه قد عشق، فأجاب: «عذب قلبه وأبكى عينه وأطال سقمه.»
والعشق عند الفيلسوف الروماني بوبليلوس سيروس «قلق في وقت الراحة.» وهو عند غيره من الفلاسفة: «حركة النفس الفارغة.»
أما شكسبير فيقول: «لا يتأوه العاشق من لا شيء.»
ويقول الشاعر العربي:
خليلي ما للعاشقين قلوب
ولا للعيون الناظرات ذنوب
فيا معشر العشاق ما أوجع الهوى
إذا كان لا يلقى الحبيب حبيب
ولله در من قال:
حكم الزمان بأنني لك عاشق
يا من محاسنه كبدر يشرق
حزت الفصاحة والملاحة كلها
وعليك من رب البرية رونق
ولقد رضيت بأن تكون معذبي
فعسى علي بنظرة تتصدق
من مات فيك صبابة فله الهنا
لا خير فيمن لا يحب ويعشق
ولا أدل على ما في العشق من عذاب من قول يحيى بن معاذ: «لو أمرني الله أن أقسم العذاب بين الخلق ما قسمت للعاشقين عذابا.»
كتب عاشق إلى معشوقته يقول: «أحبك حب أمي التي ولدتني، وأقدسك كما أقدس الأنبياء، وأنزلك من قلبي منزلة العذراء .. أعشقك. قتلني العشق من أجلك، وربي شهيد على آلامي التي احتملتها في سبيلك، وليس على قلبي ألذ منها ولا أشهى.»
وكما للعشق ألمه وعذابه، فإن له أيضا لذته. فما ألذ العشق الذي يخلق من المرء شخصا آخر! وما ألذ العشق الذي يبدأ بالاتفاق وينتهي بالاقتران!
كتب بعض العشاق يقول: «لا تسأليني كم أعشقك، أو ماذا يعتريني ساعة أن أراك؛ فهذه إحساسات لم أشعر بها من قبل، وما كنت أحسب أنني سوف أحس بها أبدا، ولكن لا ريب في أنك تدخلين إلى نفسي سرورا لا عهد لي به، وغبطة قد تحسدينني عليها، وانشراحا لا أعرف كيف أجازيك عليه.»
ويرى ريفارول أن ألذ ما في الحب جنونه. ويقول توماس مور: فلتبتسم لي الحياة ما دمت أعشقه وما دام يعشقني، أما إذا غاض عشقه، فلتبك الدنيا، فليس من شيء يهمني بعد عشقي.»
ويقول الشاعر:
كيف تبقى للعاشقين قلوب
وهي من جمرة الغرام تذوب
كيف ينسى المحب ذكر حبيب
واسمه في فؤاده مكتوب
وقال آخر:
وغزالة وعدت تزور محبها
في النوم كي تشفى بها الأسقام
فأجبتها مستبشرا بوصالها
يا حبذا إن صحت الأحلام
ويذهب بعض الفلاسفة والحكماء إلى تعديد ما في العشق من فضائل مختلفة.
يقول ديكتر: «قلب العاشق مصدر الحكمة.» ويقول لونجفلو: «من أجمل صفات العاشق أنه لا يظن السوء في معشوقته.»
ويرى أونيل «أن الشباب يعيش ساعة، والجمال يعيش كما تعيش الزهرة، ولكن العشق هو الجوهرة الباقية التي يتلألأ بها العالم.»
ولا يخلو العشق - عند بعض الحكماء - من الشرف والتقوى والإيمان. يقول قاسم أمين: «كل عشق شريف، فإن كان بين شريفين زاد في قيمتهما ورفع من قدرهما. وإن كان بين وضيعين أكسبهما شرفا وقتيا، حتى إذا زال العشق، سقطت قيمتهما وانحطت مرتبتهما، ورجعا إلى أصلهما.»
ومن فضائل العشق، في نظر الخراساني، أنه يطلق اللسان، ويفتح حيلة البليد والبخيل، ويبعث على التلطف وتحسين اللباس، وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء وتشريف الهمة.
وللعشق في رأي بعض العلماء فضيلة تنتج الحيلة، وتشجع الجبان وتقوي الجنان، وتسخي كف البخيل وتشفي السقيم العليل، وتصفي ذهن الغبي وينطق له اللسان بالشعر ، وهو أساس داعية الأدب، وأول باب تتفق به الأذهان والفطن وتستخرج به دقائق المكائد والحيل، وإليه تستريح الهمم وتسكن نوافذ الأخلاق والشيم، ويتمتع به الجليس، ويؤانس الأليف، وله سرور يجول في النفوس، وفرح يسكن في القلوب. وكلام العشاق مع منادميهم يزيد في ذكاء العقول وتحريك النفوس وطرب الأرواح وجلب الأفراح.
كان ذو الرياستين يبعث صبيان أهله إلى شيخ يعلمهم الحكمة، فسألهم يوما: «هل فيكم عاشق؟» فأجابوا بالنفي فقال لهم: «اعشقوا وإياكم والحرام؛ فالعشق يفصح الفتى، ويذكي البليد، ويسخي البخيل، ويبعث على النظافة وتحسين الهندام.»
قال أعرابي: «لو لم يكن في العشق إلا أنه يشجع الجبان ويصفي الأذهان ويبعث حزم العاجز، لكفاه شرفا.»
قيل لبعض العلماء إن ابنه قد عشق فأجاب: «الحمد لله، الآن رقت حواشيه ولطفت معانيه وملحت إشارته وظرفت حركاته وحسنت عباراته وجادت رسائله.»
شكا معلم سعيد بن مسلمة ولده إليه فقال: إنه مشتغل بالعشق، فرد عليه قائلا: «دعه فإنه يلطف وينظف ويظرف.»
والقصة التالية توضح أثر العشق الطيب في مسلك الإنسان وأخلاقه:
دخل كثير عزة يوما على عبد الملك بن مروان فقال له: «ناشدتك يا كثير بحق علي بن أبي طالب، هل قابلت من هو أعشق منك؟» فأجاب كثير: «والله يا أمير المؤمنين لو سألتني بحقك لأخبرتك، نعم، بينما أنا أسير ذات يوم في بعض الفلوات، وقد برح بي الشوق إلى عزة، إذ أنا برجل قد نصب حباله، فقلت له: «ما أجلسك ها هنا؟» قال: «قد أهلكني وأهلي الجوع، فنصبت حبائلي، لعلي أصيب لهم ولنفسي ما يكفينا سحابة يومنا، فقلت: أرأيت لو أقمت معك فأصبنا صيدا، أتجعل لي منه جزءا؟ قال: «نعم». وبقينا نحن كذلك حتى وقعت ظبية، فخرجنا مبتدرين، وأسرع هو إليها فحلها وأطلقها، فقلت له، ما حملك على هذا؟ قال: دخلني لها رقة لشبهها بليلى وأنشأ يقول وهو يبكي:
راحوا يصيدون الظباء وإنني
لأرى تصيدها علي حراما
أشبهن منك محاجرا وسوالفا
فأرى علي لها بذاك ذماما
أعزز علي بأن أروع شبهها
أو أن يذقن على يدي حماما
عندئذ عرفت يا أمير المؤمنين أن صاحبي لم يكن غير «مجنون ليلى».
وكما تناول بعض الأدباء والحكماء العشق مقرونا بالفضائل والمحامد، كذلك لم يغفل بعضهم ذكره مشفوعا بالرذائل والنقائص.
فالعاشق عند بعضهم لا يصلح لأن يتخذ أمينا على الأسرار؛ لأنه لا يثق بكلامك كما أنك لا تثق بكلامه.
قال الحسين بن علي: «ثلاثة تذهب ضياعا: دين بلا عقل، ومال بلا بذل، وعشق بلا وصل.»
والعشق عند شكسبير أعمى، والعشاق لا يرون ما يرتكبونه من حماقات.
ومن مساوئ العشق أنه قد ينقلب إلى مقت وكراهية. يقول روسفوكولد: «من يتسرع في حب معشوقته لا يلبث طويلا حتى ينبذها ويتحول حبه لها إلى كراهية.»
ويحدثنا «بولو رليتون» عن إحدى قبائح العشق فيقول: «العشق مشغلة الكسول، وراحة العامل.» ويؤيده في ذلك ديو جينيس بقوله: «العشق شغل أهل البطالة.»
وقد سئل أفلاطون عن العشق فقال: «هو ما لا يعرض إلا لأهل الفراغ.»
والعاشق - وإن كان يعرف رغبته - لا يرى ما تقول به الحكمة، فيحلم وهو يقظان بما يساوره من شك. ويقول لنفسه أكاذيب كثيرة.
قال رجل لامرأة: «قد أخذت بمجامع قلبي، واستوليت على مهجتي وفؤادي، فلست أعشق سواك.» فأجابته قائلة: «إن لي أختا أبهى مني جمالا وأرق حديثا وأكثر جاذبية، وها هي ذي خلفي.» فالتفت الرجل وراءها، فقالت له: «يا كذاب! تدعي هوانا، وفيك فضل لسوانا!»
ولقد سأل الرشيد عن حقيقة العشق فقيل له: «أن يكون البصل منها، أطيب من المسك من غيرها.»
ومن رذائل العشق عند هوميروس أن العاشق يقضي شبابه ولا يدري، ثم يمضي طور الرجولة في الندم على ضياع الشباب، وفي الكبر يفنى في العزلة والاحتقار.
وقد قال الشاعر:
مما أضر بأهل العشق أنهم
هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
تفنى عيونهم دمعا وأنفسهم
في إثر كل قبيح وجهه حسن
وإن كان البعض قد وصف العشق بأنه سريع العطب، فإن بعض الفلاسفة قد نعته بأنه باطل: «لم أر حقا أشبه بباطل من العشق، ولا باطلا أشبه بحق منه. هزله جد، وجده هزل. وأوله لعب وآخره عطب». •••
وقد يصل حد العشق بالمعشوق أنه لا يخشى الموت مثل خوفه من فراق معشوقته له. وفي ذلك قال أمير المؤمنين ابن المعتز:
وأفجع الناس من سارت حبائبه
ولا عناق ولا ضم ولا قبل!
ولعل شهداء العشق هم أول من في قائمة الشهداء؛ لأنهم يسعون إلى حتفهم بأنفسهم كقول الشاعر:
إلى حتفي سعى قدمي
أرى قدمي أراق دمي
ولأنهم يطلبون كذلك الموت طواعية في سبيل إرضاء محبوبهم زهدا في الحياة.
حدث الأصمعي فقال: «بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه:
أيا معشر العشاق بالله خبروا
إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع؟
فكتبت تحته:
يداري هواه ثم يكتم سره
ويخشع في كل الأمور ويخضع
ثم عدت في اليوم التالي، فوجدت مكتوبا هذا البيت:
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطع
فزدت عليه:
إذا لم يجد صبرا لكتمان سره
فليس له شيء سوى الموت ينفع
ثم وصف الأصمعي ما رآه بعد ذلك، وكيف يكون تأثير العشق في العشاق إذ يقول: «فمضيت ووجدت شابا ملقى تحت ذلك الحجر قتيلا ... وهو يشير إلى بيتين كتبهما بدم قلبه:
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا
سلامي إلى من كان للوصل يمنع
هنيئا لأرباب النعيم نعيمهم
وللعاشق المسكين ما يتجرع
ولعل أمتع قصص العشق وأصدقها على إخلاص العاشق لمعشوقته، وعدم إحجامه في بذل الروح في سبيلها، قصة هذا العاشق التي جاء ذكرها على لسان العرب:
حكي عن الأصمعي أنه قال: «دخلت البصرة أريد بادية بني سعد، وكان على البصرة يومئذ واليا خالد بن عبد الله القسري، فدخلت عليه يوما، فوجدت قوما متعلقين بشاب ذي جمال وكمال وأدب ظاهر بوجه زاهر حسن الصورة طيب الرائحة جميل البزة عليه سكينة ووقار فقدموه إلى خالد، فسألهم عن قصته فقالوا هذا لص أصبناه البارحة في منازلنا، فنظر إليه خالد فأعجبه حسن هيئته ونظافته. فقال خلوا عنه، ثم أدناه منه وسأله عن قصته فقال: إن القول ما قالوه، والأمر على ما ذكروه. فقال له خالد: ما حملك على ذلك وأنت في هيئة جميلة وصورة حسنة؟ فقال حملني الشره في الدنيا، وبذا قضى الله سبحانه وتعالى. فقال خالد: ثكلتك أمك، أما كان لك في جمال وجهك وكمال عقلك وحسن أدبك زاجر عن السرقة؟ قال: دع عنك هذا أيها الأمير، وأنفذ في ما أمرك الله تعالى به، فذلك بما كسبت يداي، وما الله بظلام للعبيد. فسكت خالد ساعة يفكر في أمر الفتى، ثم أدناه منه وقال له: إن اعترافك على رءوس الأشهاد قد رابني، وأنا ما أظنك سارقا، وإن لك قصة غير السرقة، فأخبرني بها. فقال: أيها الأمير، لا يقع في نفسك شيء سوى ما اعترفت به عندك، وليس لي قصة أشرحها لك إلا أني دخلت دار هؤلاء فسرقت منها مالا فأدركوني وأخذوه مني وحملوني إليك. فأمر خالد بحبسه، وأمر مناديا ينادي في البصرة: ألا من أحب أن ينظر إلى عقوبة فلان اللص وقطع يده، فليحضر من الغد. فلما استقر الفتى في الحبس ووضع في رجليه الحديد، تنفس الصعداء وأنشد قائلا:
هددني خالد بقطع يدي
إذ لم أبح عنده بقصتها
فقلت هيهات أن أبوح بما
تضمن القلب من محبتها
قطع يدي بالذي اعترفت به
أهون للقلب من فضيحتها
فعند ذلك سمعه الموكلون بالسجن فأتوا خالدا وأخبروه بذلك. فلما جن الليل، أمر خالد بإحضاره عنده. فلما حضر استنطقه، فرآه أديبا عاقلا لبيبا ظريفا، فأعجب به فأمر له بطعام، فأكلا وتحادثا ساعة، ثم قال له خالد: قد علمت أن لك قصة غير السرقة، فإذا كان الغد وحضر الناس والقضاة وسألتك عن السرقة فأنكرها واذكر فيها شبها تدرأ عنك القطع، فقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ادرءوا الحدود بالشبهات، ثم أمر به إلى السجن. فلما أصبح الصباح، لم يبق أحد من أهل البصرة لا ذكر ولا أنثى إلا حضر ليرى عقوبة ذلك الفتى. وركب خالد ومعه وجوه وأعيان أهل البصرة وغيرهم، ثم دعا بالقضاة وأمر بإحضار الفتى، فأقبل يحجل في قيوده ولم يبق أحد من الناس من رجال ونساء إلا بكى عليه، وارتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب. فأمر خالد بتسكين الناس، فإنها كادت أن تكون فتنة. ثم قال له خالد: إن هؤلاء القوم يزعمون أنك دخلت دارهم وسرقت مالهم، فما تقول؟ قال: صدقوا أيها الأمير، دخلت دارهم وسرقت مالهم. قال خالد: لعلك سرقت دون النصاب، فقال: بل سرقت نصابا كاملا. قال فلعلك سرقته من غير حرز مثله. قال: بل من حرز مثله. قال: فلعلك شريك القوم في شيء منه. قال: بل هو جميعه لهم لا حق لي فيه. فغضب خالد وقام إليه بنفسه، وضربه على وجهه بالسوط وقال متمثلا بهذا البيت:
يريد المرء أن يعطى مناه
ويأبى الله إلا ما أرادا
ثم دعا بالجلاد ليقطع يده، فحضر وأخرج السكين، ومد يده ووضع عليها السكين، فبادرت جارية من صف النساء عليها آثار وسخ، فصرخت ورمت بنفسها على الغلام، ثم أسفرت عن وجه كأنه البدر، وارتفع للناس ضجة عظيمة كاد أن تقع منها فتنة، ثم نادت بأعلى صوتها: ناشدتك الله أيها الأمير لا تعجل بالقطع حتى تقرأ هذه الرقعة. ثم دفعت إليه رقعة ففضها خالد، فإذا هي مكتوب فيها هذه الأبيات:
أخالد هذا مستهام متيم
رمته لحاظي من قسي الحمالق
فأصماه سهم اللحظ مني فقلبه
حليف الجوى من دائه غير فائق
أقر بما لم يقترفه لأنه
رأى ذاك خيرا من هتيكة عاشق
فمهلا على الصب الكئيب لأنه
كريم السجايا في الهوى غير سارق
فلما قرأ خالد الأبيات، تنحى وانعزل عن الناس، وأحضر المرأة ثم سألها عن القصة، فأخبرته أن هذا الفتى عاشق لها، وهي له كذلك، وأنه أراد زيارتها وأن يعلمها بمكانه، فرمى بحجر إلى الدار فسمع أبوها وإخوتها صوت الحجر عند الرمي، فصعدوا إليه. فلما أحس بهم جمع قماش البيت كله وجعله صرة فأخذوه وقالوا إن هذا سارق، وأتوا به إليك فاعترف بالسرقة وأصر على ذلك حتى لا يفضحني بين إخوتي، وهان عليه قطع يده لكي يستر علي، ولا تهتك الستر. كل ذلك لغزارة مروءته وكرم نفسه . فقال خالد: إنه خليق بذلك، حقيق بما تقولين مما هنالك، ثم استدعى الفتى إليه، وقبل ما بين عينيه، وأمر بإحضار أبي الجارية وقال له: يا شيخ، إنا كنا عزمنا على إنفاذ الحكم في هذا الفتى بالقطع، وإن الله عز وجل قد عصمنا من ذلك، وقد أمرت له بعشرة آلاف درهم لبذله يده وحفظه لعرضك وعرض ابنتك وصيانته لكما من العار، وقد أمرت لابنتك بعشرة آلاف درهم أيضا. وأنا أسألك أن تأذن لي في تزويجها منه. فقال الشيخ: قد أذنت أيها الأمير بذلك. فحمد الله خالد وأثنى عليه بما هو أهله وخطب خطبة حسنة وزوجها منه بقوله للفتى: قد زوجتك هذه الجارية فلانة الحاضرة بإذنها ورضاها وإذن أبيها على هذا المال، وقدره عشرة آلاف درهم، فقال الفتى: قبلت منك هذا التزويج.
وأمر بحمل المال إلى دار الفتى مزفوفا في الصواني، وانصرف الناس مسرورين ولم يبق أحد في سوق البصرة إلا نثر عليهما اللوز والسكر والدراهم حتى دخلا منزلها مسرورين مزفوفين.»
قال الأصمعي: فما رأيت يوما أعجب من ذلك اليوم، أوله بكاء وترح وآخره سرور وفرح.
الفصل السادس
الحب في أمثال الشعوب والأمم
للحب أمثال كثيرة تختلف باختلاف الأمم، وكلها مستمدة من واقع التجربة. وهي إن دلت على شيء فعلى أهمية الدور الذي يلعبه الحب في قلوب كل شعب من شعوب هذه الأمم.
وسنكتفي في هذا المقام بذكر القليل من الكثير، فما هنا مجال الحصر.
وإليك أشهر الأمثال الفرنسية عن الحب:
الحب يعلم الحمير الرقص.
قلما يموت الحب فجأة.
يبقى الحب ما بقي المال.
لا حب بلا غيرة.
من أحب كثيرا تعذب كثيرا.
لا يخفى الحب والسعال والدخان والمال.
وها هي بعض الأمثال الألمانية:
الحب لا يعرف الخوف.
الجوع أقوى من الحب.
الحب جزاء المحب.
ليس الحب أعمى، لكنه لا يبصر.
لا يعرف الحب الشتاء ولا الصيف.
يرى الحب الورود بلا أشواك.
يتكلم الحب مهما كانت الشفتان مغلقتين.
لا يحب الإنسان سوى مرة.
والمجموعة الآتية من أشهر الأمثال الأيرلندية عن الحب:
لا طبيب ولا عقار للحب.
من العسير أن تنجو من أسر الحب.
حب المرأة الأول حبها الثاني.
عمر الحب قصير، وعمر الكراهية طويل.
يقتفي الحب أثر المنفعة.
ما من حب عظيم لم تعقبه كراهية عظيمة.
امنح حبك لزوجتك وأعط سرك لأمك.
عندما تضعف اليد يضعف الحب.
يحب الرجل معشوقته أعظم الحب، وزوجته أحسن الحب، ولكنه يحب أمه أطول الحب.
وهذه مجموعة من الأمثال اللاتينية:
الحب والسيادة لا يحبان الزمالة أبدا.
دائما ما يكذب الغضب في الحب.
أحبب مثلما تبغض، وأبغض مثلما تحب.
عندما تعاني الحب، جوبيتر نفسه يكون جحشا.
يفتر الحب بدون القمح والخمر.
أحبب، إن تحب.
إذا حسن سير الكثيرين بالحب، فالعدد الأكبر يستقيمون بالخوف.
الحب خير سيد.
العيون رسل الحب.
دعه يقع فريسة الحب من لا يرغب في أن يصبح كسولا.
لن يصعب على المرء شيء في الحب.
اليد الواحدة تسبب وتداوي جراح الحب.
ما من علاج للحب القديم.
غضب الأحباء تجديد للحب.
الأحباء مجانين.
وهذه الأمثال اليونانية تدور حول الحب كذلك:
المشابهة أم الحب.
الحب يشفي الجرح الذي أحدثه.
من النظر يأتي الحب.
الحب لا يقهر في أية معركة.
لا حب حيث لا خمر.
وللإنجليز أمثال كثيرة عن الحب:
الموافقة أم الحب.
الحب والجوع يحكمان العالم.
من فكر في العاقبة لم يحب.
من أحب الشجرة أحب الفرع.
بعد الحب راحة.
من ناموا لأجل الحب، استيقظوا بسبب الجوع دون شك.
أما عن الحساء والحب، فأولهما أفضل.
من أحب كثيرا أخطأ كثيرا.
إذا ملئ الناجود (البرميل) بالحب سقط قاعه.
لا يفكر الحب في الشر، ولا يقول الحسد خيرا.
النار حب والماء غم.
الإتلاف أم الحب.
سيتسلل الحب إلى حيث لا يذهب.
لن يحب مطلقا من عرف متى ينهي حبه.
أقل الكلمات تقولها لأكثر من تحبهم.
للرجل الخيار في ابتداء الحب دون إنهائه.
من اعتور الحب قلبه لبس منخسا في عقبه.
الحب مليء بالخوف المشغول.
مثقال ذرة من الحب تساوي جنيها من القانون.
الحب يجعل العين السليمة حولاء.
أكثر الناس حبا أقلهم تقديرا.
يتأوه المحب كالأتون.
المحب عبد معشوقته.
وهاك بعض الأمثال البرتغالية:
الشيخ في الحب كالزهر في الشتاء.
أحبب من أحبك وزر من زارك.
من أحب كثيرا تألم كثيرا.
المرأة التي تحب اثنين تخدع كليهما.
وللهولنديين كذلك أمثالهم:
الحب الجديد نصف حب، أما الحب القديم فحب بارد.
من كتب رسائل الغرام نحل جسمه، ومن حملها سمن.
لن يثرى المحب حتى ولو أمطرت السماء ذهبا.
من يولم كثيرا لا يحب.
وإليك هذه الباقة من أمثال أمم مختلفة في موضوع الحب:
الحب الذي يستحي ورده، والذي يشحب لونه، مأساة للقلب. (مثل بلجيكي)
أكثر الناس حبا أقلهم كلاما. (مثل اسكتلندي)
الحب يأتي بعد الزواج. (مثل أيسلندي)
من ليس له أولاد لا يعرف الحب. (مثل إيطالي)
من الصعب إخفاء الحب والفقر. (مثل نرويجي)
الحب الأخوي في مقابل حب أخوي، ولكن الجبن في مقابل نقود. (مثل ألباني)
الخوف والحب لا يسيران معا. (مثل لتواني)
لا مستحيل في الأحلام والحب. (مثل هنغاري)
حب الأجنبي كظل الشوك. (مثل روماني)
الحب يبدأ من العينين. (مثل روسي)
كثرة الحب خطر داهم. (مثل روسي)
خير لك أن تحب من أن تحب. (مثل استوني)
حب الأب يبقى إلى القبر، وحب الأم خالد. (مثل استوني)
الحب والعمى توءمان. (مثل أوكراني)
الحب والخوف لا يخفيان. (مثل أوكراني)
حب المرأة شرك الشيطان. (مثل صربي)
الحب أسر لذيذ. (مثل سلوفاكي)
علاج الحب بعد المشقة. (مثل إسباني)
حب الفتاة ماء في سلة. (مثل إسباني)
لا خيار في الحب. (مثل إسباني)
من تزوج للحب عاش مهموما. (مثل إسباني)
من أحب خاف، ومن خاف لم يحب. (مثل كلتوني)
الحب القديم لا يصدأ. (مثل ليفوني)
القلب الذي يحب لا يزال شابا. (من أمثال الجبل الأسود)
وما أكثر الأمثال العربية والشرقية التي تتناول الحب وتعالجه كما يجب:
لا خيار في الحب.
الحياة لا تطاق بلا خيالات وأوهام، كالحب لو عرف أصله لصار كرها.
لا يحب محبة خالصة إلا العفيف الشجاع.
ربيع القلب ما اشتهى.
الهوى شديد العمى.
الهوى الإله المعبود .
الرأي نائم والهوى يقظان.
الحب أقوى غرائز الامتلاك.
حبيب جاء على فاقة.
لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا.
ليس في الحب مشورة.
من حب طب.
ما الحب إلا للحبيب الأول.
المحبوب مسبوب.
الهوى هو الهوان.
الهوى من النوى.
يوم من حبيب قليل.
أحب ابن عمي ولو يسفك دمي.
أحبك أستر عيوبك، أكرهك أكثر ذنوبك.
من واصله الحبيب هان عليه الرقيب.
ضرب الحبيب أوجع، والمعروف المبتدأ أوقع.
الحبيب لا يجازى بالبعاد، وما مضى من الزمان لا يعاد.
العين ترى والقلب يحب.
القلب يعشق قبل العين أحيانا.
الحب داء دونه البلاء.
خصام المحبين تجديد المحبة.
خذ من الحب ما يأخذ الزاهد من الخمر، ولكن لا تسكرن به أبدا.
للحبيب أن يتدلل، وعلى المحب أن يتذلل.
التذلل للحبيب من شيم الأريب.
اعص هواك وأطع من شئت.
أعقل الناس من عصى مراده ولم يعط الهوى قياده.
من كان لعنان هواه أملك، كان لطرق الإرشاد أسلك.
من أطاع هواه، أعطى عدوه مناه.
من قدم هواه دام أساه.
العقل عند الهوى أسير، والشوق عليهما أمير.
الهوى ثوب الضنى.
اتباع الهوى أوكد أسباب الردى.
سلطان من ملك الهوى فوق سلطان من ملك الدينا.
عين الهوى لا تصدق.
غضب العشاق كمطر الربيع.
الباب السابع
قصة الحب الخالد
بقلم المؤلف
كانت «سيكي» فتاة في ميعة الصبا ونضارة الشباب يزينها جمال فاتن وطلعة مشرقة بهية، قد أثمر صدرها ثمر الشباب، وأثمر خدها التفاح الوردي، وصدرها الرمان الجاثم. لحظاتها فتاكة وقسماتها رائعة، لها وجه تأخذه العين ويقبل عليه القلب، ترتاح له الروح، وتكاد القلوب تأكله والعيون تنهشه. صورته تجلو الأبصار وتخجل الأقمار، كأنه إشراقة الصبح أو صفحة البدر. فتعلقت بجمالها عيون الشباب الولهان كلما أقبلت أو أدبرت، وبحت في طلب يدها حناجر الرجال. كل يريد أن يستأثر لنفسه بروضة الحسن وربة الفتنة والدلال. فحيثما ذهبت تجر وراءها جيشا من العشاق المتيمين، وأينما وجدت تتطلع إليها آلاف العيون وتجرح بسهام لحاظها مئات القلوب. فأذكى هذا نيران الغيرة في قلب «فينوس» ربة الحب، فغلى مرجل الحقد في صدرها وألهب فؤادها؛ فأضمرت السوء ل «سيكي» وصممت في نفسها أمرا.
استدعت «فينوس» ابنها «كيوبيد» وأمرته أن يوقع «سيكي» في حب رخيص مع أحقر الرجال وأوضعهم شأنا. بيد أن «كيوبيد» لما رأى «سيكي» هاله أن يرى مطلع الشمس من وجهها ومنبت الدر من فيها وملقط الورد من خدها، ومنبع السحر من طرفها، ودجى الليل من شعرها، ومغرس الغصن من قدمها، ومهيل الرمل من ردفها. فاشتعل قلبه بحبها وهامت نفسه بها، واخترقت لحاظها فؤاده؛ فأصبح أسير هواها وعبد غرامها، وأحس بشوق جارف يسري بين أحنائه ويدفعه إلى التقرب منها والتحدث إليها.
وهكذا وقع «كيوبيد» في غرام «سيكي»، فأحبها حبا عنيفا تحكم في نفسه، وملأ عليه يقظته وأحلامه. فكان يزورها ليلا متخذا من الظلام ستارا يحجبه عن أعين الفضوليين الحاسدين، وعن عيني «سيكي» نفسها، ولا يبرح مخدعها إلا إذا شق الفجر بخنجره الفضي حجاب الظلام، ولاحت في الأفق تباشير الصباح.
لم يعلم أحد بهذا الحب المستتر والغرام السري، غير أخوات «سيكي»، فضايقهن ما تتمتع به شقيقتهن من نعيم وهناء وحسدنها على حبيبها الذي يترقرق ماء الحسن من وجهه، وينبعث السحر من لحاظه، والشهد من ألفاظه.
حسدا حملنه من أجلها
وقديما كان في الناس الحسد
فاجتمعن وتباحثن في أمرها، وأخيرا بعد أخذ ورد، قر قرارهن على الكيد لها والإيقاع بها، وتآمرن على سلبها حبيبها أو تنفيره منها بمختلف الطرق وشتى الوسائل، فدبرن لها أمرا.
تظاهرت الأخوات الماكرات بحب شقيقتهن المعشوقة، وأعملن جهدهن في التودد إليها والتقرب منها حتى مالت إليهن واطمأن قلبها لهن، وتوطدت بينهن أواصر المحبة الأخوية من جديد. وذات صباح، أخذت الأخوات يحدثن «سيكي» عن حبيبها المجهول، وينفرنها منه، ويصفنه بأخس الصفات، حتى أوهموها وأدخلوا في روعها أنها تضطجع مع وحش كاسر غليظ الوجه، قبيح الملامح دميم الخلقة، شرس الطباع، تعافه النفس وتشمئز منه العين.
أثرت هذه الكلمات والأقوال في «سيكي» المسكينة، وأثارت فضولها. فلما أقبل الليل ونشر زنجي الظلام أجنحته القاتمة على الكون، أويت إلى خدرها وقد وطدت العزم على استجلاء الحقيقة.
وقبل أن يجر الظلام أذياله، ويمسح النهار وجه الفجر، ويهجر «كيوبيد» مخدع معشوقته، تسللت «سيكي» في حذر من بين أحضان «كيوبيد» النائم، وأحضرت السراج قريبا من المخدع وأشعلته في هدوء. فما إن وقع بصرها على وجه حبيبها حتى صعقها جماله الخارق وأذهلها بهاؤه الفذ، فاهتز المصباح في يدها وسقط زيته الساخن على جسد «كيوبيد»، فهب من نومه مذعورا وقد أفزعته محاولة «سيكي»، وآلمه شكها وريبتها في شخصه، وأغضبها فضولها النسوي، فاشتد حنقه عليها وأقسم بأغلظ الأيمان ليهجرنها بلا عودة، وليقطعن صلته بها أبد الدهر.
وهكذا راحت «سيكي» تلوم نفسها وتبكي بكاء مرا، وتندب حظها العاثر. وهامت على وجهها تبحث عن حبيبها في كل مكان وقد برح بها الهوى، وأضناها الجوى، وألم بها اليأس، وغزا قلبها القنوط.
وأخيرا انتهى ب «سيكي» المطاف إلى قصر «فينوس» غريمتها الخفية، فرقص قلب هذه طربا إذ أسلمت لها نفسها ذليلة حقيرة معذبة، فاحتجزتها عندها وسخرتها في أعمال يئن من عبئها الشجعان، ويكل من القيام بها أقوى الفرسان. ولولا معونة «كيوبيد» السرية، لأودى الجهد والتعب بحياة «سيكي» الغالية.
إذن لقد دفعت «سيكي» ثمن فضولها فراقا مفعما بشتى ألوان العذاب المرير، كلفها هناءتها وسعادتها، فلم تتحمل المسكينة هول الصدمة طويلا، وضاقت ذرعا بالحياة وقد خلت من عشيقها الجميل؛ فلازمتها الأفكار المظلمة والهواجس السوداء، وحاولت الانتحار مرارا.
برئ «كيوبيد» من جرحه، فعاد الشوق إلى محبوبته يسري بين جنباته، وشعر بحنين جارف إلى لقائها، فلم يدخر جهدا في البحث عنها بدوره إلى أن عثر عليها آخر الأمر فاقدة الحركة والوعي في الطريق، وبالقرب منها صندوق مفتوح اتضح فيما بعد أن «فينوس» كانت تضع فيه النوم، وطلبت من «سيكي» التعسة أن تحمله إلى إحدى صديقاتها، فدفعها فضولها إلى فتح الصندوق لمعرفة ما بداخله، فخيم عليها سلطان النوم وهي في الطريق.
لم يفطن «كيوبيد» إلى حقيقة الأمر بادئ ذي بدء، وظن أن روح «سيكي» قد صعدت إلى باريها، فعز عليه أن يلقى حبيبته جثة هامدة وصعيدا جرزا، فجثا بالقرب منها يناجيها مناجاة حارة، تأخذ بمجامع الأفئدة وتقطع نياط القلوب وتفتت الأكباد، قائلا: أي «سيكي»! «سيكي»! ماذا حدث يا حبيبة القلب؟ وما دهاك يا نور عيني؟ أين ظلك لأتوارى تحت جناحيه من عسف الفراق الذي ألم بي وبرح بجسمي؟ لقد وهبت نفسك وضحيت بها فداء لشخصي، فكنت خير مثال للنبل وكرم السجايا وحميد الخصال.
إيه يا نقاء قلبي وشمس يومي، ما لي أراك اليوم تسطرين صفحة التضحية بذلك المداد السرمدي؛ مداد قلبك الذي لا يزول ولن يزول.
إلهي! أهكذا يحكم علي بالوحدة بعيدا عن «سيكي»؟ أهكذا يقسو علي الدهر ويعمل على عنادي؟
إلهي! أي ذنب جنيت، وأي جرم اقترفت حتى أعاقب هذا العقاب الصارم؟ فتحول بيني وبين من سعدت بجيرتها، وأمنت بقربها، وتمتعت برؤية جمالها.
أي «سيكي»! لقد مت فماتت معك آمالي وأحلامي، وستقبرين فتقبرين قلبي وحياتي.
تواريت عن هذه الحياة، فانزوت أفراحي، وانهمرت دموعي مدرارا، وازورت ابتساماتي.
إذن لقد ماتت من علمتني الجمال بجمالها الفتان، وأرتني خفايا الحب بثغرها البسام وطرفها الوسنان، ولقنتني معنى الحياة فأزهقت الحياة روحها .. ولكن:
ما حيلة العبد والأقدار جارية
الحب يوهب والأيام تنتهب «سيكي»! «سيكي»!
ما كنت أحسب قبل اليوم أن لدى
نصف النهار ضياء الشمس يحتجب
حياتك يا «سيكي» حياة قصيرة، ابتدأت بنهاية الليل وانقضت بانقضاء النهار، فكانت قطرة الندى التي سكبتها أجفان الظلام ثم جففها ملمس النور. كلمة لفظتها النواميس الأزلية ثم ندمت عليها فأعادتها إلى سكينة أبدية.
لؤلؤة قذف بها المد إلى الشاطئ، فجرفها الجزر إلى الأعماق.
زنبقة انبعثت من أكمام الحياة فسحقتها أقدام الموت.
فوق قبرك يا «سيكي» سوف ترفرف روحي كل ليلة مستأنسة بالذكرى، مرددة مع أشباح الوحشة نعي الحزن والأسى، نائحة مع الغصون على حبيبة كانت الأمس نغمة شجية بين شفتي الحياة، فأصبحت اليوم سرا صامتا في الأرض. «سيكي»! هل من الفجر انبعثت فأفلت؟ أم من الشمس هبطت فمت؟ «سيكي»! ما بالك لا ترقين لحالي ولا تجيبين على سؤالي؟
تسكن الريح وتبقى
باشتياق صاغية
وأناديك ولكن
أنت عني قاصية «سيكي»! لن أعرف معنى الحياة بعد موتك، ولن تبصر عيني نورا بعد فقدك، فتصبح حياتي كوفاتي، وسري كإعلاني، ونهاري كليلي. فما كنت أحيا إلا بوحي حبك، وبحرارة أنفاسك.
إلهي! تبا لهذا الدهر الخائن الغدار الذي انتزع من بين يدي وانتشل من سويداء قلبي، تلك التي فتنتني بجمالها، وبهرتني بحميد خصالها. فكنت أرى في عينيها جمال الطبيعة، فلا أرى في عينها الآن إلا بؤس الشقاء وذبول الموت، وكنت أسمع بأذنيها نغمة الحياة وألحان الطير فما عدت أسمع بهما غير عويل وأنات. ما أحلى ذكرى تلك الأيام؛ أيام حبك يا «سيكي»! وما أمر ذكرى ما هو آت! وما أكثر ما ينتظرني من آلام وأسقام!
حقا ما عرفت الحزن إلا بعد موتك، وما أدركني اليأس إلا بعد فقدك.
رباه! ما أقسى الحياة بدونها، وما أشقى نفسي بعدها! وما أتعس الوجود بعد فقدها! ولئن سقيت رمسك بغيث دمعي، وأرويت مثواك بسفك دمي، ما سكن قلبي ولا ارتاحت نفسي إلا بعد أن يضمني تابوتك، وتشملني ظلمة قبرك. ومن لا تلدغه أفاعي الأيام، يظل مغرورا بالأيام والليالي.
وهنا سكت «كيوبيد» عن الكلام وقد استبد به الحزن واغرورقت عيناه بالدموع، ثم ما لبث أن انقض على خديها يمطرهما وابلا من القبلات الحارة، فبلل خديها بدموع عينيه، ثم اختلط عليه الأمر، فأخذ يهذي هذيان المحموم، ويدور حول جثتها كالمجنون، ينظر إليها تارة، ويجيل الطرف فيما حولها تارة أخرى. وفجأة تسمر بصره على ذلك الصندوق اللعين، صندوق النوم، صندوق أمه، فأدرك على الفور جلية الأمر، وعرف أن «سيكي» تغط في نوم عميق أشبه بسبات الموت، فانكب على النوم يجمعه من حولها وأحكم عليه الصندوق. وعندئذ دبت الحياة في «سيكي»، واستيقظت من رقدتها وفوجئت بطلعة «كيوبيد» النيرة تملأ نور عينيها، فصاحت من فرط فرحتها، وارتمت في أحضانه تواقة مشتاقة، وسرعان ما تجاذبا أطراف الحديث، والحديث ذو شجون:
كيوبيد :
غني يا حبيبتي وأنشدي، أسمعيني صوتك العذب الحنون، وأطربيني بصوتك الذي ينساب خلال نفسي في رقة وليونة تفوقان رقة مياه الغدير من فوق ربوة عالية.
رنمي يا حبيبتي وغني؛ فإن لصوتك في نفسي وقعا يفوق وقع القوس على الكمان. رنمي لنفسي الشقية، ولقلبي الحزين المتيم في هواك؛ فقد ألفت البؤس والشقاء، وتحالفت مع الكمد والكآبة، وكل ذلك من أجلك يا «سيكي».
أرسلي نور الحياة إلى نفسي الذابلة الذليلة؛ لتمحو ظلمات عذابي وتبدد غيوم أحزاني. لست أدري يا مهجة قلبي، أأنت بشر مثلي أم ملاك آس لجراح النفس البشرية.
خذيني يا عذرائي النقية إلى الروحانية بين الملائكة والنور، وانقليني من عالم الشرور والفجور؛ فقد بلغت الروح الحلقوم.
اذكريني يا «سيكي»، ورددي اسم محب حائر قد هزه الشوق وأضناه الغرام.
سيكي :
أذكرك محبا تهذب برفيع الهوى، وما ضاع لك الحب إلا بكأس النوى. أذكرك راهبا قدس الجمال في ساحة هواي وعلى أعتابه صلى وصام.
كفكف دمعي، وهدئ ثورتي، وأرسل ما يريح النفس أو يشفي الهيام، رتل يا سلوتي؛ ففي القلب لوعة وفي الصدر نار ولهيب، وبين الضلوع أسى وأنين، وفي العين دمع يسيل.
غن يا «كيوبيد»، غن يا حبيبي، وابعث بروحك الرحيمة إلى روحي؛ فقد بدت علي علامات الاحتضار.
أي «كيوبيد»، أي قمري الساطع، يا من حولت صفحة قلبي القائمة إلى صفحة بيضاء متلألئة، يا شمس حياتي، والأمل الذي أستمد منه النور. أحيني بأشعتك وحرارتك، إنك عندي كل شيء، وفوق كل شيء. أنت بهجتي، أنت راحتي، أنت مصدر أحلامي ونعيم دنياي.
كيوبيد : «سيكي»، أحبك حب أمي التي ولدتني، وأقدسك كما أقدس الرسل، وأنزلك من قلبي منزلة الإله الأكبر. أعبدك .. قتلني الحب من أجلك، وربي شهيد على آلامي التي احتملتها في سبيلك، وليس على قلبي ألذ منها ولا أشهى.
سيكي :
آه، عزاء لك يا نفسي، عزاء لك يا دموعي، ما بالك تبكي يا «كيوبيد»! ماذا دهاك يا صفائي؟ حتى هطلت مدامعك على خديك، فارتوت مراتع حبنا وزال عنها الجدب.
كيوبيد :
كفاك يا حبيبتي، فالبكاء يدمي العيون، ولا يأتي بالعون. فكم بكينا وشكونا، فلم يحن لبكائنا دهر، ولم يستمع لشكاتنا قدر خئون.
سيكي :
إلهي، اشملنا بعطفك، وارعنا برحمتك، فأنت أرحم الراحمين!
كيوبيد :
كيف تحلو الحياة بدونك يا «سيكي»؟ وكيف أعرف للأمل معنى من غير وجودك معي؟
سيكي :
قد قست القلوب علينا، وخلت النفوس من العدل والرحمة، وطغت بالظلم والحقد، وحالوا بيني وبينك، ومنعوا فؤادي من حب حظيت به مترعا، ولو علموا أنه نسمة الحياة التي تحمل أسمى معاني الوجود، لما ضنوا بذلك.
كيوبيد :
رباه، أي ذنب جنيناه، وأي جرم ارتكبناه، حتى يضطهدنا العالم ويطاردنا وحوش البشر؟ خدعوك يا «سيكي» ليفرقوا بيننا؛ فضحكوا لآلامنا وكادوا يقتلون الحب فينا، ولكن لا تخافي، فإن قلبي قوي متين.
سيكي :
ماذا أرى في هذا العالم؟ لا أرى أثرا للنور بل ظلاما، أرى الحقد يتفشى وينتشر، والعدل يخبو ويزول.
كيوبيد :
صلي يا «سيكي»؛ فإن الرب سيحقق لنا الرجاء، ما دامت صفحاتنا في الحب بيضاء.
نامعلوم صفحہ