وأنت تسليني عن هذا كله، وتقوم في نفسي وقلبي مقام هذا كله، فأنا أظهر لك نفسي كما هي وقلبي كما هو، ولعلي أتبسط إلى أبعد من هذا فأجلس إليك في لبسة المتفضل، لا متحرجة ولا متأنفة، ولا متكلفة شيئا يتصل بالزي أو بترتيب الهندام. إنما هي الحرية المطلقة، حرية النفس وحرية الجسم، أصطنعها متى أغلقت الباب من ورائي وجلست إليك. وأنا أجد في هذا راحة وطمأنينة، ولكني أجد في هذا شيئا يسيرا خفيا من قلق يتردد في ضميري بين حين وحين.
فماذا تقول أمي؟ وماذا يقول أبي؟ وفيم يفكران لو أنهما قرآ هذه الأحاديث التي أسرها إليك؟ هذه مشكلة جديدة لا بد من أن أجتهد في حلها. فلم يكن لي على أبوي سر أو كنت أحتفظ بسري، وبما يخطر لي من السخف في هذا الضمير الذي لا يظهر عليه الآباء والأمهات، ولكني الآن أجهر بهذه السخافات وألقيها إليك. وأنت تستطيع أن تضمن لها البقاء ما تركت آمنا محفوظا من العاديات، ولكنك لا تستطيع أن تؤمن نفسك من أن تمتد إليك الأيدي وتجري على صفحاتك العيون.
أنت حافظ للسر ولكنك لا تستطيع له كتمانا، فلا بد من أن أعينك على هذا الكتمان، ولا بد من أن أخفيك وأبالغ في إخفائك على الناس جميعا، وعلى أبوي بنوع خاص وعلى أخي هذا العفريت المارد بنوع أخص. وما كان أغناني عن هذا الجهد الجديد، ولكن لا بد مما ليس منه بد.
3
ولكني أبثك هذه الأحاديث، وأنت لا تعرف من أمري شيئا. ألست ترى أن هذا غريب؟ إني لا أفضي بأيسر أمري إلى أحد حتى أعرفه وحتى يعرفني، فكيف بي أظهر لك نفسي كما هي؟ ولم أعرفك إلا أمس، وأنت لا تعرف من أمري شيئا. إني لغافلة ذاهلة حين أتصور فيك العقل والشعور والمعرفة، وحين أتحدث إليك كما أتحدث إلى الناس، ولكني مضطرة إلى ذلك مكرهة عليه، لا أستطيع أن أرى فيك إلا صديقا، وإلا صديقا يسمع لي ويفهم عني؛ لأني في حاجة إلى هذا الصديق، وإن كنت لا أدري مصدر هذه الحاجة، ولولا ذلك لما اشتريتك، ولما اتخذتك أمينا على السر وحفيظا على نجوى الضمير.
ولست أرى بذلك بأسا، وقد قرأت في بعض الكتب أن بعض بلاد الشرق كانت تشتري الرقيق من الصبية فتنميهم وتربيهم وتؤدبهم وتدربهم، ثم تتخذهم لها قادة وملوكا. وما أنا في حاجة إلى أن أنميك أو أربيك أو أؤدبك أو أدربك لأتخذك لي صديقا. فأنت تكفيني كما أنت، وأنت بعد هذا كله تعينني على أن أنمي نفسي وأربيها، وعلى أن أؤدب نفسي وأدربها، وعلى أن أعرف نفسي حين أعرفها لك، وأقدمها إليك.
فأنت صديقي، وأنت نجيي، ولا بد للصديق من أن يعرف صديقه، ولا بد للنجي من أن يعرف نجيه. فاعرفني إذن. وإني مقدمة إليك نفسي كما عرفتها بل كما جهلتها؛ لأني سأظهرك عليها باحثة عنها، ملتمسة تعليل كثير مما صدر عنها من عمل وتفكير لم أفهمه حين صدر عنها، ولكني أظن أني سأفهمه الآن بعد التفكير والروية.
اعرفني إذن لأني سأقص نفسي عليك ولأنك ستصاحبني منذ اليوم، وستتلقى أسراري وستحاسبني أو ستعينني على أن أحاسب نفسي عن كل ما أعمل، وعن كل ما أجد.
أليس من الغريب أنك لا تعرف اسمي إلى الآن؟! فليكن هذا أول ما تعرف من أمري، فأنا فتاة سأبلغ العشرين بعد أيام، تسميها أسرتها لين، ويسميها الناس مدلين مورل.
وما أنا متحدثة إليك بتاريخي البعيد، فقد استعرضت ما أذكره منه في أثناء النهار فلم أجد فيه غناء، وأشفقت أن أقصه عليك فتسخر مني وتضيق بي؛ لأنه تاريخ الألوف من الفتيات الفرنسيات اللاتي ينشأن في الطبقات الوسطى من أهل الريف الفرنسي. ولكن يحسن أن تعلم أن الحرب الكبرى قد أدركتني حين كدت أتم الرابعة عشرة من عمري، وقد كنت تلميذة تتهيأ للشهادة الثانوية، جادة في الدرس مشغوفة بالعلم دائبة على التحصيل، أتمت عامها الدراسي وظفرت بجوائز كثيرة ممتازة، وعادت إلى أهلها في قريتهم هذه في عطف من أعطاف الجبل في السفوا، سعيدة راضية عن عامها مستبشرة مغتبطة بما ستنعم به من الراحة والسياحة وألوان الرياضة مع إخوتها الثلاثة، وأترابها الكثيرات أثناء الصيف.
نامعلوم صفحہ