ثم أبحث في سيرتي فلا أنكر شيئا، وأبحث في دخيلة نفسي فلا أنكر شيئا، وألتمس مع ذلك شيئا أنكره لأعترف به أمام القسيس فلا أجد ما أنكر، فأخترع الخطايا اختراعا وألقيها إلى القسيس متكلفة غالية في التكلف. فيقبل القسيس مني حينا ويرفض حينا آخر، حتى انتهى به الأمر ذات يوم إلى أن كلفني أن أعترف له بكل ما أثقلت به نفسي من هذه الأكاذيب والأباطيل، ونبهني إلى أن الكذب عليه كذب على الله، وإلى أن هذه الخطيئة الساذجة في ظاهر الأمر قد تستحيل إلى خطيئة مهلكة؛ لأنها تعودني الكذب وتغريني بالتكلف، وتدفعني إلى النفاق، وتنشئ بيني وبين الآثام صلات قد تنتهي بي إلى الشر.
فأقلعت منذ ذلك اليوم عن انتحال الخطايا وتكلف الآثام للقسيس، ولكنني ألاحظ الآن أني قد جلست إلى هذا الدفتر لأنتحل الأحاديث وأتكلف الأسرار وما في نفسي من حديث وما لضميري من سر. وما أدري أيهما خير؟ أن تظل نفسي نقية كهذه الصحف النقية، وأن أخلو إلى هذا الدفتر ساعة في كل يوم، فأنظر في صحفه النقية الصافية لأرى فيها نفسي نقية صافية، أم أن تزدحم نفسي بالأحاديث والأسرار فلا أخلو إلى هذه الصحف إلا ألقيت عليها من سواد نفسي ما يمحو صفاءها، ويزيل نقاءها، ويجعلها مرآة مظلمة لنفس مظلمة؟
أما قبل أن أسمع حديث صديقاتي عن الدفاتر والأسرار، فقد كنت أوثر الأولى، وأما منذ سمعت أحاديثهن وكلفت بمثل ما كلفن به، فإني لا أدري أي الأمرين أحب إلي. بل أنا أدري أيهما أحب إلي. فهذه صحف من هذا الدفتر كانت نقية صافية منذ حين قد جرى عليها هذا القلم فصيرها إلى هذا السواد الذي لا يغني، وجعلها مرآة سوداء لنفس يشوبها الاضطراب، ويشيع فيها القلق، فيخرجها عما ألفت من صفاء ونقاء.
2
ويحك أيها الدفتر العزيز! ويحي منك! لقد شغلتني يومي كله، فلم أكد أفكر إلا فيك منذ أصبحت إلى أن أمسيت، ولقد كانت تشغلني عنك الحوادث الطارئة والأحاديث العارضة، بيني وبين أسرتي أو بيني وبين بعض أترابي، ولكني لم أكن ألبث أن أعود إليك، فأذكرك ثم أراك، ثم أتمثلك مبسوطا بين يدي، ثم أسأل نفسي عما يمكن أن ألقي إليك من سر، أو أفضي به إليك من حديث.
وما أكثر ما خطر لي من الخواطر، وما أكثر ما عرض لي من المعاني، وما أكثر ما ثار في قلبي من العواطف، وما أكثر ما استبان لنفسي من الرأي! ولكني ضقت بهذا كله آخر الأمر، ورأيت أنك ستصبح لي شغلا شاغلا وعلة ملحة، وأشفقت أن تفسد علي حياة صالحة جرت إلى الآن على خير ما تجري عليه حياة أمثالي من الفتيات؛ فأزمعت الإعراض عنك، والتنكر لك، والاشتغال بما كنت أشتغل به قبل أن أعرفك من عمل ورياضة في النهار، ومن حديث وقراءة في الليل.
ثم أخذت في بعض ما كنت آخذ فيه، ولكني رددت إليك ردا، وأكرهت على التفكير فيك، ثم التحدث إليك إكراها. وهأنا هذه أجلس إليك بعد أن هدأ كل شيء، وثاب كل فرد من أفراد الأسرة إلى غرفته، فخلت الدار منا ونحن مع ذلك نملؤها ونعمرها، ونشيع فيها حياة تسكن الآن لتنشط إذا أسفر الصبح.
هأنا هذه أجلس إليك بعد أن هدأ كل شيء، ولعلي تعجلت هذا الهدوء فيما ظهر من أمري، وما أشك في أني تعجلته فيما كنت أخفي من حديث النفس ونجوى الضمير. وأنا كما كنت أحدثك أمس ألتمس تعليل هذا وتأويله، فيروعني ما ينتهي إليه بحثي من التعليل والتأويل، فقد يخيل إلي أن قلبي فارغ يريد أن يمتلئ، وأن نفسي ساكنة كسلة تريد أن تنشط وتعمل، وأن ملكاتي كلها معطلة يؤذيها هذا التعطيل، فهي تلتمس لنفسها منه مخرجا، ولا تجده إلا في معرفة جديدة لصديق جديد.
وأنا أعلم أبواب النشاط أمامي مفتحة، لو شئت، فأنا أستطيع أن أشارك في أعمال البيت، وأنا أستطيع أن أشارك في الرياضة، وأنا أستطيع أن أقرأ وأن أزور وأستزير، وآخذ في ألوان مختلفة من الحديث.
ولكني منصرفة عن هذا كله، وانصرافي عنه يشتد من حين إلى حين. وأنا أحس شوقا إلى شيء جديد ألمحه، ولا أتبينه؛ تحسه أعماق نفسي وضمير قلبي، ولكنه لا يستبين لعقلي ولا ينجلي لرأيي. فأنا حائرة دون أن أعرف مصدر هذه الحيرة، هائمة دون أن أعرف موضوع هذا الهيام، مشوقة دون أن أتبين غاية هذا الشوق.
نامعلوم صفحہ