ولست أدري أتذكر ذلك المنظر الرائع الذي يصور فيه راسين ثورة الملكة وغضبها وانصرافها عن القيصر الإمبراطور بعد أن استيأست منه ومن حبه، وهي تعلن إليه أنها تفارقه لتلقى الموت. فقد أعادت بيرينيس هذا المنظر نفسه في دار الموتى، وأعلنت إلى تيتوس مثل ما أعلنت إليه في روما، وارتاع قيصر له كما ارتاع في الحياة الأولى، لولا أن قهقهة عالية ردت العاشقين إلى صوابهما بعض الشيء، سمعاها فالتفتا فإذا فيلسوف أديب كان يسمع لهما ويعجب بهما، وليس يدري صاحبي من أمر هذا الفيلسوف إلا أنه فرنسي محدث عاش بعد قصة راسين. وقد دهش العاشقان، لمكانه منهما ودهشا لضحكه المتصل وقهقهته المستمرة، ونظرا إليه في شيء من الوجوم، ولكنه قال للملكة وهو يمضي في ضحكه: بم تنذرينه يا مولاتي؟ أتنذرينه بالموت فإنك ميتة، أم تنذرينه بالحياة! فكيف السبيل لك إلى استئناف الحياة؟
هنالك سقط في أيدي العاشقين، ولكن الفيلسوف لم يمهلهما ولم يخل بينهما وبين التفكير، وإنما مضى في حديثه وضحكه معا وهو يقول: «ولن تستطيعي يا مولاتي أن تهجريه ولا أن تطيلي الإعراض عنه؛ فقد اتصلت أسباب الحب بينكما في الحياة الأولى، واستقبلتما هذه الحياة الثانية عاشقين، فستظلان على ما كنتما عليه إلى آخر الدهر إن كان لدهر الموتى آخر. ستلتقيان فتختصمان حينا ويصفو كلاكما لصاحبه حينا آخر، ولن ينفعكما ولن يضركما ما يختلف على الأحياء من الأحداث والخطوب.
فالأحياء وحدهم هم الذين يتطورون ويتغيرون، فأما نحن فقد قضي علينا ألا نتطور ولا نتغير؛ لأننا استنفدنا حظنا من التطور والتغير قبل أن نصل إلى هذه الدار. ولو أني ملكت أمور الأموات والأحياء لقطعت الصلة بيننا وبين أهل الدنيا قطعا. فما أكثر ما نعلم من أخبارهم فنحزن حين لا ينفع الحزن، ونفرح حين لا يغني الفرح. ما أكثر ما أعلم من أخبار الفلاسفة والأدباء، فأفرح لأنهم بلغوا ما لم أبلغ واستحدثوا ما لم أحدث واستكشفوا ما لم أستكشف. وأحزن لأني عاجز عن أن أشارك فيما يشاركون فيه وآتي بعض ما يأتون، وأضيف إلى بعض ما يستحدثون.
حقا لست أدري كيف السبيل إلى ما نحن في حاجة إليه من الراحة التي لن نظفر بها ما دامت أخبار الأرض تهبط إلينا أو تصعد، فلست أدري أين نحن بالقياس إلى الأرض؛ أمرتفعون في مكان شاهق، أم منخفضون في مكان سحيق؟ ومع ذلك فما يحزنك يا مولاتي. لقد كنت تبتغين حب قيصر، فقد ظفرت به في الحياة، وقد ظفرت به بعد الموت، فرق الدهر بينكما عامين ثم جمعكما الموت إلى الأبد.
أفتعلمين ما خطب العاشقين الذين جمعت الحياة بينهما الآن؟ أواثقة أنت بأنهما سعيدان بهذا الحب؟ أمطمئنة أنت إلى أن حياتهما لن تتعرض لسأم ولا ندم ولا اختلاف ولا افتراق؟ كلا يا سيدتي، انتظري وتمهلي ولا تغاضبي صديقك ولا تتنكري له، حتى إذا أقبل هذان العاشقان بعد حياة طويلة ورأيتهما هنا ينعمان بمثل ما تنعمان به من الحب، ويسعدان بمثل ما تسعدان به من الود، فهنالك وهناك فحسب، تستطيعين أن تغبطيهما وتحسديهما. وهنالك، وهنالك فحسب، تستطيعين أن تظني أنهما كانا أحسن منكما حظا. ومع ذلك فلم لا تقدرين أن ظفر هذه السيدة بما لم تظفري به وانتصارها على قلب صاحبها واستئثارها به من دون العرش، إنما هو انتصار لك وأخذ بثأرك من الرجل الذي غالبك فغلبك، وطاولك فكان له عليك الطول.
لم تفكرين في نفسك وحدك، وفي خليلك وحده، ولا تفكرين في نفسك على أنك رمز للمرأة، وفي خليلك على أنه رمز للرجل. فكري على هذا النحو يا مولاتي يهن عليك الخطب ويسهل عليك الأمر، ويكن ظفر هذه السيدة المحدثة ظفرا لك أنت، وانتصارها انتصارا لك أنت، ويتحول حزنك سرورا وغضبك رضا. فكري على هذا النحو تري أن هذه السيدة إنما ثأرت لك ولم تستأثر دونك بالانتصار. ثم فكري آخر الأمر في أن انتصار هذه السيدة في عرف الأحياء لا يتم حتى يسجله التاريخ ويتناوله الأدب شعرا ونثرا، فيصوغه المؤرخون كما صاغ المؤرخ الروماني قصتكما في هذه الجملة القصيرة الرائعة، ويصوغه الأدباء كما صاغه راسين في آيته البيانية الخالدة، وكما صاغه كورني في قصته البائسة التعسة. ويختلف الناس في أمر الأدباء الذين يصوغونه كما اختلفوا في أمر الشاعرين الفرنسيين، ويتناقل الناس شعر الأدباء فيهما فيدرسونه في المدارس ويعرضونه في الملاعب كما يدرسون قصة راسين، وكما يعرضونها على النظارة مرات في كل عام وفي جميع أقطار الأرض، وبلغات مختلفة وعلى أنحاء متباينة.
إن خلودكما يا سيدتي محقق واقع، ضمنه التاريخ، وضمنه الشعر، وضمنه الأدب عامة، وأصبح جزءا من تراث الإنسانية، فانعمي بذلك واطمئني إليه ولا تغضبي ولا تثوري إلا يوم ترين البطلين الجديدين قد ظفرا بمثل ما ظفرتما به من الخلود.» قالت بيرينيس، وقد سكت عنها الغضب، وثابت إليها دعابتها القديمة، فتضاحكت متهالكة. قالت: «فكم من الأعوام تريد أن أنتظر؟» قال الأديب الفيلسوف: «بل كم من القرون يا سيدتي، فقد مثلت قصة راسين بعد أن حدثت لكما الحادثة بأكثر من ستة عشر قرنا.» قالت بيرينيس: فتريدني على أن أصبر على هذا الإثم ستة عشر قرنا؟ قال تيتوس القيصر الإمبراطور: وأين تقع ستة عشر قرنا من الأبد الذي لا يفنى؟
ثم أقبل نحو صاحبته مبتسما وتلقته صاحبته مبتسمة مبتهجة، وقد عفت عنه وأسمحت له، وشملهما الفيلسوف الأديب بنظرة ساخرة يملؤها الإشفاق والحنان وهو يقول: «حقا إن الإنسان لسخيف حيا وميتا.»
قلت لصاحبي: ما أظن فيلسوفك هذا إلا فولتير أو أناتول فرانس.
الخيال الطارق
نامعلوم صفحہ