وما خطر لي قط أن ذلك قد يتعرض لريبة، أو يدعو إلى شبهة، أو يثير بين الصديقين عاطفة سوء، وما لاحظت قط في حياة مكسيم أو حياة لورنس شيئا جديدا يدعو إلى التفكير، أو يثير في نفسي من سوء الظن قليلا أو كثيرا. ولكني صدمت بذلك فجأة وعلى غير تقدير. وما أدري كيف احتملت الصدمة؟ وما أدري كيف ثبت لها؟ وما أدري كيف أخفيت آثارها في نفسي على الناس جميعا وعلى مكسيم قبل الناس جميعا؟
لا تسخر مني، أيها الدفتر العزيز، حين أثني على نفسي، وحين أحمد هذه الشجاعة النادرة التي تلقيت بها هذا الخطب العظيم؛ فقد تلقيت النبأ فانحطم له قلبي، واندكت له آمالي كلها، ومع ذلك لم أظهر من هذا شيئا. تلقيت النبأ وكان ابني هذا العزيز البريء، هو الذي حمله إلي في بعض عبثه. ولست أدري كيف انسل إلى مكتب أبيه، ولست أدري كيف خلص إلى بعض ما كان فيه من أوراق، ولست أدري كيف استخلص منها هذا الكتاب الذي حمله إلي فرحا مبتهجا، وظافرا منتصرا، كأنه الجندي يحمل بعض الأسلاب إلى قائده مبتهجا فخورا.
13
تلقيت الكتاب من يد بيير مبتسمة مشفقة، مبتسمة لعبث الصبي ومرحه ودعابته، ومشفقة أن يكون لهذه الصحف التي يحملها إلي بعض الخطر، وأن يكون قد أفسد النظام في مكتب أبيه، وهو حريص أشد الحرص على أن يكون النظام في مكتبه دقيقا، وعلى أن تترك الأشياء فيه كما وضعها هو، لا يحول منها شيء عن موضعه، يغلو في هذا الحرص حتى يوشك أن يكون علة من علل نفسه، وحتى يؤذيه أن يدخل أحد مكتبه في غيبته أو يمس منه شيئا.
ولقد هممت غير مرة أن أرتب له مكتبه على نحو كنت أراه ملائما جميلا، فردني عن ذلك ردا لم يخل من عنف، ولعله ترك في نفسي آثارا لم أكن أحبها حتى انتهى الأمر بيننا إلى اتفاق صامت على أن كل ما في البيت طوع يدي ورهن أمري أناله بما شئت من تغيير وتبديل إلا هذه الغرفة، فإنها حرام ما ينبغي لي أن أمسها، أو أن أغير من نظامها شيئا، فلما وقعت في يدي هذه الصحف تلقيتها مشفقة مذعورة، ثم نظرت فيها فرأيت، ويا هول ما رأيت! وكنت خليقة أن أفقد الصواب، وأن أخرج عن طور الرشد، وكنت خليقة أن أجد الدوار وأن أسفح الدمع، وكنت خليقة أن أتعرض لأزمة من هذه الأزمات العنيفة الحادة التي تتعرض لها المرأة حين تهان في حبها، وحين تخيب آمالها وحين تظهر لها الخيانة ماثلة، وقد كانت ترى نفسها بمأمن من الشك والريب.
ولكني رأيت بعض جمل الكتاب فقرأته مستقصية، ونهضت بعد قراءته هادئة النفس مستقرة القلب، فسعيت إلى مكتب زوجي ورأيت درجا من أدراجه قد فتح شيئا، فعرفت أن يد الصبي قد امتدت إليه فأخرجت ما كان فيه من أوراق، ونثرتها في أرض الغرفة نثرا، ثم صنعت بغيره هذا الصنع، ثم ألقيت الكتاب الذي حمله الصبي إلي بين هذه الأوراق المنثورة، ثم خرجت فأغلقت الغرفة وأخذت مفتاحها ثم آويت إلى غرفتي وأغلقت بابها من دوني، ثم انتظرت الأزمة ولكنها لم تأت، ثم دعوت الأزمة ولكنها لم تستجب، وإنما انحدرت من عيني دموع يسيرة جدا، لم ألبث أن جففتها، وظللت في غرفتي هادئة واجمة بعض الشيء محزونة أشد الحزن وأمضه، عاجزة كل العجز عن أن أجد من هياج الأعصاب أو انهمال الدمع ما يخفف وطأة هذا الحزن على هذا القلب الكسير.
فلما استيأست من ذلك نهضت متثاقلة، وخرجت من الغرفة فلقيت الصبي في بعض عبثه، فأخذت بيده وهبطت به إلى الحديقة، وجعلت ألاعبه وأداعبه. وأقبل مكسيم بعد ساعة، فتلقيته ساخطة صاخبة ألومه أعنف اللوم؛ لأنه يحرص على النظام في مكتبه، ثم لا يحتاط لهذا النظام فيترك بابه مفتوحا، ويعرض مكتبه بذلك لعبث الخادم، ولعبث هذا الصبي العفريت خاصة.
ثم أزعم له أن الصبي قد انسل إلى مكتبه، فأحدث فيه فسادا عظيما وأنه سيجد مشقة في رده إلى ما يحب ويألف من النظام، وهو خليق بهذه المشقة، فلعلها تعلمه أن يأخذ مفتاح مكتبه معه منذ اليوم. ثم أدفع إليه مفتاحه فيتلقاه هادئا مبتسما، ويرفع الصبي بين ذراعيه مبتهجا، فيقبله ويهنئه، أو يهنئ نفسه بهذا الطور الجديد من حياة ابنه الذي أصبح قادرا على أن ينسل إلى الغرف، ويفسد ما فيها من نظام. ثم يصعد متثاقلا إلى مكتبه فيلقي عليه نظرة ثم يعود مغرقا في ضحك متصل، وهو يقول إن إصلاح هذا الفساد أطول من أن آخذ فيه قبل الغداء.
ثم تمضي أمور الدار على ما تعودت أن تمضي عليه كأن لم يحدث شيء. ولكن في الدار قلبا محطما قد ذاق خيبة الأمل وعرف مرارة اليأس، ولن يبرأ من هذه العلة التي مزقته تمزيقا.
14
نامعلوم صفحہ