هذه مفاهيمنا
هذه مفاهيمنا
ناشر
إدارة المساجد والمشاريع الخيرية الرياض
ایڈیشن نمبر
الثانية ١٤٢٢هـ
اشاعت کا سال
٢٠٠١م
اصناف
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمد ﷺ، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد: فإن الفتن في هذا الزمان تتابعتْ، وتَنَوعت وتكاثرت، فمنها الفاتن للجوارج، ومنها الفاتن للقلوب، ومنها الفتَّان للعقول والفهوم، وقد خاض أناس في الفتن غير مبالين، وخاض أناس غير عالمين، وخاض فئام عالمين، وخاضت جماعات مقلدين.
حتى أصبح ذو القلب الحي ينكر من يراه وما يراه، فلا الوجوه بالوجوه التي تعرف، ولا الأعمال بالأعمال التي تعهد، ولا العقول بالعقول المستنيرة، ولا الفهوم بالفهوم المنيرة.
فهو مخالط للناس بجسمه، مزايل لهم بعَمَلِه، يعيش في غرْبَتِه بين جلْدَتِه، حتى يأذن الله بحلولِ الأجل فيلحقَ -إنْ عفا الله وغَفَرَ- بمنْ يفكُّ غربته، ويؤنسُ وحشته.
وإن من أعظم تلك الفتنِ، وأشدِّها صَرْفًا عن الصراط المستقيم، الفتنةَ عن تحقيق معنى الشهادتين، شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، فكم من فاتنٍ عنها بعلم، وكم من مفتونٍ عنها بتقليد.
1 / 5
ولهذه الفتنةِ عن تحقيق معنى الشهادتين صور كثيرة، جمع صورَها هذا الزمانُ وأهله، وما اجتمعت في وقتٍ اجتماعها وتوارُدها في هذا الزمن، فما أقلَّ الفقيهَ بها، المجاهدَ لها، على تنوعها وتشعبها، وظهورها وجلائها.
فطوائفُ من الناس إذا سئلوا عن معنى كلمة التوحيد، ظنوا معناها لا خالقَ موجود إلا الله، وكأنَّ أهلَ الجاهلية والعمى ممن بعثت إليهم الرسلُ يقولون بتعدد المبدعين الخالقين المدبرين، حتى تبعثَ لهم الرسلُ بلا إله إلا الله.
والشأنُ أنَّ أولئك الجاهلين كانوا يُعَددون معبوديهم لا خالقَهم، فأتت الرسل بـ "لا إله إلا الله"، ومعناها ما قال نوح لقومه: ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ [هود: ٢٦] بالمطابقة.
والعبادة: هي الذلُّ والخضوعُ والاستكانة في لغة العرب، وسُمِّيت العباداتُ بذلك لأنها تُفْعَل مع الذلِّ والخضوع والاستكانة، وتورثُ الخضوعَ لربِّ العالمين في المآل، لأمره ونهيه، والأنسَ به والذلِّ بين يديه والانكسار.
هذا ما تعلمه العربُ من كلامها، فلفهمِهم المعنى أبوا أن يخضعوا لـ " لا إله إلا الله " ولو بنطقِ كلمة.
وإذا تدبرت أحوالَ بعض الناس اليومَ وجدتَ ذلَّهم وخضوعهم عند القبور وأبنيتها، وتحت قبَابِها، وفي المسير إليها أعظمَ من خَضَعَانِهم وانكسارهم، إذا كانوا في مسجدٍ لله ليس فيه قبر، ولا قُبَّة.
وعند القبورِ تلك من نواقضِ معنى إفرادِ الله بالعبادة شيء لا تحصر صوره، فمن طائف بالقبر سبعًا، ومن قائل: يا ولي الله! اشفِ مريضي، وأزلِ الدينَ عني. ومن قائل: أنا في حَسْبك ووقايتك ارفعِ الآفات عني. يعتقدون في المقبور أن له تصرفًا في الكون بتفويض اللهِ له التصرفَ، فمنهم من أُعطيَ بلدًا يرزقُ من يشاء ويَدْفَعُ عمن يشاء، ومنهم من أعطي
1 / 6
قُطرًا، ومنهم من فُوَّضَ له ربعُ العالم، ومنهم من فُوَّض له أمرُ الأرض كلها، وهو المسمى بالغوثِ، هكذا يزعمُ عبادُ القبور. وهؤلاء في ذلك كمن اعتقد تفويضَ الله أمرَ العالمَ للكواكبِ السبعة.
ومنهم من أبى عقلُه أن يشركَ في التصرف، كما فعله أولئك، ولكنه سار مع طائفةٍ أخرى في ما سماه أبو البقاء الكفويُّ في " الكليات ": شركَ تقريبٍ، وهو سائقٌ لشركِ التصرف.
فادعى مع المُدَّعين، وخاض مع الخائضين، وطَلبَ من الأموات المقبورين أن يشفعوا له في غُفْران ذنبه، أو سَعَةِ رزقه، أو رَفْع كربته، أو شفاء مريضه، يدعون الوسائطَ أن تتوسطَ لهم عند الله فتشفعَ بحاجاتهم.
وكأنَّ الله جَلَّ وعلا قد أغلقَ أبوابَهُ دون حاجاتهم ودَعَواتهم، وكأنه في ملزومِ فعلِهم لا يعطي ولا يُمَتِّعُ إلا بتوسطِ وسيطٍ، وفي هذا من التنقصِ ما فيه.
وتجدُهم يتحببون لهذا المقبور بأنواع القُرَب: فمن مهريقٍ الدمَ باسمه، ومن ناذرٍ له، ومن طائفٍ حول قَبره يتقرب بالسعي والطوافِ لنيل شفاعته.
فهذان النوعان من الشرك الأكبر قد فَشَيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد أشرتُ أثناءَ هذه الورقاتِ إلى أن أولَ من أحدث الشركَ الأكبرَ في المسلمين من هذه الأمة هم الباطنيون؛ وعلى رأسهم " إخوانُ الصفا "، وتولى كبر ذلك الدولةُ العبيدية.
وكثر انخداعُ الناسِ، وخاصةً الجهالَ بها، ووجد أناسُ آخرون في ذلك نعم المصدرُ لاكتسابِ معايشهم، وراج ذلك أكثرَ ما راج في الصوفية لكثرة المتعبدين بجَهْلٍ فيهم، فصاروا لُعْبةً وسَلْوى لأولئك، يتحكمون فيهم؛ لأجل الدنيا.
1 / 7
ثم شاع بعد القرن الخامس ذاك في الناس وكثر، فعَمَّ وطَمَّ وقَلَّ أن سَلِمَ منه بلدٌ، وفي كل قرن يعيش أولياء، وكل من مات قُبَّبَ على قبره، واتُّخِذَ مزارًا، يستشفعُ به، ويسأل ويدعى.
فكثرت القبورُ، وكثرت العطايا للقبور، فكثر السدنةُ والمنتفعون، والمالُ فِتْنَةٌ، والجاهُ فِتْنَةٌ، والسيادةُ فِتْنَةٌ.
وأحبَّ من لم يتبع التوحيد أن يعظمَه الناسُ في حياته، فمن مُقَبِّلٍ للأيدي والأرجل، ومن متمسحٍ بالثياب خاضعٍ بالقول، والقلب والجوارح.
وقد رأيت مرة رجلًا يُظَنُّ عالمًا في المطافِ حول البيت العتيق، وهو يدورُ مقهقهًا مع رفيقٍ له، ومن الناس من تمسَّح به وقَبَّلَ يده! أي حالٍ تلك؟! وأي قلوبٍ هاتيك القلوبُ التي تقهقه حول الكعبةِ المشرفة، ثم هم أولياءُ في زعمهم؟!
ووصفُ أحوال المنتسبين للإسلام اليوم يطولُ، ولكنَّ الإيماءَ كافٍ، فالإطالةُ تضني، وقد جادلت يومًا ببلدٍ إفريقيِّ أحدَ المفتونين من كبار العلماءِ المُحَبَّذين لعبادة القبور والسدنةِ حولها، في حالهم، ومعنى العبادة، ومفهوم الشهادتين، فقال: أنا أعلم أنكم على الحق؛ ولكن (سيب) الناس تعيش!
إن هذا هو الواقعُ، فالمسألةُ ليست نصرةً للحقِّ بدلائله، ولكنها سيادةٌ وجاهٌ وسمعةٌ وأموالٌ، ثم يبحث لتثبيتِ هذا المقررِ سَلَفًا في الدلائل الشرعيةِ، وإنْ كانت أحاديثَ مكذوبة، وفي الدلائل العقلية، وإن كانت أوهى من خيوط العناكب.
وإن المحافظةَ على المجد والسيادة مما يحرص عليها ناصروا المذاهب البدعية، يورثونها أولادهم لحبهم أن يدعوا الورثة أغنياء! وإذا هلك صُيَّر مدفنه ضريحًا إن استطيع، وتُوَجَّه قلوبُ الناس إليه، فيزداد الخليفةُ جاهًا وطاعةً ومالًا.
1 / 8
وفي كل صِقْعٍ من الأرض وُجِدَ فيه عبادُ القبور تجد فيه غالبًا طائفةً على هدي النبي محمدٍ ﷺ سائرة لا يخدعهم تسيُّدٌ، ولا تُؤثِّر فيهم شبهةٌ، وأولئك غرباء في كثير من البلاد، يدلُّون الناسَ على السنةِ، ويهدونهم إلى التوحيدِ، وصَرْفِ القلوب إلى الله، وتعظيمِه وإجلالِه، والهيبة والخوفِ منه، ورجاءِ ما عنده، يعلقون القلوبَ بخالقِهم وحده، لا بأحدٍ من الخلق، فلا يحبون إلا لله، ولا يبغضون إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، همهم دعوةُ الناسِ إلى توحيدِ ربِّهم في الأعمال: أعمالِ القلوب وأعمالِ الجوارح.
يسمون أنفسهم أتباعَ السلفِ الصالح، وأكْرِمْ به من اتِّباع مقابلةً باتباعِ غيرهم للخلف الطالح، وأسْفِلْ به من اتِّباع.
ويسميهم أعداؤهم: الوهابيةَ أو المتطرفةَ، ويسعى أعداؤهم في نشر الكتب الناقضةِ دعوة الشيخ المصلح محمدِ بن عبدِ الوهاب -رحمه الله تعالى-، ردًا عليهم، وعلى أتباع الدعوة السلفية الخالصة.
وتتخذ هذه الردودُ أشكالًا تناسبُ البلدَ المنشورَ فيه الردُّ، فبينما يُصَرَّحُ بذلك في بلدٍ، يُسَرُّ به في بلدٍ ويأتي تلويحًا لا تصريحًا.
والحَمْلةُ واحدة، والطريقُ قديمة سابلَةٌ، ولها وُرَّادٌ، ودعاةٌ على جنباتها، إذا صَرَخَ داعٍ تجاوبَ الجميعُ بالصَرُّاخ.
والطريقُ ليست علميةً كما قد يُظَن، ولكنها سبيلٌ غايَتُها التمكين لدعاة الباطلِ في أرضِهم، وأرضِ غيرهم.
ومن تلك الردود على الدعوة الإصلاحية كتابٌ سماه كاتبهُ: " مفاهيم يجب أن تصحح " طبع بمصر سنة ١٤٠٥هـ، ثم طبع بالتصوير " الأُفست " في المملكة العربية السعودية بأعداد كبيرة، ووُزَّع سرًا وعَلَنًا في كثير من أرجاء البلاد، وفي الحرمين وما جوارها أكثر.
وفي هذا الكتاب " مفاهيم يجب أن تصحح " تجويزُ كاتبه -وتحبيذُه حينًا- سؤال النبي ﷺ الشفاعةَ في قبره، وسؤاله التوسط، وتجويزه ودعوتُه
1 / 9
لطلب الغَوْث منه ﷺ، فالاستغاثة به منجاة عنده، وطلبُ شفاعتهِ مشروعٌ عنده بعد موته، وسؤاله الإعانة ونحو ذلك، وطَرَدَ هذا في الصالحين ونحوهم.
بل زاد بأنَّ قولَ القائل: يا رسول الله! أريدُ أن تردَّ عيني، أو يزولَ عنا البلاءُ، أو أن يذهبَ مرضي: من الجائزاتِ، التي لا عَتْبَ على قائلها، كما ذكره في ص٩٨ من كتابه.
وفي كتابه من التدليل لشُبهه المتهافتةِ بالأحاديثِ الموضوعةِ، والواهية، والمُنْكرة، والباطلة والضعيفة جدًا، والضعيفة شيءٌ كثير، وكثير منها يَسْتَدِلُّ بها بتعسفٍ مع وهاء الدليل وضعفه.
والقوم لهم وَلَعٌ بالمكذوبات الواهيات، وإعراض عن الصحاح العاليات الغاليات. وليس هذا جديدًا، بل شأنُ كلِّ من نَهَجَ غير سبيل السلف وأتباعهم حبُّ البدع، وإغلاؤها، حتى صار وضعُ الحديث عند طائفةٍ من أولئك والكذبُ على رسول الله ﷺ سهلًا خفيفًا.
ومنهم من يضع الحديثَ ويفتري على رسول الله ﷺ عالمًا، ومنهم من يكونُ جاهلًا، وهاك مثالًا لهؤلاء وأولئك تُبْصِرُ به ما وراء ذلك.
1 / 10
جاء في كتاب " الدرر السنية في الرد على الوهابية " لأحمد بن زيني دحلان ص٥٥ ١:
" ذكر العلامة السيد علوي بن أحمد بن حسن بن القطب السيد عبد الله الحداد باعلوي في كتابه الذي ألفه في الرد على ابن عبد الوهاب المسمى " جلاء الظلام في الرد على النجدي الذي أضل العوام " وهو كتاب جليل ذكر فيه جملة من الأحاديث.
منها حديث مروي عن العباس بن عبد المطلب ﵁ عم النبي ﷺ أسنده إلى النبي ﷺ قال فيه: " سيخرج في ثاني عشر قرنًا في وادي بني حنيفة رجل كهيئة الثور، لا يزال يلعق براطمه، يكثر في زمانه الهرج والمرج، يستحلون أموال المسلمين ويتخذونها بينهم متجرًا، ويستحلون دماء المسلمين ويتخذونها بينهم مفخرًا، وهي فتنة يعتز فيها الأرذلون والسُّفَّل، تتجارى بينهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ".
قال: ولهذا الحديث شواهد تقوي معناه، وإن لم يُعرف من خرَّجه انتهى.
فهذا من وضع الرجل المذكور أو شبهه، يكذب على الرسول ﷺ عيانًا أمام الخلق، فيالها من قلوبٍ تلك التي تتجرأُ على ذلك! ويالها من قلوب تلك التي تحبُّ أولئك! يكذبون على النبي ﷺ، ويدَّعون محبةَ النبي ﷺ، فهل يجتمعان في قلبٍ؟ كلا والله، إلا في قلب مبتدع مأفون كاذب، ومن العجب أنه قال: "وإن لم يعرف من خرجه"، ولو أسنده إلى كتاب معدوم
_________
١ ومن كذب على النبي ﷺ فكذبه على غيره ممن سار على نهجه واقتفى سنته أولى، فقد افترى هذا الرجل على الشيخ محمد بن عبد الوهاب افتراءاتٍ: منها قوله: " (والظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعي النبوة") اهـ ص٥٠، ومنها قوله ص ٥٤: "وكان ابن عبد الوهاب يأمر أيضًا بحلق رؤوس النساء اللاتي يتبعنه" اهـ، والافتراءات كُثُر.
1 / 11
مفقودٍ لراج كذبُه أكثرَ على الجهال، لا على العلماء الذين يعرفون نورَ كلامِ النبوة.
ومن الصنف الثاني الذين كذبوا على جهل، ما جاء في " الرد المحكم المنيع " (ص١٧) قال: " المعلوم لطلبة العلم، والعامة، فكيف للعلماء قوله ﷺ: " الناس مؤتمنون على أنسابهم" اهـ. والمعروف عند العلماء بل طلاب العلم بل صغار طلبة العلم أن جملة "الناس مؤتمنون على أنسابهم" من قول الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى.
وكل من أحبَّ البدعَ هَجَرَ السننَ، وكل من زَيَّنَ البدعةَ فسينقصُ من معرفته بسنة رسول الله ﷺ بقدر ذلك، ومن تأمل ذلك في الخلق عَلِمَه.
وكتابُ " مفاهيم يجب أن تصحح " مَجْلَبٌ لما تفرق من شُبَه الذين عارضوا دعوةَ الشيخِ محمدِ بن عبد الوهاب، فهو يتابعُهم حتى في أوهامهم، وفي عَزْوِهم، وفي فِكْرِهم، حتى إنه لم يتكلفْ عناءَ توثيقِ أقوالهم، أو تعنَّى فوجدَ خلاف ما كتبوا، فأثبته كما أرادوا.
ولما كان هذا الكتابُ يعبِّر فيه كاتِبهُ عن رأيه، وفيه من الشطاطِ عن فهم التوحيد ما فيه، ومن عدم الفهمِ لدعوة الشيخ ما فيه، ومن الخوض في الدفاع عن الداعين أصحابَ القبور من الأنبياء والصالحين، وفي تجويز ما قال الفقهاء في باب " الردة ": إنه كفرٌ بالإجماع، ولما لكاتبه من تَبَعٍ ومريدين، استعنتُ اللهَ في كشفِ ذلك، وبيان الحق فيه، وبيان أنَّ ما جوزَه الكاتبُ في " مفاهيمه " من الشرك الذي بُعِثَ الرسلُ جميعًا وآخرُهم محمدُ بن عبد الله ﷺ لقمعه.
والشركُ في الإلهيةِ له صورٌ يزينُها الشيطانُ للواقعين فيه، وهو شَغِفٌ لهَفٌ على أن يخوضوا فيما نهاهم الله عنه، ويُقْنعهم بأنهم لم يخوضوا فيما نهى الله عنه. فله طرقٌ وسبلٌ، وعلى كل سبيلٍ زينةٌ وبهجةٌ يخدعُ بها
1 / 12
الناسَ، والمنكرُ واجب الإزالةِ بحسب المراتب التي جاءت في حديث أبي سعيد الخدري ﵁.
فعسى أن يأذنَ الله لهذه الورقاتِ بالقبول عنده، وأن يُنْتَفَعَ بها، فإن المُنْيَةَ الانتفاع بها، وليس وراء القبول مُبْتَغَىَ، ولا سواه مُرْتَجى، وسميتُ هذا الردَّ " الورقات الكاسرة للمفاهيم الخاسرة ".
ولما أطلعتُ على هذا الكتاب سماحةَ والدي ومن له بعد اللهِ الفضلُ علَّي نصر المولى به الحقَّ، وجزاه الله أحسنَ الجزاء، ورفع درجتَه، وأمْتَعَ به، أشار بتسميته " هذه مفاهيمنا "، وإشارته أمرٌ، وطاعَتُه غُنْمٌ، فسميتهُ بما سمَّاه به طَرْحًا لما أرى عند ما يَرَى، ورَفْعًا لرأيِه، واتهامًا لقولي عند مقاله.
وكتبته مقطعًا١، والقلبُ مشتَّتُ الشواغلِ، في كلّ وادٍ منه مُزْعَة، والهمومُ لتدني الأحوالِ مترادفة، والفتنُ الطاغيةُ صادةٌ عن صفاءِ المقالِ، وإحكام الأقوال، والأنيسُ قليلٌ، بل عزيزٌ، فاللهم إنَّ مفزعَنَا إليك لا إلى غيرك، فثبتْ أقدامَنا على الحقِّ، وبَصَّرْنا بأنفسنا، ولا تجعلْ من عملنا لأحدٍ سواك شيئًا، ونعوذ بك أن نشركَ بك على علم، ونستغفرك مما لا نعلم، فإنَّ صفتَنا التقصِير، وصفةَ الرب العَفْوُ والغفرانُ، فاغفر اللهمَّ جَمًا، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ رَبَّ العالمين.
كتبه: صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ.
يوم الخميس١٣/٥/١٤٠٦هـ.
_________
١ ورددت به على الباب الأول من كتابه، وفصلًا من الثاني؛ لأني رأيت أن أصول أقواله في هذين، وفي الكتاب أغلاط كثيرة سيما في الحديث، وأغلاط في الاستدلال، فتركت الكلام على ذلك، واقتصرت على رد الشركيات ووسائلها، وما يبين به منهج المؤلف في مفاهيمه، والبصير ينظر بعين ما ذكر إلى ما طوى.
1 / 13
الباب الأول: التوسل وحكمه
...
قال ص ٤٥:
"الوسيلة: كل ما جعله الله سببًا في الزلفى عنده، ووصلة إلى قضاء الحوائج منه. والمدار فيها على أن يكون للوسيلة قدرٌ وحرمة عند المتوسل إليه" اهـ.
أقول: كلامه حوى جملتين: الأولى من الحق، والثانية فيها إجمال به يتوصل إلى ما نهى الله عنه، ولم يجعله وسيلة.
فقول: "والمدار فيها.. الخ" مجمل يمكن تفسيره على أحد وجهين:
الأول: أن يدخل في ذلك ذوات الأنبياء والصالحين باعتبار أن لهم من المنزلة والزلفى عند الله ما يجل عن الوصف، فإن كان هذا معنيًا، فالله ﷾ لم يجعل ذوات الأنبياء والصالحين أو جاههم أو حرمتهم وسيلة إليه، ولا سببًا للزلفى لديه.
وإنما جعل الوسيلة إليه هو اتباعهم وتصديق ما أخبروا به، واتباع النور الذي جاءوا به، والجهاد من أجل تقريره وتثبيته بين الخلق، فهذا من الوسائل المشروعة التي يشرع للداعي بمسألة أن يقدمها بين يدي مسألته، ولا يصح للداعي -دعاء عبادة- دعاؤه إلا باتباعهم وتصديقهم. فهذا من الوسائل المشروعة التي أمر الله بها، وشرعها.
وأما الأنبياء والصالحون فليس من المشروع التوسل بذواتهم ولا جاههم ولا حرمتهم كما سيأتي بيانه، وإنما يشرع التوسل بدعائهم في حياتهم، كما كان يفعله المسلمون زمنه ﷺ وبعده من طلب الدعاء في الاستسقاء وغيره.
وأما بعد مماتهم فليس التوسل بدعائهم ولا ذواتهم مشروعًا بإجماع القرون المفضلة.
1 / 17
الثاني: أن تكون الوسائل من الأعمال ونحوها مشروعة، لم تتبع فيها سبل المبتدعة، وإنما اتبع فيها السنة، وهذا حق.
والكاتب أجمل ليدخل الوسيلة المبتدعة في خللِ كلمات الحق، وقد بينا ما فيها، وما كان ينبغي له ذلك وهو يفسر آية من كتاب الله.
وفي الوسيلة قولان ذكرهما أهل التفسير، وقربهما ابن الجوزي في "زاد المسير" (٢/٣٤٨) قال:
"أحدهما: أنها القربة، قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والفراء. وقال قتادة: تقربوا إليه بما يرضيه. قال أبو عبيدة: يقال: توسلت إليه، أي: تقرَّبتُ إليه، وأنشد:
إذا غفل الواشُونَ عُدْنا لِوصْلِنا
وعاد التَّصَافي بيننا وَالوَسَائلُ
الثاني: المحبة، يقول: تحببوا إلى الله. هذا قولُ ابن زيد" اهـ.
وفي أسئلة نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة ٣٥]، قال: الوسيلة الحاجة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت عنترة وهو يقول:
إنَّ الرجالَ لهم إليكِ وسيلةٌ
أن يأخذوكِ تكحَّلي وتخضَّبي
وفي المادة شواهد غير ما ذكر.
فالوسيلة: التقرب إلى الله بأنواع القرب والطاعات، وأعلاها: إخلاص الدين له، والتقرب إليه بمحبته، ومحبة رسوله، ومحبة دينه، ومحبة من شرع حبه، بهذا يجمع ما قاله السلف، وقولهم من اختلاف التنوع.
وتأمل قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة ٣٥]، ففي تقديم الجار والمجرور "إليه" إفادة اختصاص
1 / 18
الوسائل بالله، لا يشركه معه فيها أحد. كما في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة ٥] .
قال العلامة الشنقيطي ﵀ في "تفسيره" (٩٨/٢): "التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة على وفق ما جاء به الرسول ﷺ، وتفسير ابن عباس داخل في هذا؛ لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته، التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته.
وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهال، المدعين للتصوف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخُ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه، أنه تخبط في الجهل والعمى، وضلال مبين، وتلاعب بكتاب الله تعالى.
واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار، كما صرح به تعالى في قوله عنهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر ٣]، وقوله: ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس ١٨] .
فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رضا الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله ﷺ، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل. ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء ١٢٣]، الآية" انتهى كلامه.
1 / 19
قال الكاتب ص ٤٣: "إن التوسل ليس أمرا لازما أو ضروريا، وليست الإجابة متوقفة عليه، بل الأصل دعاء الله تعالى مطلقا، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البقرة ١٨٦]،.. " انتهى.
أقول: إذا كان الأصلُ هو دعاءَ الله تعالى بلا واسطة، فلِمَ العدول عن الأصل إلى غيره؟! ولا يخفى أن غير الأصل لا يتمسك به إلا من عَدِم الأصل، والله ﷻ حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، يحب أن يدعوه عبدُه، وأن يرجوه، وأن يخافه، وأن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته.
فإذا كان هذا لا ينقطع عن مسلم في أي بقعة كان وهو الأصل الأصيل، فلِمَ العدول عنه، والتنكب له؟! أفتعدل إلى طريق هي أهدى؟!
تقولُ: إن التوسل الذي ننكره وهو التوسل بالذوات وعمل غير الداعي ونحوها، ليس الأصل، بل الأصل معكم وأنتم حقيقون بالأصل، تقر لنا بالهداية والاتباع، وترغب في مخالفة الأصل دون دليل صحيح!
أما في الأصل لك كفاية؟! أما في دعاء الله وحده بلا واسطة لك مقنع؟! إذا كان الحي القيوم الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، يحب أن يدعوه عبده كل حين: دعاء عبادة أو دعاء مسألة، وهو الذي يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البقرة ١٨٦]، إذا كان كذلك فلِمَ العدول إلى الأموات يُتَوسَّلُ بذواتهم أو جاههم أو حرمتهم وغيرها من الألفاظ البدعية؟!
لمِ َلا يُعلْم المسلمون دعاء الله وحده، فتخلص قلوبهم من الالتفات إلى غيره في دفع كربة أو رفع بلاء، أو جلب نفع؟ علموهم هذا ولا تعلقوا
1 / 20
قلوبهم بغير الله فيتخذوهم أندادًا، فيذهب ذكرهم لربهم وحده، وحبهم له وحده، إذ نفعهم معلق في أذهانهم بوسائط.
إن من انفتح عليهم باب البدعة في التوسل ألقى بهم ولو بعد حين إلى دائرة الإشراك، إذ هو طريقه وسبيله، ومنه يتدرج إلى دعاء الأموات أنفسهم أو سؤالهم الشفاعة، أو الإغاثة، أو الإعانة.
وكل هذه صرح كاتب المفاهيم بتجويزها في مواضع من كتابه، كما سيأتي في مباحث الشفاعة. وكل ذلك من سيئات ترك الأصول المتفق عليها، واتباع المتشابهات المنهي عنها.
قال الكاتب ص ٤٤:
"ونحن نرى أن الخلاف شكلي، وليس بجوهري؛ لأن التوسل بالذوات يرجع في الحقيقة إلى توسل الإنسان بعمله، وهو المتفق على جوازه ... ".
أقول: هذا خطل من القول، ومخادعة للنفس ظاهرة، إذ المتوسلون بالذوات يعلمون بُعْدَ هذا التبرير والتأويل، وأن الخلاف جوهري لا صوري، وبرهان ذلك فساد الدليل الذي ادعيتموه، وهو راجع إلى المجاز العقلي، والكلام فيه سيأتي مفصلًا، ثم هل عمل الذات المتوسَّل بها عمل للمتوسِّل به المتفق على جوازه؟ ولكنى أقول هنا على سبيل المجاراة والمناظرة:
هب أن الخلاف شكلي، أفلا يجب عليكم ترك الألفاظ الموهمة لأمور غير شرعية؟ فإن القائل: أتوسل بفلان، دالٌ ظاهر لفظه على التوسل بالذات المجردة عن الجامع بين الذاتين، ولا قرينة لفظية ولا غير لفظية، متصلة ولا غير متصلة تصرفه عن هذا الظاهر.
والقرينة المدعاة قلبية خفية، والحكم على ما في قلوب الناس فرع الاطلاع عليها، ولا سبيل إلى ذلك. ومن المتقرر أن الشريعة المطهرة جاءت بترك الألفاظ الموهمة لما ينهى عنه شرعأ، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا
1 / 21
الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة ١٠٤] فقد كانت يهود تستعمل "راعنا" للسب، والمسلمون حين قالوها لا يَشْركونهم في ما عقدت قلوبهم عليه من تفسير اللفظ، ومن اليقين أن الصحابة لم يقولوا اللفظ وهم يعنون المعنى الفاسد، فهذه من أقوى القرائن القلبية، ومع هذا نهوا عن ذلك.
قال القرطبي في "تفسيره " (٧٥/٢):
"في هذه الآية دليلان: أحدهما: على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض.
الدليل الثاني: التمسك بسد الذرائع وحمايتها" انتهى.
وقال الجصاص في "أحكام القرآن" (١/٥٨): "وقوله ﴿رَاعِنَا﴾، وإن كان يحتمل المراعاة والانتظار، فإنه لما احتمل الهزء على النحو الذي كانت اليهود تطلقه نهوا عن إطلاقه، لما فيه من احتمال المعنى المحظور اطلاقه، وجائز في اللغة أن يكون الإطلاق مقتضيًا لمعنى الهزء وإن احتمل الانتظار، ومثله موجود في اللغة ... " انتهى كلام الجصاص.
فتأمل كيف أن الصحابة استعملوا هذا اللفظ وهم أبعد الناس عن إرادة معنى الهزء والتنقص، فنهاهم الله تعالى عن ذلك اللفظ لما فيه من الاشتراك، ولم يكفِ في تجويز استعماله ما قام بقلوبهم ونياتهم من المعنى الخيّر الصحيح، وهذا جلي لمن تجرد!
1 / 22
قال ص ٤٤:"ومحل الخلاف في مسألة التوسل هو التوسل بغير عمل المتوسل، كالتوسل بالذوات والأشخاص، بأن يقول: اللهم! إني أتوسل إليك بنبيك محمد ﷺ، أو أتوسل إليك بأبي بكر الصديق، أو بعمر بن الخطاب، أو بعثمان أو بعلي ﵃".
أقول: الواجب عند الاختلاف الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وفهم أصحابه الكرام رضى الله عنهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾ [النساء ١١٥] .
ومسألة التوسل بالذوات، وكذا التوسل بأعمال من انقضى سعيهم، لا خلاف عند السلف من الصحابة والتابعين أنها ليست من الدين، ولا هي سائغة في الدعاء.
وبرهان ذلك أنه لم ينقل عن واحدٍ منهم بنقل صحيح مصدق أنه توسل بأحد الخلفاء الأربعة أو العشرة أو البدريين.
والعمل على وفق ما فهموه هو المنجي كما فُضِّل في "السلف والسلفية" من هذا الكتاب، ومن ابتغى نهجًا جديدًا فهو الخَلَفي، وليس له حظ منهم. إذا تقرر هذا، فالتوسل بالذوات ونحو ذلك ممنوع لأوجه:
الأول: أنه بدعة لم تكن معروفة عند الصحابة والتابعين، وكل بدعة ضلالة، وليس على الله أكرم من الدعاء، وفي الحديث: "الدعاء هو العبادة" أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما بإسناد صحيحعن النعمان ابن بشير. فإذا كان عبادة بل هو العبادة فإحداث أمرٍ في العبادة مردودٌ باتفاق العلماء.
1 / 23
الثاني: أن قول القائل: أتوسل بأبي بكر وعمر ... خطأ محض، جَرَه إليه سقم فهمه، وكثافة ذهنه، واعتقاده أن كل شيء توسل به يكون وسيلة، وهذا غلط.
فمن قال أتوسل بأبي بكر مثلًا فقد جمع بين ذاتين، لا وسيلة ولا طريق توصل وتجمع أحدهما بالآخر، فكأنما هذا القائل قد لفظ لفظًا لا معنى له، بمنزلة من سرد الأحرف الهجائية، إذ لا اتصال بين ذاتِ المتوسِّل والمتوسَّل به حتى يجمع بينهما.
فلا بد من جامع يتوسل به، وهو حب الصحابة مثلًا، وهو من عمل المتوسِّل، فإذا قال: أتوسل إليك ربِّ بحبي لأبي بكر، أو بحبي لعمر، أو بحبي لصحابة نبيك كان هذا حسنًا مشروعًا.
وكذا إن قال: أتوسل إليك بتوقيري وتعزيري وحبي واتباعي لنبيك نبي الرحمة، كان هذا من الوسائل النافعة. فلازم ذكر الإيمان أو العمل الصالح الذي يصل بين ذاتين لا يجمع بينهما إلا بجامع.
كما حكى الله عن عباده المؤمنين قولهم: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران ٥٣]، وقوله: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْأَنصَارٍ ﴿١٩٢﴾ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْآمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّاسَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ﴾ [آل عمران ١٩٣] . والآيات في هذا الباب كثرة.
فإذا كان خيرةُ الخلق الأنبياء والرسلُ وأتباعُهم وحواريوهم لم يحيلوا على ما في قلوبهم، بل قالوا بلسانهم ما حواه جنانهم، وهم الذين لا يشك بما في قلوبهم، أفلا يكون الخلوف الذين جاؤوا من بعدهم أولى وأحرى أن يفصحوا، وأن يظهروا، وأن لا يتحيلوا لفاسد قولهم بالمجاز العقلي؟!
1 / 24
الثالث: أن الصحابة فهموا من التوسل: التوسل بالدعاء لا بالذوات، فعمر بن الخطاب رضى الله عنه توسل بدعاء العباس عم النبي ﷺ، ومعاوية ابن أبي سفيان توسل بدعاء يزيد بن الأسود.
ولو كان التوسل بالذوات جائزًا عندهم لأغناهم عن تكلف غيره، ولتوسلوا بذات أكرم الخلق وأفضل البشر وأعظمهم عند الله قدرًا ومنزلةً، فعدلوا عن ذات رسول الله ﷺ الموجودة في القبر، إلى الأحياء ممن هم دونه منزلة ورتبة. فعلم أن المشروع ما فعلوه، لا ما تركوه.
قال الشهاب الألوسي في "روح المعاني" (٦/١١٣) في الكلام على عدول الصحابة: "وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدنى مساغ لذلك.
فعدولهم هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله ﷺ، وبحقوق الله تعالى، ورسوله ﵊، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة، يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق دليلٌ واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره" انتهى.
الرابع: أن يقال تنزلًا: لا يخلو التوسل بالذوات أن يكون أفضل من التوسل بأسماء الله وصفاته، والأعمال الصالحة أوْ لا، فإن قيل: التوسل بالذوات أفضل فهو قول كفري باطل، وإن كان التوسل بأسماء الله وصفاته وبالأعمال الصالحة أفضل فلم ينافح عن المفضول، وتترك نصرة الفاضل وتأييده ونشره وتعليمه للناس؟!
1 / 25
قال كاتب المفاهيم ص ٤٦:
"وقد جاء في الحديث أن آدم توسل بالنبي ﷺ. قال الحاكم في المستدرك: حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل، حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري، حدثنا إسماعيل بن مسلمة، أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [عن أبيه] عن جده عن عمر ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب! أسألك بحق محمد لما غفرت لي ... الحديث". أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه [ج ٢ ص ٦٥١]، ورواه الحافظ السيوطي في الخصائص النبوية وصححه، ورواه البيهقي في دلاثل النبوة، وهو لا يروي الموضوعات، كماصرح بذلك في مقدمة كتابه، وصححه أيضا القسطلاني، والزرقاني في المواهب اللدنية [ج ٢ص ٦٢]، والسبكي في شفاء السقام.
قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفهم. "مجمع الزوائد" (ج ٨ ص ٢٥٣) . اهـ كلام الكاتب.
أقول: هذه الأسطر حوت أغلاطًا، واستغفالًا، وتحريفًا، مما سأبينه إن شاء الله، وما كنت أظن أن يتجاهل الجاني على نفسه، المعجب بعلمه، علماء زمانه، ومن انتسب للعلم من أتباعه حتى يكتب ما كتب على هذا الحديث وما بعده من الأحاديث، ولي مع الكاتب هنا وقفات ثلاث:
الأولى: في ماكتبه، وفي عزوه الحديث لمن خرَّجه.
الثانية: في الكلام على رواية الحديث.
الثالثة: في النظر في متن الحديث ودرايته.
أما الأولى: فينتظم عقدها أمورًا:
1 / 26
الأول: عزوه الحديث فيه قصور، فقد رواه جماعة من طبقة مشايخ الحاكم ومن نحو طبقته ومن بعدهم، وكلهم رووه من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فكثرتهم لا تفيد الخبر قوة، ولذا لن أذكر أولئك حتى لا يستكثر بهم الجهول بالحديث واصطلاحات أهله.
الثاني: ساق إسناد الحاكم ولم يحسن النقل، فقد سقط من الإسناد [عن أبيه] وألحقتها بالإسناد، ووهم أيضًا في توثيق النقل من المستدرك، فذكره مرتين [ج ٢ ص ٦٥١] وهذا قلب وخطأ، وليس سبق قلم لأنه تكرر مرات، ثم طالعت رسالة "إعلام النبيل" لواعظ بالبحرين، فوجدته عزاه كما هنا [ج ٢ ص ٦٥١]، وقد طبع قبل المفاهيم، فتأمل تواردهم على التقليد في كل شيء!
وصواب التوثيق (٢/٦١٥)، والمستدرك لم يطبع إلى هذه السنة إلا طبعة هندية واحدة، وقال: وصححه، يعني: الحاكم وهذا غلط، فالحاكم كتب: صحيح الإسناد، والمشتغلون بالحديث يفرقون بين صحة الإسناد وصحة الحديث.
الثالث: قوله: "ورواه الحافظ السيوطي ... وصححه" من عجائب مفاهيمه، ومما يدل على عدم تعاطيه علم الحديث -وإن أعطي شهادة الزور- لأن قوله "رواه" خطأ لا يستعمله المحدثون، فمن يذكر الحديث ويسوقه في كتاب له مستدلًا به على مراده لا يجوز أن يقال إنه رواه. فكلمة "رواه" لا تقال إلا لمن ساق حديثًا أسنده عن مشايخه، إلى منتهاه. وأما قوله: "وصححه" فأعجب، إذ أن السيوطي لم يعقب الحديث بتصحيح في "الخصائص" الذي نقل منه تصحيحه، وهذا افتراء على السيوطي.
1 / 27