كيف نغير ما بأنفسنا؟
دكتور
مجدي الهلالي
_________
http://www.alemanawalan.com/
نامعلوم صفحہ
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الدعاة وسيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فما من عام يمر على أمتنا الإسلامية في وقتنا الحاضر إلا ويحمل معه جُرحا جديدا في جسدها يُضاف إلى جراحاتها السابقة .. فعام لأفغانستان، وعام للشيشان، وآخر للعراق، أما فلسطين فجرحها يتجدد باستمرار ويزداد عمقا بمرور الأيام.
هذه الجراحات كانت تحدث بالأمس في جسد الأمة ولا يكاد يشعر بها أحد، أما اليوم فالوضع يختلف، فمع انتشار الفضائيات ووسائل الاتصال أصبح من السهل على كل مسلم أن يشاهد ما يحدث لإخوانه المسلمين المضطهدين في شتى بقاع الأرض من تقتيل وتشريد وإذلال وانتهاك للحرمات، مما يحرك الدمع في المقل، ويعلق الأبصار بالسماء، ويطلق الألسنة بالدعاء .. نسأل المولى ﷿ أن يكشف الغمة، ويفرج الكرب، ويُنزل نصره الذي طال انتظاره .. لسان حالها يقول:
هل من نهاية لما نحن فيه؟
هل لهذا الليل من آخر؟
متى نصرك يا الله؟
ورغم الدعاء والتضرع والاستغاثة بالله ﷿ فإن الوضع مستمر، على ما هو عليه، بل ويزداد سوءا في بعض الأماكن، مما حدا بالبعض لأن يتساءل: لماذا يتركنا الله هكذا أضيع من الأيتام على مائدة اللئام؟
لماذا لا يستجيب الله دعاءنا ويرفع عنا هذا الذل والهوان؟
أين أثر دعوات الثكالى والمظلومين من المسلمين في كل مكان؟
إن لم يكن الآن فمتى - إذن - يكف الله بأس هؤلاء الذين كفروا؟
هذه الأسئلة وغيرها تتردد في أذهان الكثير من أبناء الأمة، منطلقة من يقينها بأن الله ﷿ قادر على تغيير ما نزل بساحتنا وحاق بنا في لمح البصر .. أليس هو القائل: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس/٨٢]؟.
1 / 1
أليس هو - سبحانه - الذي أغرق فرعون وجنده، وأهلك عادا وثمود؟، ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر/٦ - ١٤].
أليس هو ﷾ الذي استنصره نوح ﵇ فاستجاب له ونصره نصرا مؤزرا: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر/١١ - ١٤]؟
فلماذا إذن لا ينصرنا الله ﷿ وقد بُحَّت أصواتنا بدعائه؟
لماذا تأخر المدد الإلهي ونحن في مسيس الحاجة إليه اليوم قبل الغد؟
فإن قيل: إن هذا المدد لا يتنزل إلا على من يستحقه .. كان السؤال: فما المطلوب منا أن نفعله لنكون أهلا له؟
أين نضع نقطة البداية لطريق النصر والتغيير؟ وكيف نبدأ؟
حول الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها كانت هذه الصفحات التي نسأل الله ﷿ أن يوفقنا فيها، ويلهمنا الرشد والسداد للحديث حول هذا الموضوع المهم الذي يشغل بال كل مسلم غيور على دينه، ويتمنى الخلاص من الوضع الأليم الذي آل إليه حال أمته.
والله الموفق، والهاجي إلى سواء السبيل.
﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة/٣٢].
1 / 2
القادر المقتدر
أخبرنا الله ﷿ في كتابه وعلى لسان نبيه ﷺ بأنه: " حي قيوم "، ومن مظاهر وآثار قيوميته أنه ﷾ قائم على جميع شئون خلقه: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم/٢٥].
فلا يستطيع أحد في السماوات أن يُقيم نفسه بنفسه، أو يتولى تصريف أموره ولو طرفة عين .. فالسماوات مرفوعة بغير عمد، يمسكها ﷾، ولو تركها لسقطت على الأرض: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [الحج/٦٥].
ولو لم يحرك الله ﷿ الهواء ما تحرك، ولظلت السحب في مكانها، فما نزل مطر، أو نبت زرع، ولا كانت حياة: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [الأعراف/٥٧].
لا حول ولا قوة إلا بالله:
فنحن جميعا بدون الله ﷿ لا قيمة لنا ولا وجود، ولم لا وهو سبحانه يمدنا بأسباب الحياة لحظة بلحظة ولو تركنا لهلكنا، فالقلب مثلا يحتاج إلى إمداد منه - سبحانه - بالقدرة على ضخ الدم للجسم سبعين مرة في الدقيقة الواحدة، ولو توقف المدد لتوقف القلب وانتهت الحياة، والعضلات تحتاج إلى مدد من الله متواصل لتستمر في الانقباض والانبساط لتنشأ عن ذلك الحركة والمشي والقيام والقعود: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [يونس/٢٢].
1 / 3
وهكذا كل أجهزة الجسم لا تستطيع أداء وظائفها إلا به سبحانه. معنى ذلك أنه لا يمكننا أن نتحرك حركة أو نتنفس نفسا، ولا ننطق بكلمة إلا من الله ﷿: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ [النجم/٤٣]، ولو تخلى عن عباده طرفة عين لهلكوا جميعا، يستوي في ذلك المؤمن والكافر .. فلا يوجد لأحد في هذا الكون " قوة ذاتية " يستطيع من خلالها أن يعتمد على نفسه في تصريف أموره والاستغناء عن الله.
العليم الرقيب:
ومن البديهي أن قيوميته سبحانه على عباده تستدعي اقترانها بعلمه، وإحاطته التامة بهم: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [يونس/٦١].
ومع علمه التام بعباده وإحاطته بهم جميعا، فهو ﷾ رقيب عليهم ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء/١].
فالسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ [الرعد/١٠].
ما شاء الله كان:
لإذن فكل ما يحدث لنا من ذل وهوان وهزائم ونكسات فبعلم الله وإذنه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام/١١٢].
فما فعله فرعون ببني إسرائيل ما كان ليحدث لو لم يأذن به الله: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة/٤٩].
1 / 4
وعندما كلف الله ﷿ موسى وأخاه هارون ﵉ بالرسالة خافا من بطش فرعون بهما وطغيانه عليهما: ﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾ [طه/٤٥]، فماذا قال الله لهما: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه/٤٦].
أخرج الإمام أحمد في الزهد عن ابن عباس ﵄ قال: لما بعث الله ﷿ موسى وهارون ﵉ إلى فرعون قال: لا يغركما لباسه الذي ألبسته، فإن ناصيته بيدي، ولا ينطق ولا يطرف إلا بإذني (١).
من هنا يتأكد لدينا أن كل طلقة خرجت من بندقية عدو من أعدائنا لتصيب طفلا أو امرأة أو شيخا، ما كانت لتصيب هدفها إلا بإذن الله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران/١٦٦].
القدرة الإلهية:
ومع قيومية الله وإحاطته بجميع خلقه، فهو سبحانه قادر مقتدر لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يفعل ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر/٥٠].
وهو سبحانه لا يخاف من شيء - حاشاه - ولا يخشى عقبى شيء من أمره، كيف وهو صاحب هذا الكون والقائم عليه.
له جنود السماوات والأرض، لا يمكن أن يفر منه أحد من خلقه، أو يختفي عنه، أو يتحدى إرادته: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر/٤٤].
فإن كان أحدنا في شك من هذه الحقيقة فليسأل نفسه: من الذي أهلك فرعون الطاغية وأغرقه هو ومن معه بعد أن كان يُنكل ببني إسرائيل ويسومهم سوء العذاب؟! ومن الذي قطع دابر قوم لوط؟ وأهلك ثمود؟: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ [الشمس/١٤، ١٥].
_________
(١) الزهد للإمام أحمد، ص ٦١ - ط دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.
1 / 5
ومن الذي أرسل الطير الأبابيل على أصحاب الفيل الذين أرادوا هدم الكعبة؟
هل نفعت عادا قوتها المزعومة حينما جاءها العذاب من الله؟: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [فصلت/١٦].
إن أمر الله ومشيئته نافذة أراد البشر ذلك أم لم يريدوا: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ [هود/٧٦].
البداية من العبد:
ومع هذه القدرة المطلقة والمشيئة النافذة التي لا تستطيع أي قوى الأرض مهما كان حجمها أن تقف أمامها، فإنها لا تتنزل غلا على من يستحقها .. لا تتنزل على الكافرين بالهلاك إلا بعد أن يستنفذوا فترة إمهال الله لهم، ويستقبلوا النعمة بالكفر، ويظلموا الناس، ويستدعوا بأفعالهم غضب الله عليهم: ﴿فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ﴾ [الزخرف/٥٥، ٥٦].
والقدرة الإلهية كذلك لا تتنزل بالمدد والنصر على الفئة المؤمنة إلا إذا استوفت الشروط المؤهلة لذلك، والتي يأتي على رأسها: أن يتغير حالها إلى الحال الذي يرضي الله ﷿، وتترك ما يبغضه، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد/١١].
1 / 6
تأملات في آية التغيير:
والجدير بالذكر أن آية التغيير السابقة والتي جاءت في سورة الرعد قد سبقتها آيات وتلتها آيات تتحدث عن مظاهر القدرة الإلهية المطلقة والتي نرى الكثير منها بأعيننا، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد/٢]، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا﴾ [الرعد/٣]، وقوله: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد/٨]، ويمضي السياق في السورة ليعدد مظاهر القدرة الإلهية: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ [الرعد/١٠].
وفي خضم هذه الآيات تأتي آية التغيير: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد/١١].
ويستمر السياق بعدها ليؤكد على نفس المعنى الذي بدأت به السورة: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ [الرعد/١١ - ١٣].
فما مناسبة وجود آية التغيير بين هذه الآيات؟ وما الرابط بينها؟
1 / 7
هناك بلا شك دلالات كثيرة من وجود هذه الآية وسط الآيات التي تتحدث عن القدرة الإلهية المطلقة، ولعل من هذه الدلالات أنها تحمل لنا جميعا رسالة تقول: إن الله ﷿ ذو قدرة مطلقة، وعلم لا حدود له، وقوة لا يمكن تخيلها، ومشيئة نافذة، والدليل على ذلك ما نراه بأعيننا من سماء مترامية الأطراف مرفوعة بلا عمد، ومن الأرض الممدودة، ومن البرق والصواعق المخيفة.
هذا الإله العظيم الذي ترون آثار قدرته بأعينكم يستطيع - بلا شك - أن يغير ما بكم من ذل وهوان وسوء حال، وكل ذلك في لمح البصر .. ومع سهولة ذلك ويسره عليه فإنه لم يفعل ذلك إلا إذا بدأتم أنتم بتغيير ما بأنفسكم وأصبحتم على الحال الذي يرضيه.
فليُعل بنا إذا ما يُفعل، وليزداد بنا الذل والهوان، ولتشتد الصرخات والآهات، ولتكثر الجراح في جسد الأمة، وليضعنا أعداؤنا تحت أقدامهم، فلن يغير الله ذلك كله، ولن ينزل نصره علينا، ويعيد لنا مجدنا الضائع إلا إذا بدأنا نحن بتغيير ما بأنفسنا.
الأمل في الله وحده:
من ينظر ويتفحص ما عند أعدائنا من إمكانات مادية، وتكنولوجيا متطورة، وأسلحة دمار شامل، ثم يقارن ذلك كله بما نملكه فقد يصيبه الإحباط، أو يتسرب إلى نفسه اليأس، فلا وجه للمقارنة بيننا وبينهم.
ومن ناحية أخرى فواقع الأمر يخبرنا بأنه لأمل حقيقيا للحاق بهم لأنهم لن يسمحوا لنا بامتلاك أسباب القوة ولا كل ما هو جديد، فالمساحة التي أتاحوا لنا التحرك فيها محدودة، ومهما اجتهدنا فيها فسنكون دوما في ركب التخلف، وأذيال الأمم.
هذا الواقع نعلمه جميعا، مما يجعل البعض منا يعتبر الحديث عن عودة الخلافة الإسلامية وأستاذية العالم مرة أخرى ضربا من ضروب الخيال وأحلام اليقظة.
نعم هذا حقيقي إذا ما كانت الحسابات " المادية فقط " هي الحاكمة لهذا الأمر أما في حالة وجود القوة الإلهية الجبارة فستنقلب المعادلات، وستتغير الموازين، وتتلاشى القوى المزعومة.
1 / 8
فإن كنت في شك من هذا فتأمل معي أثر هذه القوة حين انحازت لرسول من رسل الله والفئة القليلة التي آمنت معه: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر/٩ - ١٤].
تلك القوة الإلهية هي التي أدارت معركة بدر لتنصر فئة قليلة عددا وعدة، ولكنها كبيرة بإيمانها وصدق توجهها إلى ربها: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال/١٢].
القوة الإلهية هي التي هزمت الأحزاب دون ستار من الأسباب البشرية: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب/٢٥].
إذن فلا أمل حقيقي لنا إلا باستدعاء تلك القوة التي لا تُقهر، والتي لا تقف أمامها أي أسباب مهما عظُمت.
هل نترك الأسباب؟
ليس معنى القول بأن أملنا في الله وحده أن نترك الأسباب المادية بدعوى عدم جدواها، بل المطلوب هو العكس علينا أن نملأ كل فراغ يتاح أمامنا، ونتغلغل في كل القطاعات، ونجتهد غاية الاجتهاد في امتلاك أسباب القوة كما طالبنا الله ﷿ بذلك: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال/٦٠].
1 / 9
وعلى قدر اجتهادنا في الأخذ بما يتاح أمامنا من أسباب نكون قد حققنا شرطا مهما من شروط النصر والتغيير، مع الأخذ في الاعتبار أن الأسباب بعينها لن تحقق لنا النصر ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران/١٢٦]، واجتهادنا في تحصيلها يأتي امتثالا لأمر الله، وتنفيذا لمقتضى سننه التي ربطت الأسباب بمسبباتها .. فمن يريد السفر من مكان إلى مكان آخر فعليه اتخاذ سبب ووسيلة يسافر من خلالها مهما كان صلاحه وتقواه .. هذه الوسيلة في حقيقتها لا تملك القدرة على السير بهذا الشخص وتوصيله إلى المكان الذي يريد، فما هي إلا ستار وشكل تتنزل من خلاله القدرة الإلهية، والقرآن مليء بالآيات التي تقرر هذه الحقيقة، كقوله تعالى: ﴿وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس/٤١]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الإسراء/٧٠].
وعندما عرض القرآن قصة نوح ﵇ والسفينة التي ظل فترة طويلة يصنعها بوحي من الله ﷿ ليستخدمها عند حدوث الطوفان لينجو بها هو ومن معه .. هذه السفينة يخبرنا الله ﷾ بحقيقتها وأنها لا تملك قدرة ذاتية تمكنها من السير في البحر فما هي إلا ألواح من الخشب، ومسامير من الحديد، أما الذي يسيرها ويمدها بالقدرة على الحركة فهو الله وحده لا شريك له .. ويقرر القرآن هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر/١٣، ١٤].
فلابد إذن من وجود السبب لتتنزل من خلاله القدرة الإلهية، وفي نفس الوقت فإن السبب لا قيمة له بدون المدد الإلهي: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال/١٧].
1 / 10
تأمل معي ما حدث للصحابة وقد نفد ماؤهم وأرادوا الوضوء والشرب، فذهبوا إلى رسول الله ﷺ يخبرونه بذلك، فماذا فعل ﵊؟
طلب منهم إحضار ما تبقي عندهم من ماء، ثم وضع فيه أصابعه الشريفة فنبع من بينها الماء ليشرب الجميع ويتوضأ (١).
فهنا كان الماء القليل ستارا وشكلا تنزل من خلاله الفيض الإلهي.
إذن فعلاقتنا بالأسباب علاقة استجداد للمدد الإلهي الذي يتنزل من خلال وجودها، فالنوم سبب يتنزل من خلاله المدد الإلهي بالشعور بالراحة وتجديد النشاط، وشرب الماء سبب يتنزل من خلاله المدد الإلهي بالإرواء ... وهكذا.
نأخذ بالأسباب ولا نتعلق بها:
فإن كان وجود الأسباب ضروريا لظهور القدرة الإلهية، فإن هذا ليس معناه التعلق بها، وتضخيمها، بل علينا أن نضعها في حجمها المناسب والمحدود، وإلا صارت حجابا يحجب التأييد والنصر الإلهي، وذلك عندما يتعلق به الشخص ويظن أنه يُنصر بها، فتصير شكلا من أشكال الشرك بالله ينافي كمال التوحيد ومقتضاه.
وفي المقابل، فإن من يترك الأسباب وهو قادر على تحصيلها ظنا منه أنه إذا توجه إلى الله ﷿ بطلب ما يريد فإنه سبحانه سيلبي له طلبه دون الحاجة على الأسباب .. هذا الشخص بهذا التصرف قد أساء الأدب مع الله ﷿، لأنه يريد منه سبحانه أن يخرق له السنن التي أقام عليها الأرض.
_________
(١) أحاديث نبع الماء من بين أصابع الرسول ﷺ كثيرة منها: ما رواه البخاري عن ابن مسعود ﵁ قال: بينما نحن مع رسول الله ﷺ وليس معنا ماء، فقال لنا رسول الله ﷺ: " اطلبوا من معه فضل ماء " فأتى بماء فصبه في إناء، ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ﷺ.
1 / 11
نعم قد يتعرض الواحد منا لمواقف تقل فيها الأسباب أو تنعدم دون إرادة منه، كمن لم يستطع النوم ويريد إنجاز الكثير من المهام التي تحتاج إلى تركيز وصفاء ذهن .. هنا انعدمت أسباب الراحة أو قلت دون إرادة منه، فماذا يفعل؟ هل يقول: لأني لم أنم فلن أستطيع القيام بهذه الأعمال، أم يتجاوز الأسباب التي لم تتح له ويتوجه مباشرة إلى الله ﷿، طالبا منه العون والمدد بالقدرة على التركيز وحسن إنهاء هذه الأعمال؟
لو تبنى الإجابة الأولى يكون تعلقه بالأسباب أكثر من تعلقه بالله ﷿.
ولو تبنى الإجابة الثانية تكون الأسباب بالنسبة إليه وسيلة تتنزل من خلالها القدرة الإلهية .. والدليل على ذلك أنه لم ينزعج عند انعدامها أو قلتها، بل توجه إلى الله مباشرة طالبا عونه ومدده. والأفضل من ذلك أن يكون حاله في وجود الأسباب كحاله عند عدم وجودها من تضرع وإلحاح على الله ﷿ وطلب العون والمدد منه سبحانه.
علاقة الأسباب المادية بالنصر:
إذن فالواجب يحتك علينا أن نجتهد في تحصيل أسباب القوة، ليتنزل نصر الله ومدده من خلالها دون تعلق بتلك الأسباب، أو اعتبار أن النصر يستلزم وجودها بقدر كبير، وهذا ما كان يفهمه المسلمون الأوائل .. فقد كانوا ينتصرون على أعدائهم وهم أقل منهم عددا وعدة كما حدث في بدر واليرموك وغيرهما من المعارك الإسلامية الخالدة التي أظهرت القدرة والتأييد الإلهي للفئة المؤمنة مع قلة وجود الأسباب المادية معها .. تأمل معي قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران/١٣].
1 / 12
ومن فقه التعامل مع الأسباب:
أننا قد نُعذر إذا ما قصرنا في اتخاذ جميع الأسباب المادية لأمور خارجة عن إرادتنا، ولكننا لا نُعذر في عدم تعلقنا بالله ﷿ وتغيير ما بأنفسنا لأننا جميعا نقدر على ذلك.
ومن ذلك أيضا أنه إن كان قانون السببية من أهم القوانين الحاكمة للأرض، فإن السبب الأساسي الذي يستجلب النصر والتغيير هو تغيير ما بالنفس ونصرة الله عليها، وصدق التوجه إليه، وعدم التعلق بشيء سواه، كما قال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد/٧]، وقال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران/١٢٠]، وقال: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر/٣٦].
وعندما تُترك هذه القوانين يتعلق العبد بالأسباب المادية ولا يتعلق بالله ﷿، فإنه يُخذل ولا يوفق، كما حدث للمسلين في غزوة حنين: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة/٢٥].
من هنا يتضح لنا أن السبب المحوري للنصر والتغيير هو التعلق التام بالله ﷿، وصدق التوجه إليه، وارتداء رداء العبودية له، وهذا لن يتم إلا من خلال تغيير ما بالنفس.
الخلاصة:
وخلاصة القول: أن الوضع المزري الذي وصلت إليه الأمة الإسلامية ما هو إلا نتاج طبيعي لابتعادها عن الله وشرعه، وأنه ﷾ يستطيع أن يغير ما حاق بنا في لمح البصر، وأنه لن يفعل ذلك مهما حدث لنا من ذل وهوان إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا.
إذن فنقطة البداية التي ينبغي أن نبدأها للخروج من النفق المظلم الذي نسير فيه تبدأ مني ومنك .. فماذا نحن فاعلون؟؟
هل سنستمر في البكاء والأسف على أحوال أمتنا دون فعل شيء؟؟
هل سنظل في دائرة الإحباط التي ندور فيها؟ أم سنبدأ من الآن في تغيير ما بأنفسنا؟؟
1 / 13
قال تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ [النساء/٨٤].
ما المقصود بالتغيير؟
خلقنا الله ﷿ وكرمنا على سائر خلقه، وأسجد الملائكة لأبينا آدم، وأعد لنا الجنة لتكون لنا دارا: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء/٧٠].
ولقد خلقنا الله ﷾ وكرمنا هذا التكريم، وأسكننا الأرض وسخرها لنا، لنقوم بأداء مهمة جليلة ألا وهي عبادته ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات/٥٦].
فنحن إذن لم نخرج إلى الأرض لنأكل أو لنشرب أو لنتزوج، بل خرجنا لأداء وظيفة محددة .. وظيفة العبودية لله ﷿.
معنى العبودية:
والعبودية المطلوبة من العبد لربه تشمل خضوعه واستسلامه وانقياده التام والمطلق له.
وأن يكون الله هو غايته ومطلبه ومقصده في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته.
وتشمل كذلك حبه ﷾ حتى يصير أحب إلينا من كل شيء، وأن يكون العمل على رضاه هو شغلنا الشاغل، فنحرص على القيام بكل ما يرضيه، والابتعاد عن كل ما يبغضه.
ومن مظاهر العبودية: أن تصبح تصوراتنا واهتماماتنا، وأفراحنا وأحزاننا متعلقة بالله ﷿، فنحب ما يحبه ونبغض ما يبغضه، ونفرح لما يرضيه ونغضب لما يُغضبه.
ومنها: خشيته في السر والعلن، والتوكل الدائم عليه، والرجاء فيه، ودوام الإنابة إليه، والثقة فيما عنده.
ومنها: دعوة الخلق إليه وتحبيبهم فيه، وجهادهم من أجل نشر دينه، وإعلاء رايته.
1 / 14
امتحان العبودية:
إذن فالوظيفة الأساسية لكل فرد يخرج إلى الأرض هي ممارسة العبودية لله ﷿ في فترة وجوده في الدنيا بداية من بلوغه الحلم وحتى موته .. هذه الوظيفة ليست سهلة على الناس أن يقوموا بها، فالمولى ﷾ جعل المكان الذي يؤدي فيه الفرد امتحان العبودية هو الأرض، وزينها بأشياء كثيرة تميل إليها النفس، ليكون الصراع بين ما يحبه الله ﷿ ويريده من العبد، وبين ما تحبه النفس وتريد تحقيقه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ﴾ [آل عمران/١٤].
فوجودنا على الأرض وما تحتويه من زينة يتطلب منا جهادا لأنفسنا ونصرة لله عليها إن أردنا أن نرتدي رداء العبودية وننجح في الامتحان.
ولقد ربط سبحانه بين ولايته ومدده ونصرته لعباده، وبين نصرتهم له على أنفسهم وتغيير ما بها، كما قال في كتابه: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد/٧]، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد/١١].
والتحقق بمعاني العبودية، وتغيير ما بالنفس، يشمل المفاهيم والتصورات، والمشاعر والوجدانات، والسر والعلانية، والأقوال والأفعال.
1 / 15
وفي المقابل، فكما خلع العبد رداء عبوديته لربه، وسار وراء هواه وازداد تعلقه بالدنيا، وحبه لها، ابتعد عن ولاية ربه واستدعى بأفعاله تلك غضبه ﷾، واستحق عقابه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [الأنفال/٥٣، ٥٤].
شروط الولاية:
الله ﷿ لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بابتعادهم عن ممارسة الوظيفة المطلوبة منهم.
تخيل أن شخصين قد أُرسلا من قِبل رؤسائهما في بعثة إلى بلد من البلدان لأداء مهمة معينة وفي وقت محدد.
أما الأول فقد انبهر بما رآه في هذا البلد وانشغل بملذاته ناسيا المهمة التي جاء من أجلها، والآخر انشغل بوظيفته والمهام التي كُلف بأدائها ... كل ذلك يحدث والتقارير تصل بانتظام لرؤسائهما.
تُرى!! هل تكون مشاعر الرؤساء تجاههما واحدة؟!
وماذا لو احتاجا مساعدة .. فلأيهما ستكون؟! فمن البديهي أن الذي يقوم بمهمته هو الذي سيحظى برعاية رؤسائه وإجابة مطالبه، ومساعدته وقت الحاجة .. أما الآخر فلن يتبناه أحد، ولن يُلتفت إلى طلباته، بل العكس سيحدث، فالعقوبات والجزاءات تنتظره.
1 / 16
ولله المثل الأعلى، فلقد كلفنا الله ﷿ بأداء مهمة محددة على الأرض، فمن اجتهد في القيام بها، فقد عرض نفسه لرضا مولاه، ومن ثمَّ عونه ومدده، أما من ترك مهمته وانشغل بشهواته، فقد عرض نفسه لغضب مولاه، ومن ثمَّ حرمانه من المدد والتوفيق: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل/٥ - ١٠].
إذن فنحن الذين نحدد لأنفسنا الطريقة التي يعاملنا الله بها، فعلى قدر استقامتنا على أمر الله، وقيامنا بمهام العبودية تكون ولايته ونصرته لنا ﷾ ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف/٩٦].
الكرامة والاستقامة:
من هنا يتضح لنا أن كرامة العبد عند الله مرتبطة بمدى عبوديته له، ولا علاقة لذلك بالنسب أو الماضي أو ...، ألم يقل ﷾ لحبيبه ﷺ: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر/٦٥]، وقال تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة/١٢٠].
فالولاية والكرامة على قدر الاستقامة، واستمرارها مرتبط ببقاء حالة تلك الاستقامة، فعلى سبيل المثال: إن الله ﷿ فضل بني إسرائيل على العالمين في فترة من الفترات بسبب صبرهم وتحملهم الأذى في سبيله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾ [الأعراف/١٣٧].
1 / 17
وعندما أساءوا استقبال نعم ربهم عليهم، وقابلوها بالجحود والطغيان واحدة تلو أخرى، كان العقاب الأليم من الله ﷿، والذي وصل مداه بأن جعل منهم قردة وخنازير: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة/١٣].
ومن أوفى بعهده من الله:
يقص علينا القرآن قصصا لناس كانوا يعيشون في رغد من العيش، فلم يستقبلوا تلك النعم بالعبودية المطلوبة، والإذعان لله ﷿، فسلبها الله منهم وأذاقهم العذاب: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل/١١٢].
وفي المقابل، كم من أناس كانوا في جاهلية وتفرق وتشرذم، فغيروا ما بأنفسهم وأصبحوا عبيدا لله ﷿، فكان الوفاء الكريم والسريع منه ﷾ لهم فغير ما بهم من بؤس وضياع، وأعطاهم مفاتيح الأرض ليكونوا سادتها، وذلك في سنوات معدودة ... وما نموذج جيل الصحابة منا ببعيد.
نظرة على الواقع:
فإذا ما أسقطنا هذه القاعدة على الواقع الذي تحياه أمتنا الآن نجد أن ما يحدث لنا من ذل وهوان وبؤس وعذاب لم يأت من فراغ، بل بسبب ما اقترفته أيدينا، فبأفعالنا استدعينا غضب الله علينا .. أم نعطل شريعته ونتحاكم إلى غيره؟
ألم نُنح كتابه ودستوره الخالد ونستبدله بقوانين وضعية تحلل الحرام وتحرم الحلال؟
ماذا نقول في البنوك التي تتعامل بالربا؟
وماذا نقول في الخمور التي تباع جهارا نهارا في كثير من بلدان المسلمين؟
وماذا نقول في سفور النساء واختلاطهن بالرجال؟
وماذا ... وماذا؟
1 / 18
وليت الأمر وصل إلى هذه الدرجة، بل قد انتشر الفساد في كل الاتجاهات، ولم يعُد مقصورا على طبقة دون أخرى، فالمنكرات تملأ بلدان المسلمين .. تفشى الظلم والفساد والغش والكذب بين الناس.
دخلت الفضائيات بيوت المسلمين لتعرض لهم الفحش والفجور ليلا ونهارا، فاستثيرت الشهوات، وانتهكت الحرمات.
أصبحنا في زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر.
ارتفعت رايات الباطل ونُكست رايات الحق.
أُفسح المجال لدعاة العلمانية والتغريب، وغُيِّب صوت الدعاة إلى الله.
أصبح التمسك بالدين يعني التطرف والإرهاب، وأما التفسخ والانحلال فهو الاعتدال والوسطية .. صار بأسنا بيننا شديد، واستعان بعضنا بالكفار وأعداء الدين على إخوانه المسلمين.
تفرقنا على رايات قومية، وتركنا الجهاد في سبيل الله، وتقاعسنا عن نصرة إخواننا المضطهدين في كل مكان.
حب الدنيا:
لقد ملأ حب الدنيا قلوبنا، فأصبحت تصوراتنا وأحلامنا منبثقة منها .. اتجهت أعيننا إلى الأرض وتصارعنا على ما فيها، فوقعنا فيما حذرنا منه رسول الله ﷺ بقوله: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " (١).
الم نرض بالزرع .. ألم نحلم بامتلاك الأراضي، وبناء العقارات .. ألم يشغل تفكيرنا التخطيط لمستقبلنا ومستقبل أبنائنا في الدنيا؟
ألم ننشغل بتنمية أموالنا وزيادة أرصدتنا؟
فماذا نريد بعد ذلك .. وماذا نتوقع أن يحدث لنا؟
إن اقتراف شيء واحد مما سبق ذكره لكفيل باستدعاء غضب الله علينا، فكيف بهذا كله وغيره، مما تمتلئ به بلاد المسلمين؟!!
_________
(١) صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (ج ٣ / ص ٢٩١). وأورده الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (٤٣٢).
1 / 19