كان رجل الأعمال يفهم على حد قوله شيئا في شئون التجارة والمال، ولكنه يجهل كل شيء عن تربية الأطفال! ولذلك فقد سأل طبيب الأسرة «يوهان جوتفريد إيبل» أن يبحث له عن مرب يقوم على تعليم أبنائه. وكان الطبيب يعرف شاعرنا؛ فسعى لدى رجل المال ليلحقه بالعمل الذي تولاه في شهر يناير سنة 1796م. وسرعان ما اكتشف الشاعر أنه يشغل وظيفة رقيقة الحال، وأن من واجب المعلم المسكين ووظيفته أن يبقى دائما في الظل تحت سقف بيت لا يقيم وزنا إلا للمظهر والمال. صحيح أن من حقه أن يحضر الحفلات المختلفة التي تقام فيه، ولكن هذا شيء يسمح به من باب اللياقة وحدها. ولا بد أن يتذكر دائما أنه «هو العجلة الخامسة في العربة»، وأن المعلمين خدم أيضا، ولا يحق لهم أن يطالبوا بميزة خاصة لأنهم يؤجرون على عملهم. وليس هناك شك في أن هلدرلين - الذي نعرف عنه اعتزازه بنفسه على الرغم من بؤسه أو ربما بسببه - لم يكن ليتحمل هذا الهوان لو لم تكن هي هناك؛ كاهنة الحب ... الرقيقة الطيبة سوزيته جونتار!
كانت في نقائها وجمالها الشاعري الهادئ أشبه «بفينوس» في لوحات الرسام الإيطالي الشهير تيسيان (1490-1576م). وكان يشع من جسدها الناصع ووجهها اللطيف وعينيها الزرقاوين اللامعتين وشعرها الكستنائي وملامحها الناعمة الطيبة وشخصيتها الحنون العطوف؛ كانت تشع منها هالة من السحر الذي لا يقاوم، ولا يتصور إنسان لفرط جماله ونقائه وترفعه أنه يمكن أن يكون من هذا العالم .. كانت تحضر الحفلات التي يقيمها زوجها ولا تشارك فيها، وكانت كل عين تنظر إليها تدرك على الفور أنها أمام روح نبيلة مهذبة وقلب هادئ مفعم بالرحمة والخير. وكانت أجمل ما تكون وهي تداعب أولادها أو تجرب النغمات على أصابع معزفها .. هناك تبدو مشرقة طيبة مضحية حريصة على الواجب الأسمى، سعيدة به كل السعادة. وهناك يحلو للإنسان أن يقترب منها كما يقترب من نبع طاهر .. وكان حبها للموسيقى والغناء يفوق كل شيء. ولا بد أن وجود الشاعر في بيتها قد حرك شفتيها بعد صمت طويل. ولا بد أن هذا الغناء هو الذي ألهم هلدرلين هذه السطور من روايته «هيبريون»: «عندما كانت تغني، كان الإنسان يعرف فيها تلك المحبة الصامتة التي لا تميل بطبعها للكلام. هناك تتبدى تلك الأبية السماوية في جلالها وحسنها، هناك ترف الأغنية في معظم الأحيان متضرعة ودودا من الشفاه الرقيقة المتقدة، وتنبعث في أحيان أخرى كأنها وصية من وصايا الآلهة. وكم كان القلب يجيش في هذا الصوت الإلهي! وكم كانت العظمة والتواضع! كم كانت كل أفراح الحياة وأحزانها تبدو أجمل مما هي عليه في نبل هذه الأنغام وروعتها! لم نكن نحس بالبهجة ولا بالإعجاب، كنا نشعر بأن السلام يهبط علينا من السماء. ألف مرة قلت لها ولنفسي: أجمل الأشياء هو أقدسها. هكذا كان كل شيء فيها. وكما كان غناؤها، كذلك كانت حياتها ...»
سوزيته جونتار (ديوتيما).
لكن كل هذا الجمال يظل كملك عاري الرأس لا يكسوه إلا تاج العطف والحدب على آلام الناس. يظل نارا لا تضيء، شمسا لا تدفئ، سيفا قاسيا براقا يسلط علينا ويشعرنا بفنائنا وضعفنا وقدرنا الحزين .. هنالك لا يطلب الإنسان المتعة في حضن الأنثى، بل ينشد الأمان على صدر من أصبحت هي الأم والأخت والحبيبة التي تحنو وتفهم وتعلم. وهناك تبدو له كل همومه القديمة كحماقات الأطفال .. ويعجب لنفسه كيف عاش حتى هذه اللحظة تعيسا بلا أمل ولا حب ولا إيمان .. وينتفض كالنسر الذي تذكر جناحيه، ويشع نور الربيع على حياته المظلمة فتدب فيها الصحة والقوة والفرحة والشباب .. وهناك أخيرا يتوقف المطارد الغريب الذي طالما هام على وجهه ويفكر في المأوى والبيت .. إن لقاءه القدري يرفعه فوق سأم أيامه المكرورة، ينبت له جناحين يرفرفان في أعياد البهجة، يذيب كيانه الواحد في الكل الأكبر، يجعل قطرة اللحظة العابرة تتسع لبحر الزمن الأبدي .. «ربما أوفق إلى رسم لمحة واحدة من ملامح وجودها، ولكن لا بد أن أجد ساعة مواتية بعيدة عن كل إزعاج لكي يتاح لي الكتابة عنها ...» هكذا يكتب هلدرلين بعد دخوله بيت هذه الأسرة ببضعة شهور.
5
ثم لا يلبث بعد ذلك أن يكتب في روايته هذه العبارة: «أحسسنا أن كلا منا خلق للآخر، قبل أن يفطن أحدنا إلى ذلك.»
كانت سوزيته قد سمعت بهلدرلين قبل أن تلقاه بسنة واحدة. فقد أهداها صديقها السويسري الشاب «تسيرليدر» نسخة نقلها بخط يده من «شذرة هيبريون» التي نشرت في مجلة «ثاليا» التي يصدرها شيلر .. ولعل هذه الكلمات التي لا شك أنها قد قرأتها في الشذرة لم تكن وليدة الصدفة: «سوف أعثر عليها مرة أخرى، في أية مرحلة من مراحل الوجود الأبدي.»
ولم يكن من محض الصدفة أن يتحول الشاعر في قربها إلى خاشع ينصت، وتلميذ يتعلم. لقد التقى «هيبريون» «بديوتيما». لا بل إنه يعيش الآن في بيتها ويربي أبناءها .. ويكفي أن نستمع إلى هذه القصيدة
6
التي كتبها بعد فراقه لها لنرى كيف كان يتطهر من نبعها وينصت لصوتها:
نامعلوم صفحہ