3
إنني مصاب بكآبة من نوع خطير؟»
ويكتب إلى صديقه «نويفر» إنه أصبح عاجزا عن البهجة، ويتوسل إليه أن يسري عنه كلما اشتدت محنته، ولا ينسى وهو يرجوه الكتابة إليه عن أحواله أن يقول «ربما بعث هذا نورا يبدد ظلامي.» وتبلغ الشكوى ذروتها في كل كلمة من كلمات هذه العبارة: «... هكذا أجلس بين جدراني المظلمة، وأحسب كم أنا فقير من بهجة القلب فقر الشحاذين، وأعجب من زهدي وصدودي!» هنا نجد جدران السجن الذي يطويه والظلام الذي لا يقوى على الخلاص منه، والتفكير الذي لا ينقطع في فقره، والعجب الذي لا ينقضي من زهده وصده وتخليه. وما أشد المرارة والسخرية جميعا في هذه الكلمات!
لم يدخر هلدرلين وسعا في تعذيب نفسه، وتلك سمة المنطوين والمنعزلين المتوحدين. ولكننا نخطئ إن حاولنا تفسير ذلك تفسيرا نفسيا أو مرضيا. صحيح أنه وصف نفسه وهو في الثانية والعشرين من عمره بأنه شاعر مريض .. ولكنه قال عن نفسه كذلك إنه فقير كالشحاذ، وهو قول لا يستغرب من إنسان يسعى إلى الحقيقة ويكافح من أجلها، ويحتمل العذاب والحرمان والهوان في حجه إليها. إن الفقر هو زاد الباحث عن الحقيقة، والتجرد عصاه على الطريق. وبحثه عن الحقيقة بحث عن المطلق. ووجود هلدرلين كله تحرر وانطلاق من أشكال الحياة المألوفة، من التقاليد الدينية، من الأنظمة والمذاهب الفكرية، من المفاهيم الفنية الشائعة في بيئته .. وهو يبني حياته وشعره بعيدا عن كل التصورات المألوفة على عهده. ولا يركن إلى شيء أو إنسان حتى يتحرر منه ويفلت من أسره. وكأنه المسافر الغريب أبدا، قد يمد يده لعابر طريق، ولكن ليلتقط أنفاسه ويستأنف رحلته .. فإذا طال السلام والكلام، ووجد أن الغريب سيهدد حريته أو يعطل سفره، نبهه قدره أو وحيه، وأعاده من جديد إلى فقره. ستكون هذه اللقاءات العابرة في أواخر حياته هي المصائب والمحن التي تضفي عليه سمت الأنبياء وتجعل لأغانيه رنين الوحي الملهم من ربات الفن وآلهة الأوليمب. وستكون في سنوات شبابه أشبه بتكسر الأغلال على صوت الضحكات، ليخرج منها الشاب أشد حرية وجسارة.
استمع إليه وهو يعبر عن هذا في قصيدته عن نهر الراين:
لذلك كانت كلمته تهليلا.
إنه لا يحب، كسائر الأطفال،
أن يبكي في الأربطة،
فحيث يتسلل الشاطئان
المتعرجان على جانبيه،
نامعلوم صفحہ