1
ثم إن الدكتور «شلبي» يعمد إلى إعادة تفصيل هذه المسألة في موضع آخر من كتابه، فيقول: «إن هؤلاء البدو استطاعوا أن يلعبوا دورا مهما في تجارة العالم، في تلك الأزمان السحيقة ... ولم تكن سفن ذلك العهد تستطيع استعمال البحر الأحمر المملوء بالجزر، التي تجعل الملاحة خطرا عليها، ومن عيوب الملاحة في البحر الأحمر أيضا أن شواطئه قليلة الموانئ، وأن به كثيرا من الشطوط الضحلة، التي كان اقتراب السفن منها أمرا محفوفا بالخطر. ولم تكن السفن تستطيع استعمال الخليج الفارسي؛ بسبب وجود الفرس على ساحله الشمالي، وهم أعداء لسكان حوض البحر المتوسط؛ وعلى هذا «أصبحت المواصلات البرية هي الطريق المهم للتجارة عبر البادية»، بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب، وقد حدد البدو أماكن للراحة والاستجمام طوال الطريق، فكانت بمثابة محطات يتزودون منها بالماء والزاد، وكانت أيضا بمثابة مخازن يودعون فيها بعض المتاجر لتلحق بقافلة أخرى عبر طريق آخر.»
2
ويضيف هنا الأستاذ «أحمد أمين» قوله: إن «طريق البحر لم يكن طريقا مأمونا، فالتجأ التجار إلى البر يسلكونه، ولكن طريق البر نفسه كان طويلا وخطرا؛ لذلك أحاطوه بشيء من العناية؛ كأن تخرج التجارة في قوافل، وأن تسير القوافل في أزمنة محددة، وطرق محددة.» ثم يشير إلى تحول هو جد خطير؛ برغم أنه كان ناتجا طبيعيا من تحول مكة من مجرد محطة على الطريق، تأخذ عشورها وضريبتها، إلى حاضرة تجارية تظهر فيها طبقة من التجار تحتكر الأمر لنفسها، فيقول:
ثم انحط اليمنيون ... وحل محلهم في القبض على ناصية التجارة عرب الحجاز، وكان ذلك منذ بداية القرن السادس للميلاد؛ فكان هؤلاء الحجازيون يشترون السلع من اليمنيين والحبشيين، ثم يبيعونها على حسابهم في أسواق الشام ومصر، وقليلا ما كانوا يبيعونها في أسواق فارس؛ لأن التجارة مع الفرس كانت في يد عرب الحيرة. وجعل عرب الحجاز مكة قاعدة لتجارتهم، ووضعوا الطريق تحت حمايتهم.
3
ومصداقا لقول الأستاذ «أحمد أمين» نجد الروايات الإخبارية تجمع على قيام «تبع» ملك اليمن في وقت مبكر بحملة لإخضاع مكة ويثرب، كأهم المحطات التجارية على الطريق.
ويقول «المسعودي»: «وهو الملك السائر من اليمن إلى الحجاز، وكانت له مع الأوس والخزرج حروب، وأراد هدم الكعبة، فمنعه من كان معه من أحبار يهود.»
4
كما تجمع هذه الروايات على عدد آخر من محاولات ملوك حمير التبابعة، لتوسيع نفوذهم وسيطرتهم على الخطوط التجارية في أماكن مختلفة من الجزيرة، ومنها قيام «تبع بن ملكي كرب» بتجريد حملتين: الأولى على طريق التجارة مع الفرس، وقصدت منطقة الحيرة؛ والثانية على طريق الشام مصر، وقصدت الحجاز؛
نامعلوم صفحہ