قصي بن كلاب
تنبئنا كتب الأخبار أن محاولات السيطرة على مكة مسألة قديمة، تعود في قدمها إلى قبيلة جرهم، وهي من أصل يمني قحطاني؛ وكيف أنه قد اصطرع حول مكة عرب الجنوب القحطاني وعرب الشمال العدناني، فتنتقل من سيادة جرهم إلى سيطرة إياد بن نزار، ليغلبه عليها بعد ذلك مضر، ومن مضر تنتزعها خزاعة اليمنية مرة أخرى، لينتهي بها الأمر إلى الاستقرار في يد قريش؛ في قبضة قصي بن كلاب.
ومن البداية كان واضحا «مدى دهاء قصي ووعيه السياسي»، وإدراكه لما يحدث على المستوى الاجتماعي من جدل وتغير مطرد؛ إبان سعيه العبقري للاستيلاء على السلطة، وانتزاعها لقريش من خزاعة؛ فقام يتودد إلى حليل سيد خزاعة، وأدى الود إلى وداد المصاهرة، فتزوج قصي بنت حليل. وهنا يروي ابن هشام، فيقول: «إنه لما هلك حليل ... رأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة ... فكلم رجالا من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة من مكة، وبخدعة استطاع أن يشتري من أبي غبشان الخزاعي - وكان عجوزا خرفا - مفاتيح الكعبة، مقابل زق من الخمر وقعود، في ليلة سامرة.» ويقول الحافظ ابن كثير: «فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق من الخمر وقعود؛ فكان يقال: أخسر من صفقة أبي غبشان.» ويزيد ابن هشام بقوله: «فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا؛ أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة، فحاز شرف مكة كلها.»
1
ونفهم من كتب التراث أن خزاعة لم تستطع استعادة أمرها على مكة، بعد أن تحالف مع قصي القرشيون والكنانيون وغيرهم، حتى انتهى الأمر بطرد الخزاعيين من مكة، وتولى قصي أمر الكعبة، وبدأ بفرض الضرائب والعشور على القوافل التجارية المارة بمكة مقابل تأمينهم وتأمين السقاية والرفادة لهم. ويقول «المسعودي»: «واستقام أمر قصي، وعشر على من دخل مكة من غير قريش، «وبنى الكعبة»، ورتب قريشا على منازلها في النسب بمكة.»
2
وهو قول يشير إلى تطور في خطط قصي لرفع شأن دولته المكية عن طريق الكعبة واستضافتها أرباب القبائل الأخرى، ثم إن «المسعودي» يربط بين خطط قصي ومعنى التقريش (من قريش) والإيلاف (بمعنى الأمن)؛ وهو أمر يظهر وعيا سياسيا واضحا تمثل بعد استيلائه على السلطة في إيفاد الرسل إلى الممالك على أطراف الجزيرة لإقامة علاقات مع هذه الممالك؛ ليعطي مكة بذلك دور الدولة. وبهدف طمأنة هذه الممالك على تجارتها ليستمر النشاط المار بمكة، فيقول المسعودي: «وأخذت قريش الإيلاف من الملوك، وتفسير ذلك الأمن، وتقرشت، والتقريش الجمع.»
3
في حين يشير ابن كثير إلى منحى ثان في معنى التقريش وقريش ، يظهر بوضوح بداية تكون المجتمع المستقر، مرتبطا بالنشاط الاقتصادي؛ أو التغير في بنية المجتمع المكي مع الاستقرار الملازم لتعاظم دورها لتصبح أهم محطة ترانزيت. ثم كان محتما أن تكون أكثر المحطات أمانا؛ قياسا على ما أفرزه الواقع السياسي العالمي، من انهيار تام لأنظمة حفظ الأمن التجاري على الخطوط الدولية، وما نتج عن ذلك من تراكم الثروة اللازمة لتحولات المجتمع المكي، وذلك بربطه بين معنى القرش، ومعنى الكسب والتقرش؛ فيقول: «وأما اشتقاق قريش؛ فقيل من التقرش وهو التجمع بعد التفرق. وذلك في زمن قصي بن كلاب؛ فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم، وقد قال حذافة بن غانم العدوي:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا
نامعلوم صفحہ