وأدركت ما يحدق به من خطر؛ فاقتادته إلى بيتها، وأوصدت بابه، وقالت له: «يا لها من خطة تقوم على المخاطرة! كيف سولت لك نفسك أن تلج طروادة ولا رفيق ولا معين؟ أما زال الإغريق يحلمون باقتحام طروادة والاستيلاء عليها؟ ترى هل سيقتلني مينيلاوس إذا تحقق حلم الإغريق، واقتحموا المدينة، أم سيكفيه أن يأخذني إلى إسبرطة؟ لو كان قاتلي فمن الخير لي أن أموت في طروادة. كم أنا نادمة على ما وقع مني! لقد تسرعت وضعفت أمام إغراء باريس ومعسول كلماته، ولم أقدر عواقب صنيعي. يا ليتني بقيت هناك في إسبرطة، أعيش حياة هادئة، ولم أجر على قومي وعلى الطرواديين كل ما يلاقونه من ويلات.» ثم انخرطت في بكاء حار، ونحيب متصل.
وهدأ أوديسيوس من روعها، وقال لها: «إن الإغريق لن يستطيعوا اقتحام طروادة، والاستيلاء عليها، ما دام تمثال الربة أثينة قائما في معبدها. هكذا تقول النبوءة. وقد جئت وصديقي ديوميديس - الذي ينتظرني خارج الأسوار في مخبأ أمين - نحاول سرقة التمثال. ولن يرهقنا التغلب على الحراس لو حاولت مساعدتنا.»
وانفرجت شفتا هيليني عن ابتسامة مبللة بالدموع، فبدت في عيني أوديسيوس متألقة كما لم تتألق من قبل قط؛ بل إنها اكتست ثوبا من الجمال والفتنة أروع من أي وقت مضى. لقد كان جمالها من ذلك الجمال الخلاب، الذي يندر أن يتأثر بمرور الزمن، ويزيده الحزن تألقا وازدهارا.
وتروت هيليني في الأمر، ثم ما لبثت أن قالت: «إذا استولى الإغريق على طروادة، فمن ذا الذي يحكي لهم ما فعلت؟ أي أوديسيوس، إنني إغريقية مثلك، وسأعمل على معاونتك في مهمتك. هيا، تعال معي لأريك كيف تنفذ إلى المعبد، ثم إلى الخارج.»
وقادت هيليني أوديسيوس في طرقات المدينة، حتى بلغت بابا صغيرا، برز عنده ديوميديس، ثم عادت بهما إلى المعبد، وقفلت راجعة إلى بيتها، كأنها لم تصنع شيئا.
ولم يجد الرجلان مشقة في قتل الحارس، ثم دخلا إلى المعبد، فلم تصادفهما صعوبة في الاستيلاء على التمثال. وانطلقا به في شوارع المدينة الخاوية الساكنة في هدأة الليل، حتى بلغا ذلك الباب الصغير، فعبرا منه إلى الفضاء الفسيح، يهرولان نحو المعسكر الإغريقي؛ ليضعا تمثال الربة أثينة بين أرجائه، برهانا على دقة الخطة، ومهارة التنفيذ.
وظن الإغريق - عندئذ - أن طروادة باتت وشيكة الوقوع في أيديهم؛ فقد صنعوا ما أوحت به النبوءة، ولكنهم كلما حاولوا اقتحام أسوارها صدهم الطرواديون على أعقابهم مدحورين مخذولين.
رأى الحكيم كالخاس أن القوة ليست الوسيلة المثلى للاستيلاء على طروادة، وأن الحيلة قد تكون أجدى من القوة. فعليهم أن يفكروا في حيلة ذكية ماهرة للإيقاع بالطرواديين، واقتحام طروادة.
وأعمل أوديسيوس فكره، فتفتق عن خطة ماكرة. وقال يشرح خطته: «هيا بنا نصنع من الخشب المتين حصانا ضخما، يتسع جوفه لجميع أبطالنا، وعلى الباقين من الإغريق أن يشعلوا النار في الخيام، وأن يبحروا بالسفن، حتى يظن من يراهم أن الإغريق قد آثروا العودة إلى بلادهم. ولا يتخلف منا إلا رجل واحد يكون غير مألوف الوجه للطرواديين، ولنوثق يديه وراء ظهره، ولنلطخ وجهه بالقاذورات والدماء، حتى يقع في وهم من يراه أنه غريب عنا، وأنه قد لقي من سوء معاملتنا ما تظهر آثاره عليه.
وأعتقد أن الطرواديين سيسارعون إلى الخروج من حصونهم فور رؤيتهم الخيام تندلع فيها النيران، والسفن تمخر عباب البحر، وذلك ليلقوا نظرة على مخلفات المعسكر الإغريقي، وليسعدوا بفوزهم وقهرهم الإغريق. وسيروعهم أن يجدوا الحصان الخشبي الضخم الكبير واقفا. وهنا يتقدم منهم هذا الرجل الغريب الوجه؛ لينبئهم بأن الإغريق صنعوا هذا الحصان قربانا للربة أثينة، وتكفيرا عن خطيئتهم بسرقة تمثالها من المعبد. ويحكي لهم عما قاساه هو من الإغريق، ومحاولتهم أن يقدموه ذبيحة للربة أثينة، لولا أن نجا منهم بأعجوبة!
نامعلوم صفحہ