ہیروڈوٹ: مختصر تعارف
هيرودوت: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
1
فهل ينتمي المؤرخون حقا إلى هذه القائمة؟
يقول أشد نقاد هيرودوت: كلا. ويصرخون قائلين: ألا ترون؟ كل هذه الاستشهادات بالمصادر - «أخبرني الكهنة»، «يقول المقدونيون»، «هذه هي رواية أهل كريت ... لكن الكاريون يختلفون معهم» ... إلخ - وهذا الادعاء بشهادات شهود العيان، أليس هذا ما كان سيقوله المرء «لو كان مختلقا الأمر برمته»؟ مؤكدين أن هيرودوت لم يسافر على نطاق واسع، بل اعتمد بالأحرى على روايات الآخرين، وعندما لا يجد هذه الروايات - كما كان الحال عادة - كان يختلقها ببساطة. هذه الادعاءات من أنواع مختلفة؛ إذ يؤكد بعض الأكاديميين أن هيرودوت يكذب بتبجح، محاولا تضليل جمهوره، فيما يجادل آخرون بأنه كان يكتب في إطار لون أدبي خيالي معروف جيدا، وأن معاصريه لم يخطر لهم ببال أننا نحن المحدثين سنخضع حتى الحكايات الفولكلورية المحضة الواردة في «تاريخ هيرودوت» إلى المعيار الإثباتي الذي لم يكن قد تطور بعد. فكيف يمكننا التعامل مع هذه الادعاءات؟
يقول هيرودوت فعلا إنه سافر على نطاق واسع، ولا تدع أوصافه المفصلة للقرابين المقدمة في دلفي في بر اليونان الرئيس وملطية في أيونيا، إلا مجالا قليلا للشك في أنه رآها رأي العين، لكنه يذكر صراحة أيضا أنه سافر جنوبا حتى جزيرة إلفنتين عند الجندل الأول بنهر النيل، وشمالا حتى منطقة البحر الأسود أثناء استقصائه السكيث، وكذلك إلى صور في فينيقيا. وهو يقينا يريد منا، على نحو أقل صراحة، أن نصدق أنه زار بابل وقورينا في ليبيا، فهل يمكننا التأكد من أنه سافر فعلا على هذا النطاق الواسع؟
لو أننا سنكون أمناء تماما مع أنفسنا، فلا بد أن نعترف بأننا لا يمكننا ذلك. ربما حصل هيرودوت في بعض الحالات على معلومات من أحد السكان المحليين ممن رحلوا عن موطنهم، أو زائر سابق، أو نص مكتوب، بدلا من ذهابه شخصيا كما يوحي في بعض الحالات أو يصر في بعضها الآخر. وثمة شذرة من عمل هيكاتايوس تبين أنه كان مصدر وصف هيرودوت البائس لفرس النهر، الذي له شعر في العنق وذيل حصان، فليس هيرودوت وحده الذي لم ير فرس نهر، بل الظاهر أن هيكاتايوس هو الآخر لم يره! ويجب أن نعترف أيضا أن بعضا من الأشياء التي يقولها تستعصي على التصديق، وهناك مثالان يقدمان أنواعا مختلفة من التحديات؛ فكل من المصريين والعرب، حسبما ذكر، يقولون إن أبا منجل يحظى بإجلال كبير في مصر نظرا للخدمة التي يسديها بقتله الثعابين المجنحة التي تطير من شبه الجزيرة العربية، وليس هذا فحسب؛ إذ يروي أنه رأى بنفسه الهياكل العظمية للثعابين الطائرة بأعداد لا تحصى. وهذا مستحيل، لأنه لا توجد الآن ثعابين مجنحة، كما لم تكن موجودة في زمان هيرودوت، فما الذي يحتمل أن يكون قد رآه واشتبه عليه فظنه هياكل عظمية لأفاع مجنحة؟ ليس واضحا، وقد استغل منتقدوه هذا كدليل مادي على تدليسه. ويدعي آخرون أن النص الإغريقي يمكن تأويله بحيث يعني «رفات» لا هياكل عظمية، وأنه ربما كان يعني الجراد، ويظل هناك فريق ثالث يعتبر هذا لغزا لم يحل بعد. ثم هناك حالة ميليس والأسد؛ فهيرودوت يحكي لنا أنه قيل لميليس، وهو أحد ملوك سارديس، إن الأعداء لن يستولوا على المدينة أبدا لو حمل الأسد الذي أنجبته له محظيته ودير به حول أسوارها، لذا يأمر، منصاعا، بحمل الأسد والدوران به حول التحصينات، ما عدا بقعة واحدة اعتبر انحدارها الحاد كافيا للدفاع عنها، وعند هذه البقعة المنحدرة بالضبط استولى رجال قوروش فيما بعد على المدينة عندما صار كرويسوس ملكا.
أسد ولدته محظية! يا لها من وصفة شائقة للنجاح: «خذ الأسد الذي أنجبته محظيتك و...» هذا يقينا مثار بلبلة! ولعل هذه المقولة العابرة تجعلنا - أكثر من أي نص آخر في «تاريخ هيرودوت» - نريد زيارة هيرودوت في العالم الآخر، وسؤاله عما كان يجول بباله عندما كتب هذه الكلمات، التي رواها على لسانه هو شخصيا من دون أي من عبارات مثل «يقال إن ...» أو «يزعم شعب سارديس». فهل لو فعلنا، سيجيبنا بغمزة من عينه؟
دعونا نلعب دور محامي الشيطان ونسأل كيف أمكن لهيرودوت أن يعرف أي شيء أصلا عن مادته العلمية، من حيث تعلقها بأزمنة وأمكنة بعيدة عن عالمه؛ فلم يكن يجيد أي لغة غير لغته، وربما كان رواته من السكان المحليين جهلة، (أو عابثين، كأن يقول أحدهم: «لن يخطر ببالك قط ما الحيلة التي انطلت على الرجل الإغريقي اليوم!») والتراث المسموع لا يعول عليه، ولا سيما بعد الجيل الثالث؛ فقدر كبير مما يقول يبدو مشكوكا فيه بالنسبة لنا، فهو يبالغ كثيرا في تقدير حجم جيش خشايارشا، فقوامه في البداية 2317610 رجال، ثم 2641610 بعد انضمام حلفاء إليه في طريقه، وأخيرا مجموعه الكلي 5283220 فردا، بحساب العبيد وأتباع المعسكر وطواقم قوارب الإمدادات وغيرها من المركبات التي انطلقت مع الحملة. وبحساب هيرودوت، بينما كان طليعة الجنود يصلون إلى ثيرموبيلاي، كان أفراد المؤخرة ينطلقون لتوهم من سوسة، لقد شربوا أنهارا حتى جفت وهم في طريقهم، فجيش خشايارشا ليس فقط أكبر شيء في «تاريخ هيرودوت»، بل إنه الشيء الذي يعتبر حجمه السمة المحددة للكتاب بأكمله. وبالنسبة لانقضاضة ماراثون الشهيرة، فإن التجارب التي أجريت في جامعة بنسلفانيا الحكومية بالولايات المتحدة تشير إلى أنه لا يستطيع أحد العدو لمسافة ميل مرتديا درع قوات المشاة الثقيلة. وبخصوص أريون، لماذا اختلق كل من الكورنثيين وأهل ليسبوس القصة ذاتها عن إنقاذ الدلفين له؟ كذلك فإن الأسماء الفارسية لم تكن كلها تنتهي بحرف «س» كما زعم هيرودوت. وتظهر السجلات الهيروغليفية أنه لم يمت أي عجل أبيس سنة وصول قمبيز إلى ممفيس، ويبدو أن هيرودوت يستخدم عادات السكيث في تبيان التضاد بينهم وبين الإغريق. أفلا نتساءل حينئذ عما إذا كان ما يقوله عنهم صحيحا أم لا؟ فهل يقينا يصعب تصديق ما قاله عن ذلك النمل المنقب عن الذهب في الهند؟ كما لم يشتمل النصب التذكاري الذي كرس في دلفي بعد انتصار بلاتايا على نقش فوق الحامل الثلاثي، كما يقول هيرودوت، بل بالأحرى كان النقش فوق القاعدة، وهو لم يكن يتألف من أفعى لها ثلاثة رءوس، كما جاء في «تاريخ هيرودوت»، بل بالأحرى من ثلاثة ثعابين متضافرة لكل منها رأسه، ومع ذلك يدعي هيرودوت أن لديه دراية كبيرة بالقرابين في دلفي؛ فهل حقا ليس على دراية بها من الأساس؟ وبكل تأكيد، سيكون لنا تحفظات في الحكم على حكاية رامبسينيتوس.
تقع هذه الأشياء التي ظاهرها أكاذيب ضمن فئات عديدة؛ فأعداد قوات خشايارشا المضخمة ربما كانت خطأ بسيطا، فربما خلط هيرودوت بين رقم الألف الفارسي ورقم العشرة آلاف، أو بدلا من ذلك ربما يكون قد بالغ ليجعل انتصار الإغريق أعظم شأنا، لكن من المحتمل أيضا أنه كان يفتقر إلى فهم الأرقام الكبيرة. أما بالنسبة للانقضاضة المزعومة لمسافة ميل من جانب الأثينيين في ماراثون، فمن السهل أن نرى كيف كان يمكن أن يتذكرها الجنود على هذا النحو - فالمهام العسيرة غالبا ما تبدو أكثر حضورا في الذاكرة - بل ومن الأسهل أن نرى كيف أنهم ربما بالغوا على سبيل التباهي في سرد تفاصيل انتصارهم المذهل. وفيما يخص أريون، فقد كان هناك مؤمنون بمن يركبون الدلافين في كل من كورنثة وميثيمنا، وهي مدينة كبيرة في جزيرة ليسبوس، وكذلك في تايناروم، وهي النقطة الواقعة في بيلوبونيز التي قيل إن الدلفين ألقى أريون على برها (وفيما بعد سجلت حالات إنقاذ للقديسين المسيحيين بواسطة الدلافين. ولن أبدي رأيا فيما يتعلق بميل الدلافين التاريخي إلى نقل المسافرين بحرا بطريقة الأوتوستوب). أما انتهاء الأسماء الفارسية كافة بحرف «س» فهو خطأ محض (وغير هام) مبني على الجهل؛ إذ ظن هيرودوت أن الصيغ الإغريقية من الأسماء هي الصيغ الأصلية. وغزو قمبيز الممقوت لمصر يفسر تماما اختلاق الكهنة المحليين حكاية طعنه عجل أبيس، وهي قصة قابلة للتصديق كلية لم يكن لدى هيرودوت مبرر لنبذها. وتشير الشواهد الأثرية إلى أن وصف هيرودوت لممارسات الدفن السكيثية مبني على حقائق؛ إذ أماطت الحفريات التي نفذت في تلال المدافن اللثام عن اكتشافات من قبيل الاثني عشر حصانا المرتدية ثيابا فخمة كاملة، التي عثر عليها في كازاخستان سنة 1999. وليس ذلك فحسب، حيث أثبتت الباحثة ستيفاني وست، المتخصصة في الدراسات الكلاسيكية، وآخرون أن «رسالة» السكيث إلى دارا المؤلفة من طائر وفأر وضفدع وسهام تبين أنها من النوع نفسه الذي تنتمي إليه مراسلات أخرى جرت بين أشخاص من عصر ما قبل الكتابة؛ ففي 1303، أرسل الأمير المنغولي توقطاي إلى منافسه نوجاي معولا وسهما وحفنة من التراب، وهي الرموز التي ترجمها نوجاي على أنها: «إذا اختبأت في باطن الأرض فسوف أستخرجك، وإذا صعدت إلى السماء فسوف أسقطك، فلتختر ساحة قتال.» ويبدو أن هذا إلى حد كبير هو ما قصده توقطاي. لكن إساءات التفسير أمر محتمل الحدوث دائما؛ ففي 1819، أهدى ضابط روسي خان خوارزم (خيوة) مخروطين من السكر وعشرة أرطال من الرصاص وعشرة أرطال من البارود وعشر زنادات بندقية، فاستنتج الخوارزميون أن مخروطي السكر يعرضان السلام والصداقة اللطيفة، وأما الذخيرة فتوحي بأنهم إذا لم يوافقوا على هذه الصداقة، فسوف يشن الروس عليهم حربا. والواقع أن الروسيين لم يقصدوا ذلك، وكل ما هنالك أنهم غلب على ظنهم أن هذه الأصناف المختارة ستكون هدية طيبة! ومع ذلك فإن سوء الفهم يوضح تاريخية الرسائل التي من قبيل الرسالة التي ينسبها هيرودوت إلى السكيث. وبالنسبة للنمل سيئ السمعة المنقب عن الذهب، ربما نكون بصدد مشكلة لغوية بسيطة؛ ففي أواخر القرن العشرين، اكتشف الإثنولوجي الفرنسي ميشيل بيسيل ومستكشفون آخرون أن القوارض المكسوة بفراء خشن المعروفة باسم المرموط، التي تقارب في حجمها ووزنها حجم القطة المنزلية ووزنها، تقذف إلى أعلى بتراب يحوي الذهب أثناء حفرها جحورها في واحدة من أشد المناطق وعورة في جبال الهيمالايا، وأفاد الناس الذين يعيشون هناك أنهم يتربحون من عمل المرموط هذا منذ أجيال. وقد اعتبر هيرودوت أن كلمة «مرموط» بالفارسية تعني «نملة جبلية»؛ إذن فهي ربما ليست حكايات غير معقولة في نهاية المطاف. وفيما يخص عمود الأفاعي الشهير، فإن الإمبراطور الروماني قسطنطين كان قد أمر بنقله إلى القسطنطينية، حيث استمتعت أنا نفسي بتمحيصه سنة 1993، وقد انفصلت الرءوس بعد موت هيرودوت بنحو ألفي سنة، لكن أجساد الثعابين ما زالت مصونة، ولو لم آت لرؤيتها وأنا على علم بخلاف ذلك، لكان من الجائز تماما أن أعتبرها ثعبانا واحدا.
نظمت قصة رامبسينيتوس، التي زعم أن الكهنة المصريين يروونها، ببساطة بتجميع موضوعات فولكلورية. المهم أن هذه هي المرحلة التي يعلن فيها هيرودوت - الذي نأى بالفعل بنفسه مرتين عن القصة بنسبتها إلى آخرين - أن «أي شخص يجد أشياء كهذه محل تصديق يمكنه أن يصنع من هذه الحكايات المصرية ما يشاء، ووظيفتي طوال هذا السرد هي مجرد تسجيل، أيا ما كان ما أسمعه من كل مصدر من مصادري.» إن هيرودوت يسعى يقينا إلى تأمين نفسه هنا، بل وربما أكثر مما يجب؛ بما أن قراءه ببساطة لن ينظروا إلى هذه القصة نظرتهم إلى الانتصار الذي تحقق في سلاميس.
وأخيرا، فإن مقدار المعلومات الدقيقة في «تاريخ هيرودوت» مذهل في ضوء العقبات الكثيرة التي وقفت في طريقه، كالمسافات الهائلة وحواجز اللغة والتضليل العمدي أو الفكاهي من قبل الرواة المحليين. وتواصل الاستقصاءات الأثرية الجارية في أصقاع كثيرة من العالم تأكيد حقيقة كثير مما نجد في كتاب هيرودوت؛ فمدافن السكيث هي ما نراه سطحيا والبقية تأتي، وما زال علماء المصريات تذهلهم مدى إصابة هيرودوت فيما كتب، واكتشف الاختصاصيون القادرون على قراءة اللغات التي أربكت هيرودوت أن النصوص القديمة تؤكد اكتشافاته أكثر مما تدحضها. ولو كان هيرودوت كاذبا في بعض مما يرويه لكان من الممكن أن يفنده إخوانه الإغريق بسهولة. وقد ركز بعض منتقصي قدره على تعداده القتلى الأثينيين في ماراثون بأنهم 192، لا أكثر من ذلك ولا أقل، مؤكدين أنه اختلق هذا الرقم بالضبط لترجيح العدد القليل جدا من الرجال الذي يزعم أن الأثينيين فقدوه، لكن الأثينيين كانوا يعرفون تماما عدد من قتلوا هناك، حيث سجلت أسماؤهم على شواهد القبور. وقد اكتشف الآن النقش الذي يخلد ذكرى الموتى من عشر الأثينيين الذي ينتمون إلى قبيلة إريكتيد، ويبدو أنه يحمل ما بين 25 إلى 30 اسما، وهو رقم من شأنه تأكيد أن إجمالي ضحايا المعركة يبلغ نحو 200 قتيل.
نامعلوم صفحہ