أنت لا شك تذكرين ذلك اليوم الذي قلتها فيه، تذكرين، كارثة لو كنت حتى لا تذكرين متى سمعتها وأين وكيف، كل التفصيلات التي أحاطت بها وهى تنطلق من أعماق شبابي وحياتي، من ذكرياتي وآمالي لتمر بأذنيك آملة أن يكون مصيرها إلى قلبك.
لكم تمنيت ألا أكون رئيسا لتحرير المجلة التي تعملين بها، لكم كنت أتمنى أن تكون كلمتي إليك بريئة من هيبة الرئيس وإعجاب المرءوس، ولكن ماذا بيدي أن أفعل، وأي عجيبة في أن يحب رئيس تحرير فتاة لها هذا الوجه المستدير الأبيض الجميل، وهذا القوام الفارع الهفهاف الذي يسير وكأنه نغمة فرحانة؟ وأي عجيبة في أن يحب رئيس التحرير هاتين العينين فيهما دائما كلمة تريد أن تقال، ولكنها تتخفى وراء رموش كستار الغيب، رقيقة كثيفة تنبئ ولا تفصح، وتومئ ولا تبين، وهذا الأنف في وجهك على محياه عبير الحياة، كأنه لم يوضع مكانه إلا ليستنشق من الدنيا عطرها، وهذا الشعر تلمينه فهو تاج، أو ترسلينه فهو عربدة ومرح وحياة، رأيتك أول ما رأيتك حين انضممت إلى أسرة تحرير المجلة كرئيس لتحرير القسم الأدبي بها، وكنت تحبين أن تكتبي، لم تكن قصصك رائعة، ولكني كنت أنشرها، لم أكن أنا الذي تبينت أنها غير رائعة، وإنما القراء وخطاباتهم، أما أنا فلم أكن أرى فيك أو منك إلا كل رائع وجميل وفنان، لا لست من هؤلاء الناس الذين يفصلون في أحكامهم بين الحب والعمل الفني، أو أنا على الأقل أمام حبك أنت لا أستطيع أن أكون عادلا، لقد أحببت قصتك قبل أن أقرأها، وما كان لي من بعد أن أحكم عليها، ولقد قرأتها لأنه لا بد أن أقرأها، وقد أعجبت بها، نعم أعجبت بها فنيا، وكنت واثقا حينذاك أنني عادل في حكمي، ولكن القراء لم يروك، وأرسلوا خطابات يبدون فيها عدم إعجابهم، إنهم لم يروك، لم تعرفي أنت من أمر هذه الخطابات شيئا، بل إنك عرفت عنها غير ما تقوله، لقد قلت لك مرة في خبث: تصل إلينا خطابات كثيرة عن قصصك.
وطبعا فهمت أنها خطابات مديح، فاعلمي اليوم إذن أنها لم تكن كذلك، اليوم أريد أن تعلمي أنها لم تكن كذلك، على الأقل يجب أن تعلمي أن قصصك لم تعجب القراء، لم تعجبهم.
لقد فرحت يوم أخبرتك عن الخطابات، فرحت كطفلة صغيرة أهديت عروسا كبيرة.
ورأيت مع الكلمة التي في عينيك دمعتين طفرتا لم تستطيعي أن تمنعيهما من الظهور، ولا أدري أي شجاعة واتتني حينذاك لأطلب إليك شيئا لم أطلبه من أحد قبلك، تلعثمت وتلجلجت وأنا أقول: ما قولك في أن نتعشى معا الليلة؟
وغاضت الدمعتان في عينيك، أو لا أدرى لعلهما تحدرتا لتختفيا، ونظرت إلي نظرة فيها آثار سعادة واضحة، وقلت وابتسامة فيها شيء من التحدي على شفتيك: نعم، لم لا.
وحاولت في هذا العشاء أن أقول ما أردت أن أقوله منذ لقائي الأول بك، ولكن لم أستطع، وكانت كلمة أحبك هي أعز ما أقتنيه لأقدمه لحبيبتي، خشيت أن أقولها لك فلا تجد ما تستحق من تكريم عندك، وانتظرت، ولكنني مع ذلك عقدت معك اتفاقا ما زلت - رغم ما حدث - أرى نفسي فيه ذكيا حاد الذكاء، اتفقنا على أن نتناول عشاءنا معا كلما نشرت لك قصة وجاءت للمجلة عنها خطابات، وهكذا كنا نلتقي وحدنا بعيدا عن المجلة مرة كل أسبوعين أو كل ثلاثة أسابيع على الأقل؛ فقد كانت الخطابات تأتي للمجلة بانتظام غداة ظهور العدد الذي يحمل قصتك، وأنت الآن تعرفين طبعا أي نوع من الخطابات هذا الذي كان يأتي للمجلة.
وفي يوم انتهينا من عشائنا وقلت في حزم: أريد أن نسير قليلا بالسيارة.
ولم تجيبي، وسرنا، ذهبنا إلى الهرم ثم عدنا منه لنسير في طريق الإسكندرية، ثم وقفنا قليلا عند النصب المقام هناك، ولم أقل شيئا، وقطعت حديثنا المتناثر. - الدنيا برد.
فعدنا إلى السيارة، ومشت بنا، ولم نتكلم، ولا أدري لماذا اتجهت إلى شارع الجبلاية، نعم إني أحب هذا الشارع، وخاصة في الليل، ولكنه لم يكن في طريقنا، ولم تسألي أنت لماذا اتجهت إليه، وعند شجرة تسدل فروعها إلى النيل نزلت من السيارة صامتا، ونزلت ورائي، وجلست أنت على الحجر هنا، والتفت بوجهك إلى الأفق، وظللت أنا واقفا وعيناي إلى النيل، وطال بي الصمت أو خيل لي أنه طال، ودون أن ألتفت إليك، قلت في هدوء وطمأنينة وثقة: إلهام، أحبك.
نامعلوم صفحہ