حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
اصناف
وزعم أناكساجوراس أن المادة حتما يمكن تقسيمها تقسيما لا نهاية له، فمهما طحنت قطعة من الذهب مثلا (والذهب يعني لأناكساجوراس جزءا من مادة يغلب الذهب على معظمها) فإن كل جزيء منها سيحتوي على جزيئات أصغر من الذهب، وهكذا إلى ما لا نهاية له، وإلا لأمكن إبادة قطعة الذهب بطحنها إلى قطع صغيرة جدا حتى لا يبقى منها شيء. أما أناكساجوراس وغيره من أتباع بارمنيدس الجدد فلم يستسيغوا قط فكرة الإبادة المطلقة، وقد قال في ذلك: ليس هناك «أصغر صورة» لما هو صغير، ولكن هناك دائما «صورة أصغر» (لأنه يستحيل لشيء موجود أن يفنى بتقطيعه).
لقد رأى أناكساجوراس إذن أن العالم متخم بما يشبه عددا لانهائيا من الصناديق الصينية متدرجة الحجم، يحوي كل منها الآخر بداخله. لكن كيف وصل الأمر إلى ذلك؟ لقد فسر إمبيدوكليس طريقة ترتيب الأشياء في الكون باستحضار قوى الحب والصراع المستخدمة في فلسفته، والتي جعلت العناصر الأربعة الأصلية تلتحم وتنفصل بالتبادل حتى أخذت الأشكال المتنوعة والمتغيرة التي نراها اليوم. أما أناكساجوراس فقد استحضر قوة أقل حيوية ولكنها تنم عن اختيار أبعد من حيث الخيال ألا وهي قوة العقل، فقال إنه في البداية كانت هناك كتلة جامدة وغير متمايزة من الأشياء تتكون من كل المواد بعضها مع بعض، ثم بطريقة ما بدأ العقل في تحريك الأشياء فقال:
وقد بدأت تدور في محيط صغير، لكنها صارت الآن تدور في محيط أكبر، وستدور بعد ذلك في محيط أكبر منه ... وكل ما كتب له الوجود ... رتبه العقل، حتى دوران النجوم والشمس والقمر وكذا الهواء والأثير اللذان ينفصلان الآن، وقد تسبب ذلك الدوران في هذا الفصل، فينفصل الغزير عن القليل والساخن عن البارد والفاتح عن الداكن والجاف عن الرطب.
قد يبدو بعض ذلك مألوفا حيث استعار أناكساجوراس أفكار الملطيين عن فصل السمات المتضادة وطورها من ناحيتين أساسيتين؛ أولاهما: أنه أتى بفكرة جديدة بأن كل أنواع المواد كانت موجودة في المزيج الأصلي رغبة منه في التوفيق مع مبدأ بارمنيدس القائل إنه لا يمكن لشيء أن ينشأ عن شيء آخر، والأخرى: أنه أتي بقوة خارجية في صورة العقل لتفسير الحركة. ومن الواضح أن أناكساجوراس قد خالف بارمنيدس في الاعتقاد باستحالة الحركة، إلا أن هجوم بارمنيدس حيره حتى شعر بالحاجة لإيجاد تفسير لها، ولم يستطع أن يقبل الحركة كأمر مسلم به كما فعل الملطيون.
والحق أن تفسيره للحركة لم يأت بشيء ذي جدوى، فكل ما فعله هو أن وجه بنانه نحو هذا «العقل» الغامض واتهمه بالتسبب في كل هذا. ولكن لماذا اختار العقل بالذات لهذا الدور؟ غالبا ستكون الإجابة على هذا السؤال كما يلي: يقول أناكساجوراس في مناسبة أخرى إن العقل لم يدفع الدوران الأولي للمواد البدائية وحسب، بل إنه لا يزال يتحكم في كل الكائنات الحية، هذا بالإضافة إلى حقيقة أن كل قطعة من أية مادة تحتوي على كل أنواع المواد الأخرى، وقد قال في ذلك: «هناك بعض الأشياء (ويقصد بها الكائنات الحية) لديها عقل كذلك.» والفارق الوحيد بين الكائنات الحية وغير الحية بالنسبة للإغريق هو أن الكائنات الحية تستطيع أن تحرك نفسها بنفسها؛ ومن ثم يفترض أن أناكساجوراس استنتج أن العقل هو الذي يمكنها من ذلك (وربما تتمتع النباتات بعقول بدائية تمكنها من النمو). وبذلك لم يتبق إلا خطوة بسيطة للوصول إلى الاستنتاج بأن العقل هو الذي بث الحياة في الكون في بدايته وحركه، كما هو الحال مع الكائنات الحية التي لا يزال يبث الحياة فيها.
لقد تحدث أناكساجوراس عن عقله باعتباره كيانا «يملك المعرفة الكاملة عن كل شيء ويمتلك أعظم القوى» وعلى أنه شيء «لانهائي ومستقل وواحد قائم بذاته» ومنفصل عن المادة العادية، وهذا يسول للمرء أن يستنتج أننا نقف أخيرا أمام فيلسوف إغريقي نجح في التخلص من المادية الفظة وبالتالي يستحق أن ننسب له الرؤية «الثنائية» للعالم التي ترى الواقع منقسما إلى عالمين: أحدهما هو عالم العقل المعنوي الذي يميزه الذكاء، والآخر هو عالم المادة الصلبة العجماء. إلا أن هذا الاستنتاج سابق لأوانه؛ فالحقيقة هي أن أناكساجوراس نظر للعقل باعتباره شكلا مميزا من أشكال المادة وليس كيانا منفصلا عنها تماما، فوصفه بصفات مادية قائلا إنه مادة رقيقة ونقية، وإنه يشغل حيزا وليس بمعدوم المادية تماما. إذن فرغم أن أناكساجوراس كان يصارع ضد قيود المادية الفظة فلم يكن ليتجنبها تماما.
أوضح سقراط لاحقا أنه بعد ظهور العقل على عجالة لدى مولد الكون سرعان ما اختفى من المشهد؛ مما خيب أمله، فيبدو أنه لم يعد للعقل دور نحو المواد غير الحية بعد أن بدأ دورانها الأولي، وسرعان ما طغت الأسباب المجردة الطبيعية على ساحة التفسيرات فلم يذكر أناكساجوراس سوى تلك الأسباب عند تفسيره لتطور الكون بعد أن بدأ الدوران، فقيل إن النجوم عبارة عن أحجار قذفها دوران الأرض وأصبحت مضيئة بفعل الحرارة الناتجة عن سرعة حركتها. وهكذا أخذ أناكساجوراس يفسر ما بوسعه من ظواهر طبيعية بذلك الأسلوب الميكانيكي مستندا إلى قوة الطرد المركزي وقوة الاندفاع نحو المركز والمبدأ الإغريقي القديم القائل بانجذاب المتماثلين. وبذلك اقتصر دور العقل على إلقاء الكرة في الملعب الكوني، وحال انطلاق تلك الكرة تنطلق المواد سريعا وحدها في طريقها الصاخب النابض بالحياة.
ومن حسن حظ أناكساجوراس أنه نحى العقل جانبا، فهذا ما نجاه من التراجع إلى مرتبة «علماء اللاهوت» القدامى بقصصهم عن أهواء الآلهة التي لا يمكن التنبؤ بها، كما أن تفسيره لأغلب عمليات الكون من خلال قوى مجردة وطبيعية أعاده إلى زمرة علماء الفيزياء المعاصرين فأصبح أحد أوائل علماء الفيزياء.
ومن ضمن الأشياء التي تفكر فيها أناكساجوراس الطقس وبعض جوانب علم الأحياء والإدراك بالإضافة إلى علوم الكون والفلك وغيرها من الأمور. ويبدو أنه أدرك أن القمر يأتي بضوئه من الشمس وأن ظل الأرض هو المتسبب في خسوف القمر. ونرى في كل ذلك أثر تراث الملطيين، إلا أن أناكساجوراس - على عكس طاليس - لم يكن رجلا عمليا؛ حيث ولد ثريا ثم تخلى عن أملاكه ليركز في الفلسفة، ولم يبد أي اهتمام بالسياسة أو المال. وتروي إحدى القصص أن طبعه الرواقي الذي لا يلقي بالا للأمور الدنيوية طال أبناءه أنفسهم حتى قيل إنه عندما وصلته أنباء موت أبنائه قال: «أعلم أن أبنائي قد ولدوا ليموتوا.» وبالمثل عندما وبخه شخص (ربما من أهل أثينا وكان يود لو أن أناكساجوراس بقي في كلازومني) قائلا: «ألا يهمك بلدك الأم؟» أجاب: «بل يهمني بلدي الأب كثيرا.» وأشار إلى السماء.
الفصل الثامن
نامعلوم صفحہ