حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
اصناف
Josephus
بسجل هذه المعركة.
ومن هذا الحادث أتى الشتات الثاني والأخير لليهود، وأصبحت العقيدة الرسمية أكثر تشددا، كما حدث وقت الأسر في بابل، وبعد القرن الأول الميلادي أصبحت اليهودية والمسيحية تواجه كل منهما الأخرى بوصفهما عقيدتين متميزتين ومتعارضتين؛ ففي الغرب أثارت المسيحية شعورا قويا بالعداء للسامية، بحيث أصبح اليهود منذ ذلك الحين يعيشون على هامش المجتمع، مضطهدين ومستغلين، حتى وقت تحريرهما في القرن التاسع عشر. وكان المكان الوحيد الذي ازدهروا فيه هو البلاد الإسلامية، وخاصة في أسبانيا. وعندما أخرج العرب من أسبانيا أخيرا كانت جهود المفكرين اليهود الذين يتقنون عدة لغات، والذين عاشوا في أسبانيا العربية، قد أسهمت في نقل التراث الكلاسيكي، وكذلك علم العرب، إلى المثقفين في الغرب.
وينبغي أن نلاحظ أن الجماعات اليهودية المنشقة التي تكونت منها المسيحية البدائية، لم تكن تنوي في البداية أن تجعل العقيدة الجديدة تنتشر بين الجماعات غير المسيحية؛ فقد كان هؤلاء المسيحيون الأوائل محافظين، بحكم عزلتهم، على التقاليد القديمة، ولم تحاول اليهودية أبدا أن تنشر دعوتها بين الغرباء، ولا هي قادرة على أن تجذب أتباعا في الوقت الراهن، حتى بعد أن اتخذت صورة معدلة، ما دامت تطبق الختان والتحريمات في الطعام. وهكذا كان من الممكن أن تظل المسيحية طائفة يهودية منشقة، لولا أن أحد أتباعها أخذ على عاتقه أن يوسع نطاق الإنماء إليها؛ فقد عمل بولس الطرسوسي، الذي كان يهوديا ومسيحيا ذا ثقافة هلينية، على إزاحة هذه العقبات الخارجية، وبذلك جعل المسيحية مقبولة على أوسع نطاق.
ومع ذلك فإن مواطني الإمبراطورية الرومانية المتأثرين بالثقافة الهلينية لا يكفيهما أن يقال عن المسيح إنه ابن إله اليهود. وهكذا عملت الغنوصية، وهي حركة تلفيقية ظهرت في نفس الوقت الذي ظهرت فيه المسيحية، على تجنب هذا العيب؛ ففي رأي الغنوصية أن العالم المادي المحسوس خلقه «يهوه» الذي كان في الواقع إلها ثانويا، هبط عن مكانه مع الإله الأعلى، وبدأ بعد ذلك يمارس الشر. وأخيرا جاء ابن الإله الأعلى ليعيش بين البشر على هيئة إنسان فان؛ حتى يفند التعاليم الزائفة للعهد القديم.
من هذه العناصر، مصحوبة ببعض الآراء الأفلاطونية، كانت تتألف الغنوصية؛ فهي تجمع عناصر من الأساطير اليونانية وتصوف الأورفية مع التعاليم المسيحية وغيرها من المؤثرات الشرقية، وتضم هذا كله في إطار في المزيج الفلسفي التلفيقي، يشمل عادة أفلاطون والرواقية، أما المانوية، التي تفرعت فيما بعد عن الغنوصية، فقد ذهبت إلى حد القول إن التمييز بين الروح والمادة يساوي التضاد بين الخير والشر. وهكذا ذهبوا في احتقارهم للأشياء المادية أبعد من كل ما تجاسر عليه الرواقيون. وقد نهوا عن أكل اللحم، وأعلنوا أن الجنس بكافة أشكاله أو صوره عمل آثم كل الإثم، ومن حق المرء أن يستدل، من استمرار هذه الدعوة طوال بضعة قرون، على أن هذه المذاهب الزاهدة لم تكن تمارس بنجاح تام.
ولقد أصبحت الطائفة الغنوصية أقل أهمية بعد قسطنطين، ولكنها ظلت تمارس قدرا من التأثير، أما طائفة الدوسيين
Docetics (المشبهين) فقد ذهبت إلى أن المسيح لم يكن هو الذي صلب، بل بديل أشبه بشبح له، وهو ما يذكرنا بتضحية إفيجينيا في الأسطورة اليونانية. وقد ظهر رأي مماثل لذلك في الإسلام الذي نظر إلى المسيح على أنه نبي، وإن لم يكن أهم أنبياء البشرية.
وإذ أصبحت المسيحية أشد رسوخا، ازداد عداؤها لعقيدة العهد القديم ضراوة؛ فقد ذهبت إلى أن اليهود لم يعترفوا بالمسيح الذي بشر به قدامى الأنبياء، ومن ثم فلا بد أن تكون شرا. ومن عهد قسطنطين فصاعدا أصبح العداء للسامية شكلا له احترامه من أشكال التقوى المسيحية، وإن لم يكن الدافع الديني هو الوحيد في واقع الأمر. وإنه لمن الغريب حقا أن نجد المسيحية، التي كانت قد عانت هي ذاتها من اضطهاد مخيف، تنقلب بنفس الضراوة بمجرد إمساكها بزمام الأمور على أقلية لا تقل عنها تمسكا بمعتقداتها.
ولقد تحولت العقيدة الجديدة في جانب من جوانبها في اتجاه جديد ملفت للنظر؛ ذلك لأن عقيدة اليهود كانت في عمومها تتسم بالبساطة الشديدة، ولا تنطوي على طابع لاهوتي. وهذا الطابع المباشر يظل واضحا حتى في الأناجيل الجامعة، ولكنا نجد عند يوحنا بداية لذلك التأمل اللاهوتي الذي ازدادت أهميته باطراد مع سعي المفكرين المسيحيين إلى وضع ميتافيزيقا اليونانيين في إطار عقيدتهم الجديدة. فلم يعد الأمر هنا يقتصر على شخصية المسيح الإله الإنسان «المختار »، بل أصبح يتعلق بجانبه اللاهوتي بوصفه «الكلمة»، وهو مفهوم يرتد إلى الرواقين، ومن قبلهم إلى أفلاطون وهرقليطس. ولقد كان أول تعبير منهجي عن هذا التراث اللاهوتي هو أعمال أوريجيين
نامعلوم صفحہ