حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
اصناف
يبدو أنه أنكر إمكان الوصول إلى المبادئ الأولى للاستنباط. ولما كان التفسير الأرسطي للبرهان العلمي يرتكز على المبادئ الأولى، فقد كان ذلك هجوما خطيرا على أتباع أرسطو، وهذا هو السبب الذي جعل مدرسية العصور الوسطى تعادي الفلسفة البيرونية إلى هذا الحد. أما العرض الذي قدمه سقراط لمنهج الفرض والاستنباط فلا يتأثر بهجوم الشكاك، وهكذا فإن إحياء العلم في القرن السابع عشر كان يتباعد عن أرسطو، ويعود إلى أفلاطون.
وبعد أن مات تيمون في عام 235ق.م. لم يعد مذهب الشك بدوره مدرسة مستقلة، وإنما اندمج في الأكاديمية، التي ظلت تتمسك بطابع من الشك قرابة مائتي عام، وكان ذلك بطبيعة الحال تشويها للتراث الأفلاطوني، صحيح أننا نجد عند أفلاطون فقرات لو انتزعت من سياقها لبدت وكأنها دعوة إلى التخلي عن أية محاولة للتفكير البناء، ويتمثل ذلك في الألغاز الجدلية في محاورة «بارمنيدس»، غير أن الجدل عند أفلاطون ليس أبدا غاية في ذاته، ولا يمكن تحريفه بمعنى شكا إلا إذا أسيء فهمه على هذا النحو. ومع ذلك ففي عصر كانت الخرافات قد بدأت تغرقه، يمكن القول إن الشكاك قد أدوا خدمة جليلة بوصفهم فاضحين لهذه الخرافات، ولكنهم في الوقت ذاته كان يمكن أن يقرروا ممارسة بعض الطقوس الخرافية دون أن يشعروا داخليا بأنهم ملتزمون بها. وهذا الموقف السلبي الكامل هو الذي جعل حركة الشك، بوصفها مذهبا تتجه إلى أن تجعل من معتنقيها جيلا يعرب عن ازدرائه بغير حماس، ويتميز بالذكاء أكثر مما يتميز بالسداد.
وخلال القرن الأول ق.م. عاد مذهب الشك ليصبح مرة أخرى تراثا مستقلا وإلى هذا المذهب الشكي المتأخر ينتمي لوسيان
Lucian
المفكر الساخر في القرن الثاني الميلادي، وسكستوس إمبريقوس
Sextus Empiricus
الذي ظلت أعماله باقية. غير أن مزاج العصر كان يحتاج آخر الأمر إلى نسق من المعتقدات أكثر تحديدا، وأبعث على الراحة والاطمئنان. وهكذا فإن نمو النظرة القطعية الجازمة أخذ يطغى على فلسفة الشك.
إن المرء حين يقارن بين التأملات الفلسفية للعصر الهلينستي ونظائرها في التراث الأثيني العظيم وفي الفلسفات السابقة له، لا بد أن يلفت نظره موقف التراخي والعناء الذي يميز عصر التدهور؛ فقد كانت الفلسفة في نظر المفكرين القدامى مغامرة تحتاج إلى يقظة الرائد وشجاعته. وصحيح أن الفلسفات اللاحقة بدورها يمكن أن يقال عنها إنها اقتضت من ممارسيها شجاعة، غير أن هذه أصبحت شجاعة الاستسلام والتحمل بصبر، بدلا من ذلك الإقدام الجريء الذي يتميز به المستكشف، فقد أصبح الناس في ذلك العصر الذي تهاوت فيه أركان المجتمع القديم يلتمسون الأمان، وإذا لم يتيسر لهم الحصول عليه بسهولة، جعلوا من الصمود للمصاعب التي لا يمكن تجنبها فضيلة. ويظهر ذلك أوضح ما يكون في المدرسة الفلسفية لأبيقور
Epicurus .
ولد أبيقور في عام 342ق.م. لأبوين أثينيين، وعندما بلغ الثامنة عشرة انتقل من ساموس إلى أثينا، ثم رحل بعد وقت قصير إلى آسيا الصغرى، حيث بهرته فلسفة ديمقريطسن. وبعد أن تجاوز سن الثلاثين بقليل أسس مدرسة كان مقرها أثينا منذ عام 357ق.م. حتى وفاته في عام 270ق.م، وكانت المدرسة أشبه بجماعة صغيرة تعيش في بيته وأرضه، وتسعى بقدر الإمكان إلى الانعزال عن صخب الحياة الخارجية ونزاعاتها، وقد ظلت الأمراض تداهم أبيقور طوال حياته، فتعلم كيف يتحملها دون أن يشكو. وهكذا كان الهدف الرئيسي لمذهبه هو بلوغ حالة من الطمأنينة لا يعكر صفوها شيء.
نامعلوم صفحہ