حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
اصناف
ولا بد لأي بحث في المنطق أن يقوم، على سبيل التقديم، بدراسة بناء اللغة وما يمكن أن يقال فيها. وفي مؤلفات أرسطو المنطقية (الأورجانون) تتم هذه الدراسة في كتاب بعنوان «المقولات»، وهنا أيضا نجد البداية عند أفلاطون، كما رأينا عند مناقشة محاورة «السفسطائي»، غير أن مناقشة أرسطو للموضوع أقرب كثيرا إلى الواقع، وأكثر اهتماما بحقائق اللغة، فهو يميز بين عشرة أصناف مختلفة يمكن الاهتداء إليها في الحديث؛ هذه الأصناف هي: الجوهر، والكيف، والكم، والإضافة (العلاقة)، والمكان، والزمان، والوضع، والملك، والفعل، والانفعال.
الأول هو الجوهر، أي ما تتحدث عنه أية عبارة. أما المقولات الأخرى فتشمل مختلف أنواع العبارات التي يمكن أن تقال عن الجوهر، وهكذا فإننا إذا تحدثنا عن سقراط فقد نقول إن لديه صفة (أو كيفية) معينة، مثل كونه فيلسوفا. كما أن له حجما معينا، وهذا يعني تطبيق مقولة الكم، وله علاقات معينة بالأشياء الأخرى، كما أنه يحل في مكان وله موقع في الزمان، ويتفاعل مع ما يحيط به بأن يقوم بأفعال وتحل عليه أفعال أخرى، وسوف نرى فيما بعد أن هناك صيغا أخرى أحدث عهدا لنظرية المقولات، وإن كانت هذه في معظم الحالات قد اصطبغت بصبغة ميتافيزيقية تختلف عن الدراسة اللغوية التي قام بها أرسطو، ويصدق هذا بوجه خاص على كانت وهيجل.
وبطبيعة الحال فإن المقولات تجريدات، وهي تجيب عن أهم الأسئلة التي يمكن أن تطرح عن أي شيء. وقد نظر أرسطو إلى المقولات على أنها ما تعنيه الألفاظ بذاتها، ومعاني الألفاظ موضوعات للمعرفة بمعنى يختلف عن دلالة الأحكام، ففي الحالة الأولى يكون لدينا إدراك مباشر، كما يقول أرسطو وعلم اللغويات الحديث يعبر عن ذلك أحيانا بقوله إن «لدينا تصورا» لشيء ما، أما نوع المعرفة التي نكتسبها في حالة الحكم الصائب فأمرها يختلف كل الاختلاف.
فهنا تتجمع التصورات لكي تدل على حالة معينة.
إن منطق أرسطو هو أول محاولة لعرض الصورة العامة للغة والبرهان بطريقة منهجية. وقد كان أفلاطون هو المصدر الذي استوحى منه جانبا كبيرا من هذا المنطق، غير أن هذا لا ينقص من قدره في شيء؛ فعند أفلاطون تثار المسائل المنطقية هنا وهناك في مختلف أجزاء المحاورات، وقد تطرح مسألة معينة، ثم يصرف النظر عنها حسبما تمليه الظروف في اللحظة نفسها. أما أرسطو فقد أنجز بالنسبة إلى المنطق ما سينجزه إقليدس بالنسبة إلى الهندسة بعده بوقت قصير. وقد ظل لواء السيادة منعقدا لمنطق أرسطو حتى القرن التاسع عشر. وأصبح المنطق، شأنه شأن الكثير مما أنتجه أرسطو، يعلم بطريقة متحجرة على أيدي أناس انبهروا بسلطة أرسطو إلى حد لم يعودوا معه يجرءون على مناقشة أية فكرة من أفكاره. غير أن من السمات المميزة لمعظم فلاسفة العصر الحديث في فترة إحياء العلوم أنهم كانوا ساخطين أشد السخط على أتباع أرسطو من المدرسيين، فأدى ذلك إلى رد فعل ضد أي شيء يرتبط باسم أرسطو، وهو أمر يؤسف له؛ إذ إننا نستطيع أن نتعلم من أرسطو أشياء كثيرة قيمة.
غير أن منطق أرسطو كان مشوبا بنقص خطير في ناحية هامة؛ هي أنه لم يهتم بالبراهين التي تنطوي على علاقة، والتي لها أهمية خاصة في الرياضيات. فلنتأمل مثلا بسيطا كقولنا: «أ» أكبر من «ب»، و«ب» أكبر من «ج»، إذن «أ» أكبر من «ج». هنا يكون الشيء الأساسي هو الطابع المتعدي (القابل للانتقال) للعلامة «أكبر من» ولا شك أن المرء يستطيع أن يحشر هذا البرهان، بشيء من البراعة، في قالب القياس، ولكن هذا يبدو مستحيلا في الحالات الأكثير تعقيدا، وحتى في هذه الحالة يختفي الطابع العلائقي للبرهان.
ولننتقل الآن إلى بعض المشكلات العامة التي تندرج تحت باب الفلسفة الطبيعية، وهو الموضوع الذي يناقش أساسا في كتاب يحمل هذا الاسم، ولنذكر أن الكلمة اليونانية «الفيزياء» تعني الطبيعة.
وحين ألف أرسطو كتابه هذا كان هناك من قبله عدد كبير من الفلاسفة السابقين الذين كتبوا مؤلفات بعنوان: «في الطبيعة»، وعلى هذا النحو كتب كل فيلسوف، منذ أيام طاليس، كان يعتقد أنه قد اكتشف أخيرا الأسرار الحقيقية لعمل الطبيعة. أما المعنى الحالي لكلمة الفيزياء فيدل على شيء أكثر تحديدا، وإن كانت هذه المسائل العامة تظل تتدخل فيها. وقد ظلت الفيزياء حتى عهد ليس بالبعيد تسمى بالفلسفة الطبيعية، وهو تعبير ما زال يستخدم في جامعات اسكتلندة، ولكن من الواجب ألا نخلط بين هذا التعبير وبين فلسفة الطبيعة عند المثاليين الألمان، التي هي نوع من الانحراف الميتافيزيقي في الفيزياء، ولكن هذه على أية حال مسألة سنعرض تفاصيلها فيما بعد.
ومن أهم الموضوعات في هذا الصدد نظرية أرسطو في السببية، التي ترتبط بنظريته في المادة والصورة؛ فالسببية لها جانب مادي وجانب صوري، والجانب الثاني ينقسم ثلاثة أقسام؛ أولها: هو الجانب الصوري بالمعنى الدقيق، الذي يمكن أن نسميه بالتشكيل أو التصميم. والثاني هو الفاعل الذي يحدث التغيير بالفعل، مثلما يؤدي الضغط على الزناد إلى إطلاق البندقية. أما الثالث: فهو الهدف أو الغاية التي يسعى التغيير إلى تحقيقها. هذه الجوانب الثلاثة تسمى بالأسباب، أو العلل الصورية والفاعلة، والغائية، على التوالي.
ولنضرب لذلك مثلا يوضح المعنى المقصود؛ فلنتصور حجرا معلقا على حافة درجة من درجات سلم، يدفع به فوق الحافة، ويوشك على السقوط، في هذه الحالة يكون السبب المادي هو مادة الحجر ذاته، ويكون السبب الصوري هو الشكل العام للسلم وموقع الحجر فيه، أما السبب الفاعل فهو ما يقوم بدفع الحجر. وأخيرا فإن السبب الغائي هو رغبة الحجر في البحث عن أدنى مستوى ممكن، أي قوة الجاذبية.
نامعلوم صفحہ