196

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

اصناف

على أن من غير المجدي أن يحاول المرء، في هذا الصدد، اللجوء إلى فكرة العلم الإلهي لتبرير موقفه. فهذا العالم الذي نعيش فيه، أيا كان رأينا بشأنه، ليس هو الذي ينتمي إليه مثل هذا العلم، أما العوالم الخارجة عن عالمنا فلا يمكن أن تكون لها علاقة بنا. وهكذا فإن النسق المثالي مفهوم مزيف. ولكننا نستطيع أن نثبت هذه النتيجة ذاتها على نحو أقرب إلى الطابع المباشر عن طريق ضرب مثل. فأنا أومن بمجموعة من المعتقدات الصحيحة، كالقول إن عمود نلسون أعلى من قصر بكنجهام. أما الهيجلي فلا يقبل شيئا من ذلك، بل يعترض بقوله: «إنك لا تدري ما تتكلم عنه. فلا بد لك من أجل فهم الحقيقة التي تتحدث عنها، أن تعرف أنواع المواد المستخدمة في البناءين، ومن الذي بناهما ولماذا، وهكذا إلى غير حد، وفي النهاية سيكون عليك أن تعمل حسابا للكون بأسره قبل أن يكون من حقك أن تقول إنك تعرف ما تقصده حين تقول إن عمود نلسون أعلى من القصر.» ولكن المشكلة في هذا الرأي، بالطبع، هي أنه يتعين علي أن أعرف كل شيء قبل أن أعرف أي شيء، وبذلك يستحيل علي حتى أن أشرع في اتخاذ الخطوة الأولى، ولكن أحدا لن يبلغ به التواضع حد الاعتراف بأنه خالي الذهن كلية. وفضلا عن ذلك، فليس هذا بالأمر الصحيح، فأنا أعرف بالفعل أن عمود نلسون أعلى من القصر، وإن كنت في غير ذلك لا أدعي لنفسي علما إلهيا شاملا، وحقيقة الأمر أنك تستطيع أن تعرف شيئا دون أن تعرف كل شيء عنه، مثلما تستطيع أن تستخدم لفظا بطريقة صحيحة دون أن تعرف المفردات كلها. وإن هيجل ليبدو هنا وكأنه يؤكد أن أية قطعة من مجموعة لألعاب الأطفال تكون شكلا واحدا، لا يمكن أن يكون لها معنى ما لم يتم التوصل إلى حل الشكل كله. أما التجريبي فيعترف بأن لكل قطعة معناها الخاص، ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطعت أن تبدأ في تجميع القطع سويا.

ولهذا النقد الموجه إلى فكرة النسق المنطقي نتائج هامة في ميدان الأخلاق؛ ذلك لأنه لو كانت النظرية المنطقية صحيحة، لكانت النظرية الأخلاقية المبنية عليها صحيحة بدورها، أما والأمر على نحو ما قلنا، فإن الباب يفتح لاعتراضات كثيرة .

في هذا الميدان (أي الأخلاق) تقف الهيجلية وليبرالية لوك على طرفي نقيض. ففي رأي هيجل أن الدولة خيرة بذاتها، أما الأفراد فليست لهم أهمية في ذاتهم، بل تكون أهمية بقدر ما يسهمون في أمجاد الكل الذي ينتمون إليه فحسب. أما الليبرالية فتبدأ من الطرف الآخر، وتنظر إلى الدولة على أنها تخدم المصالح الشخصية لأفرادها. وواضح أن الرأي المثالي يولد التعصب والقسوة المفرطة والطغيان. أما الرأي الليبرالي فيدعم التسامح والاحترام والتوفيق بين مختلف الاتجاهات.

إن مثالية هيجل إنما هي محاولة للنظر إلى العالم بوصفه نسقا مترابطا. وعلى الرغم من أن محور الاهتمام فيها هو الروح، فليس للهيجلية اتجاه ذاتي على الإطلاق، بل يمكننا أن نصفها بأنها مثالية موضوعية. ولقد سبق أن رأينا كيف انتقد شلنج فيما بعد المذهب المشيد على أساس جدلي، وهذا النقد كان من الوجهة الفلسفية، هو نقطة البدء في الهجوم العنيف الذي شنه على هيجل فيلسوف دنمركي هو سورين كيركجور

Soren Kierkegaard

الذي لم يكن لكتاباته تأثير كبير في عصره، ولكنها أصبحت بعد حوالي خمسين عاما مصدر الحركة الوجودية.

ولد كيركجور (1813-1855م) في كوبنهاجن، التي التحق بجامعتها وهو في السابعة عشرة، وكان أبوه قد قدم إلى العاصمة الدنمركية في شبابه واستعاض عن حرفة الزراعة بالأعمال التجارية التي أحرز فيها نجاحا كبيرا، وهكذا لم يكن الابن يصادف عناء من أجل البحث عن مورد رزق وقد ورث كيركجور عن أبيه حضور البديهة والذكاء، فضلا عن المزاج التأملي. وفي عام 1841م حصل على درجة الماجستير في اللاهوت، وكان خلال ذلك قد خطب، بعد تردد، فتاة يبدو أنها لم تبد تقديرا كافيا لما كان ينظر إليه على أنه رسالته اللاهوتية، وانتهى الأمر بفسخه الخطبة، ثم سفره بعد انتهاء دراسته إلى برلين حيث كان شلنج يحاضر، ومنذ ذلك الحين كرس حياته للتأمل اللاهوتي والفلسفة، أما الفتاة التي كانت في وقت ما خطيبته، فقد سلكت المسلك المعقول، وتزوجت شخصا آخر.

فلنعد إلى النقد الذي وجهه شلنج إلى مذهب هيجل. لقد ميز شلنج بين الفلسفة السلبية والفلسفة الإيجابية؛ الأولى تبحث في التصورات أو الكليات أو الماهيات، إذا شئنا أن نستخدم المصطلح المدرسي، أي أنها تبحث في «كنه» الأشياء. أما الفلسفة الإيجابية فتتعلق بالوجود الفعلي، أي تنتقل إلى المستوى الإيجابي. وتذكرنا هذه الصيغة بمبدأ الاستقطاب عند شلنج وبالمسار الذي سلكه تطوره الفلسفي الخاص، الذي مر بهاتين المرحلتين عينيهما، فكتابات شلنج الأولى «سلبية»، واللاحقة «إيجابية»، بهذا المعنى للكلمتين، وعلى ذلك فإن النقد الأساسي الموجه إلى هيجل هو أنه بعد أن وجد نفسه منغمسا في الميدان السلبي، سعى إلى استنباط عالم الواقع الإيجابي منه، وإلى هذا النقد يرجع أصل الوجودية.

غير أن هذا ليس إلا اعتراضا منطقيا على هيجل، وهناك اعتراض آخر لدى كيركجور لا يقل عن هذا أهمية، هو الاعتراض العاطفي أو الوجداني، فالهيجلية اتجاه نظري جاف، يكاد لا يترك لانفعالات النفس مجالا، بل إن هذا النقد يصدق على الفلسفة المثالية الألمانية بوجه عام، وحتى تأملات شلنج الأخيرة لم تنج منه. ولنتذكر أن عصر التنوير كان يتجه، قبل ذلك، إلى النظر إلى الانفعالات بنوع من الارتياب، أما كيركجور فيريد أن يعيد إليها احترامها الفلسفي، وهذا يتمشى مع رومانتيكية الشعراء، ويتعارض مع الاتجاه الأخلاقي الذي يربط الخير بالمعرفة والشر بالجهل. والواقع أن الوجودية، إذ فصلت الإرادة عن العقل، على طريقة أوكام بالضبط، إنما حاولت أن تلفت انتباهنا إلى حاجة الإنسان إلى أن يفعل ويختار، لا نتيجة لتفكير فلسفي، بل بدافع الممارسة التلقائية للإرادة، مما يتيح له أن يفسح مجالا للإيمان على نحو غاية في البساطة؛ إذ يصبح قبول المعتقدات الدينية في هذه الحالة فعلا إراديا حرا.

ويتخذ هذا المبدأ الوجودي أحيانا صيغة القول إن الوجود يسبق الماهية، وهو ما يمكن التعبير عنه بقولنا إننا نعرف أولا أن الشيء كائن، وبعد ذلك نعرف ما يكونه، وهو ما يعني وضع الجزئي قبل الكلي، أو أرسطو قبل أفلاطون. ولقد وضع كيركجور الإرادة قبل العقل، وذهب إلى أنه لا يتعين علينا أن نكون علميين أكثر مما ينبغي في كل ما يتعلق بالإنسان. فالعلم الذي لا يستطيع أن يبحث إلا فيما هو عام، لا يمكنه أن يمس الأشياء إلا من الخارج. وفي مقابل ذلك يعترف كيركجور بطرق التفكير والوجودية التي تنفذ إلى باطن الأشياء. وفي حالة الإنسان على وجه التحديد، يرى أننا نغفل ما له أهمية حقيقية إذا ما حاولنا فهمه بطريقة علمية، فالمشاعر النوعية الخاصة لأي فرد لا يمكن أن تفهم إلا وجوديا.

نامعلوم صفحہ