161

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

اصناف

على أن هذه الدراسات التقليدية لم تكن تكفي لإرضاء ذهنه المتوقد. وقد أتاحت له معرفته باللاتينية أن يطلع على كتابات أولئك المفكرين الذين أحدثوا حركة إحياء العلم الكبرى، وعملوا على تشجيع العلم والفلسفة الجديدين. وسرعان ما وجد أن من المستحيل عليه البقاء في إطار العقيدة الحرفية لليهود، مما سبب حرجا شديدا للطائفة اليهودية. والواقع أن لاهوتيي حركة الإصلاح الديني كانوا متزمتين على طريقتهم الخاصة، وشعروا بأن أي رفض للدين بطريقة نقدية عنيفة قد يعكر صفو جو التسامح العام الذي كان يسود هولندا في ذلك الحين. وهكذا طرد اسبينوزا في النهاية من الكنيس اليهودي وصبت على رأسه كل لعنات الكتاب المقدس.

ومنذ ذلك الحين التزم اسبينوزا العزلة التامة، وخاصة لأنه كان بطبيعته منطويا على نفسه، وعاش في هدوء وسط حلقة صغيرة من الأصدقاء، وكان يكتسب رزقه من صقل العدسات، ويكرس حياته للتأمل الفلسفي. ولكن على الرغم من حياة الاعتزال التي كان يعيشها، ذاعت شهرته بسرعة وأخذ يتبادل الرسائل فيما بعد مع عدد من المعجبين ذوي النفوذ، كان أهمهم ليبنتس. ومن المعروف أنهما قد تقابلا في لاهاي، غير أن اسبينوزا لم يوافق أبدا على أن يخرجه أحد من عزلته. ففي عام 1673م عرض عليه أمير بافاريا كرسي الفلسفة في جامعة هيدلبرج، ولكنه رفض العرض رفضا مهذبا، وكانت أسباب رفضه لهذا الشرف تنم عن الكثير؛ إذ يقول أولا: «أعتقد أنني لو تفرغت لتعليم الشباب فسوف أكف عن ممارسة الفلسفة. وفضلا عن ذلك فإني لا أدري ما هي الحدود التي ينبغي لي أن أحصر فيها حرية التفلسف حتى لا أبدو راغبا في الخروج على العقيدة السائدة ... وهكذا ترى أنني لا أعلل نفسي بالأمل في حظ أفضل، بل إنني سأمتنع عن إلقاء الدروس لسبب واحد هو إيثاري السكينة التي أعتقد أنني أستطيع اكتسابها على أفضل وجه بهذه الطريقة.»

أما كتابات اسبينوزا فلم تكن ضخمة في حجمها غير أنها تكشف عن قدرة على التركيز والدقة المنطقية يندر، وربما يستحيل، الوصول إليها. غير أن آراءه في الألوهية والدين كانت سابقة لعصره إلى حد أنه، برغم كل جهوده الجادة في التفكير النظري الأخلاقي، قد صبت عليه اللعنات، في عصره وطوال مائة عام بعد ذلك، بوصفه شيطانا آثما، كما أن كتابه الأعظم «الأخلاق» كان في نظر معاصريه من الخطورة بحيث لم يمكن نشره إلا بعد وفاته.

وتنطوي نظريته السياسية على عناصر مشتركة كثيرة مع نظرية «هبز»، غير أن الأساس الذي كانت ترتكز عليه نظرية اسبينوزا مختلف كل الاختلاف على الرغم من وجود قدر لا بأس به من الاتفاق بينهما على كثير من السمات التي اعتقدا أنها ضرورية لقيام مجتمع صالح، فعلى حين أن هبز يقيم آراءه على أساس تجريبي، فإن اسبينوزا يستنبط نتائجه من نظريته الميتافيزيقية العامة. بل إن المرء لا يستطيع أن يدرك مدى قوة استدلاله إلا إذا نظر إلى أعماله الفلسفية كلها على أنها دراسة كبرى واحدة. والواقع أن هذا واحد من الأسباب التي جعلت التأثير المباشر لكتابات اسبينوزا أضعف من تأثير الكتابات السياسية للفلاسفة التجريبيين. ولكن ينبغي أن نذكر أن المسائل التي ناقشها كانت مشكلات حية وحقيقية إلى أبعد حد في عصره. غير أن الدور الأساسي الذي تقوم به الحرية في أداء الجهاز السياسي لعمله لم يكن معترفا به عندئذ على النطاق الواسع الذي أصبح سائدا في القرن التاسع عشر.

كان اسبينوزا من أنصار حرية التفكير على خلاف هبز، بل إن ميتافيزيقاه ونظريته الأخلاقية تستتبع القول بأن الدولة لا تستطيع أداء عملها على الوجه الصحيح إلا في إطار هذه الحرية. وهو يناقش هذه المسألة بحماسة كبيرة في كتاب «دراسة لاهوتية سياسية

Tractatus Theologico-Politicu ». ويتخذ هذا الكتاب طابعا غير مألوف إلى حد ما، من حيث إن هذه الموضوعات تعالج فيه على نحو غير مباشر من خلال نقد الإنجيل. وهنا نجد أن اسبينوزا قد بدأ، بالنسبة إلى العهد القديم بوجه خاص، ما أصبح يطلق عليه بعد قرنين من الزمان اسم «النقد الأعلى». وهو يدرس أمثلة تاريخية من هذا المصدر (أي العهد القديم)، ويخلص منها إلى إثبات أن حرية التفكير تنتمي إلى صميم الوجود الاجتماعي وفي هذه المسألة يصل على سبيل الاستنتاج الختامي، إلى فكرة رائعة يقول فيها: «ومع ذلك ينبغي أن أعترف بأن مثل هذه الحرية تترتب عليها أضرار في بعض الأحيان. ولكن من ذا الذي استطاع أن ينشئ أي شيء بقدر من الحكمة يستحيل معه أن تترتب عليه نتائج ضارة؟ إن من يرمي إلى أن يحكم كل شيء بالقوانين لا بد أن يزيد من النقائص بدلا من أن يقللها. ولكن ما يمكن منعه ينبغي أن يسمح به، حتى لو أدى ذلك أحيانا إلى «الضرر».» كذلك يختلف اسبينوزا عن هبز في أنه لم ينظر إلى الديمقراطية على أنها أكثر تنظيمات المجتمع عقلانية، فأكثر الحكومات تعقلا تصدر مراسيم سليمة في الأمور الواقعة في نطاق سلطتها، وتكف أيديها في المسائل المتعلقة بالعقيدة والتعليم. ومثل هذه الحكومة تنشأ حين تكون هناك طبقة لديها وعي بمسئوليتها ومتميزة من حيث الملكية الاقتصادية. في ظل دولة كهذه تتاح للناس أفضل فرص تحقيق إمكاناتهم العقلية، بالمعنى الذي كان يقصده اسبينوزا، وهذه الإمكانات العقلية هي، وفقا لمذهبه الميتافيزيقي، ما يهدف إليه البشر بطبيعتهم. أما عن مسألة أفضل الحكومات، فقد يكون من الصحيح بالفعل أن المجتمع التجاري الذي يتوقف النشاط فيه على قدر من الحرية والأمان، هو الذي تتاح فيه أكبر فرصة لإقامة حكم ليبرالي. ولا شك أن هولندا، بلد اسبينوزا، كانت مثلا واضحا على صحة هذا الرأي.

وحين ننتقل بعد ذلك إلى «الأخلاق»، نكون قد سرنا وفقا للترتيب التاريخي الذي نشرت به كتابات اسبينوزا، وإن كان الترتيب المنطقي يقتضي البدء بها. ويمكن القول إن عنوان هذا الكتاب مضلل إلى حد ما بالقياس إلى محتواه. ذلك لأننا نجد هنا أولا ميتافيزيقا اسبينوزا، التي تنطوي ضمنا على إيضاح لذلك التخطيط الذي يضعه الفيلسوف العقلاني من أجل بحث الطبيعة علميا. ولقد أصبحت هذه المسالة من أهم المسائل العقلية في القرن السابع عشر. ويلي ذلك عرض يدور حول موضوع الذهن، وسيكولوجية الإرادة والانفعالات، ثم نظرية أخلاقية مبنية على ما سبق.

والكتاب كله معروض على طريقة هندسة إقليدس، إذ يبدأ بتعريفات ومجموعة من المسلمات، ومنها يستمد المجموعة الكاملة للقضايا اللازمة عنها، مع كل ما تقتضيه من براهين ونتائج وتفسيرات. وهذه الطريقة في التفلسف لم تعد اليوم شائعة أو مرغوبة، ولا بد أن يبدو مذهب اسبينوزا تدريبا غريبا بحق في نظر أولئك الذين لا يعجبهم شيء سوى آخر أنباء الصحافة. ولكن هذا المذهب لا يبدو، في تركيبه، على هذا القدر من الغرابة، بل إنه يظل، في ذاته، عملا من أروع أعمال التفكير المنضبط الدقيق.

يبحث الباب الأول من الكتاب مشكلة الله. وهو يعرض ستة تعريفات تشمل تعريفا للجوهر وتعريفا لله وفقا للاستعمال التقليدي للفلسفة المدرسية، وتضع المسلمات سبعة فروض أساسية لا يقدم لها تبرير آخر. ومنذ ذلك الحين يكون كل ما علينا هو أن نتابع استخلاص النتائج، كما هي الحال عند إقليدس؛ إذ يبدو من الطريقة التي تم بها تعريف الجوهر أنه ينبغي أن يكون شيئا يفسر نفسه بنفسه كلية، ويدلل اسبينوزا على أنه يجب أن يكون لا متناهيا، إذ إنه لو كان محدودا لكان لتلك الحدود بعض التأثير عليه. كما يدلل على أنه لا يمكن أن يوجد إلا جوهر واحد، ويتبين لنا أن هذا الجوهر هو العالم ككل، وهو بالمثل الله ذاته. ومن هنا فإن الله والكون، أي مجموع الأشياء كلها، هما واحد ونفس الشيء، وهذه هي نظرية «شمول الألوهية»، المشهورة عند اسبينوزا، وينبغي أن نؤكد أن العرض الذي يقدمه اسبينوزا لا يتضمن في ذاته أي قدر من التصوف، بل إن المسألة كلها تمرين في المنطق الاستنباطي، مبني على مجموعة من التعريفات والمسلمات المعروضة ببراعة عبقرية، وربما كان ذلك أعظم أمثلة البناء المذهبي في تاريخ الفلسفة.

لقد كان التوحيد بين الله والطبيعة أمرا مكروها إلى أبعد حد في نظر المتمسكين بحرفية العقيدة في كافة المعسكرات. ومع ذلك فقد كان مجرد نتيجة لبرهان استنباطي بسيط، وحين نتأمل هذا البرهان في ذاته، نجده سليما، وإذا كان يؤدي إلى إيذاء شعور البعض فما هذا إلا دليل على أن المنطق ليس ملتزما باحترام مشاعر الناس. وما دام الله والجوهر يعرفان بالطريقة التقليدية فلا غبار على هذه الحجة، بل إن النتيجة التي ينتهي إليها اسبينوزا تفرض نفسها. وقد يؤدي هذا بالبعض إلى الاعتراف بأن في هذين اللفظين سمة معينة غير مألوفة.

نامعلوم صفحہ