143

حکمت غرب

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

اصناف

Nicolas Cusanus (1401-1464م)، وفي القرن التالي أدمجت هذه الآراء في النظام الكبرنيكي.

وبالمثل حدثت عودة إلى الرأي القديم لفيثاغورس وأفلاطون، وهو الرأي القائل إن العالم مبني على أساس نموذج رياضي. كل هذه التأملات قلبت النظام القائم للأشياء رأسا على عقب، وهدمت السلطات القديمة الراسخة في الميدانين الكنسي والعلماني. وقد حاولت الكنيسة تطويق انتشار البدع الجديدة، ولكن دون نجاح كبير. ومع ذلك يحسن بنا أن نذكر أن محاكم التفتيش استطاعت حتى عام 1600م، أن تدين جوردانو برونو

Giordano Bruno

وتحكم عليه بالموت حرقا. وهكذا عاد كهنة النظام القائم إلى ارتكاب ما كانوا يقترفونه في أحيان كثيرة من قبل؛ إذ دفعهم خوفهم من الفتنة إلى إصدار حكم وحشي على من يجرؤ على أن يكون مختلفا. غير أن هذا الحكم ذاته كشف عن مدى ضعف الموقف الذي كان يفترض أنه يدعمه. أما في الميدان السياسي فقد بدأت مفاهيم جديدة للسلطة تتطور تدريجيا، وأخذ يضيق بالتدريج نطاق سلطة الحكام الوراثيين.

على أن الانقسام الذي أحدثته حركة الإصلاح الديني لم يكن تطورا مفيدا في كافة جوانبه. فربما اعتقد المرء أن ظهور مذاهب دينية متعددة قد يقنع الناس أخيرا بأن الإله الواحد يمكن أن يعبد بطرق عديدة متباينة، وهذا بالفعل هو الرأي الذي كان قد دعا إليه كوزانوس

Cusanus

قبل ظهور حركة الإصلاح الديني، ولكن الذي حدث بالفعل هو أن أذهان الناس المتدينين عندئذ لم تستخلص هذه النتيجة الواضحة.

وبطبيعة الحال فإن النهضة الأوروبية لم تبدأ بوصفها يقظة مفاجئة من ماض كانت فيه معرفة القدماء راقدة في سبات عميق؛ بل لقد رأينا أن بعض آثار التراث القديم ظلت باقية طوال العصور الوسطى. فالتاريخ، ببساطة، لا يتجزأ بخطوط تقسيم حادة من هذا النوع. ومع ذلك فإن مثل هذه التميزات تكون مفيدة إذا عولجت بعناية. وعلى ذلك، فإذا كان من المشروع التحدث عن عصر نهضة إيطالي، فإن هذا يعني وجود بعض الاختلافات الواضحة بين الماضي السائد في العصور الوسطى وبين العصر الحديث؛ فهناك مثلا تضاد واضح بين مؤلفات المدرسيين الكنسية والمؤلفات العلمانية المكتوبة باللغات القومية، التي بدأت تظهر في القرن الرابع عشر. والواقع أن هذا الإحياء الأدبي قد سبق الحركة الإنسانية التي بعثت فيها معرفة المصادر الكلاسيكية من جديد. ولقد كانت المؤلفات الجديدة تستخدم لغات الشعوب أداة للتوصيل، وبذلك أصبح الإقبال عليها أوسع بكثير من الإقبال على كتابات أهل العلم، الذين احتفظوا باللاتينية بوصفها وسيلتهم للتعبير.

وهكذا ففي الفترة التي نتحدث عنها أخذ الناس يتحررون من قيود نظرة العصور الوسطى في كافة الميادين. وكانت المصادر التي استلهمت أولا، هي الاهتمامات الدنيوية التي تزايدت في ذلك العصر، وبعد ذلك أصبحت تكمن في نظرة إلى الماضي القديم أضفت عليه صبغة مثالية. وبطبيعة الحال فإن تصور العصور القديمة الذي تكون في ذلك الوقت قد شوهته إلى حد ما حماسة جيل أعاد اكتشاف الاستمرارية في تاريخه. وظلت هذه الرؤية الأقرب إلى الرومانتيكية سائدة حتى القرن التاسع عشر. ولا جدال في أن ما لدينا الآن من معرفة بهذه الأمور أفضل بكثير مما كان لدى فناني عصر النهضة وكتابه.

ولقد أصبحت لحركة النهضة في إيطاليا - وهي البلد الذي كانت فيه آثار الحضارة القديمة تقدم رموزا ملموسة للعصور الماضية - ركيزة أقوى مما أصبح لها فيما بعد في البلاد الواقعة شمال الألب. كانت إيطاليا عندئذ منقسمة من الوجهة السياسية، على نحو يشبه إلى حد بعيد ما كان موجودا في اليونان القديمة؛ ففي شمال إيطاليا كانت توجد عدة مدن يؤلف كل منها دولة، وفي الوسط كانت منطقة حكم البابا، وفي الجنوب مملكة نابولي وصقلية، وكانت أقوى مدن الشمال هي ميلانو والبندقية وفلورنسة، وكانت هناك نزاعات دائمة بين دويلات، فضلا عن صراعات بين الفئات المتنافسة داخل كل مدينة. وعلى الرغم من أن المؤامرات الفردية وتبادل الأخذ بالثأر كانت تتم ببراعة وقسوة هائلة، فإن البلد ككل لم يلحق به ضرر كبير؛ إذ كان النبلاء وحكام المدن يحارب بعضهم بعضا بمساعدة مرتزقة محترفين كان هدفهم هو المحافظة على حياتهم. على أن حالة الاسترخاء هذه قد طرأ عليها تغير حاسم عندما أصبحت إيطاليا ميدانا للمعارك بين ملك فرنسا والإمبراطور. ومع ذلك فإن إيطاليا كانت منقسمة على نفسها إلى الحد الذي حال بينها وبين ضم صفوفها من أجل مواجهة الغزو الخارجي، وهكذا ظلت البلاد منقسمة، خاضعة إلى حد بعيد للسيطرة الأجنبية. ولقد كان النصر حليف آل هابسبورج في الصراعات المتكررة بين فرنسا والإمبراطورية. وظلت نابولي وصقلية إسبانية، على حين أن الأراضي الواقعة تحت سيطرة البابا ظلت تتمتع باستقلال يحرمه الآخرون. وأصبحت ميلانو - وهي معقل حصين لجماعة الجويلف

نامعلوم صفحہ