حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
اصناف
Marsiglio
من بادوا، وميخائيل من شيسينا
Cesena ، وهو قائد الطريقة الفرنسسكانية، كان هؤلاء الثلاثة في صف المتمردين، فطردوا من الكنيسة عام 1328م. ومن حسن حظهما أنهم تمكنوا من الفرار من أفينيون، ووجدوا الحماية في بلاط الإمبراطور لويس في ميونيخ.
وخلال الصراع بين القوتين، ساند البابا إمبراطورا منافسا للويس، وطرد هذا الأخير من الكنيسة، فرد هذا بأن وجه إلى البابا تهمة الهرطقة عن طريق مجلس كنسي عام. ووجد الإمبراطور في شخص أوكام كاتبا قوي الحجة، على أهبة الاستعداد للدفاع عن وجهة نظر حليفه، وذلك في مقابل الحماية التي كان هذا الأخير يكفلها له. وقد صاغ العالم الإنجليزي بعض الكتابات التي هاجم فيها البابا وانغماسه في الأمور الدنيوية. ومات لويس عام 1347م، ولكن أوكان ظل في ميونيخ إلى أن توفي في عام 1349م.
ولقد كان مارسيليو من بادوا (1270-1342م)، وهو صديق أوكام ورفيقه في المنفى، معارضا للبابا بنفس القوة، وقد عرض بعض الآراء الحديثة عن تنظيم السلطتين الروحية والزمنية واختصاصاتهما. ففي كلتا الحالتين ينبغي أن تكون السيادة الحقيقية للأغلبية الشعبية. وينبغي تشكيل المجالس العامة بانتخابات شعبية، ومثل هذا المجلس وحده هو الذي يكون من حقه إصدار الأوامر بالطرد من الكنيسة، وحتى في هذه الحالة لا بد أن يكون هناك جزاء دنيوي. وهذه المجالس هي وحدها التي يحق لها أن تضع معايير التدين القويم، أما الكنيسة فلا ينبغي لها أن تتدخل في شئون الدولة. ولقد تأثر تفكير أوكام السياسي بمارسيليو إلى حد بعيد، وقلما يصل إلى هذا الحد من التطرف.
ولقد سارت فلسفة أوكام في طريق المذهب التجريبي أبعد مما سار أي مفكر آخر من الفرنسسكان؛ ذلك لأن دنز سكوت مع أنه فصل بين الله وبين ميدان التفكير العقلي، قد ظل مع ذلك محتفظا بقدر يزيد أو ينقص من الميتافيزيقا التقليدية. أما أوكام فكان معاديا للميتافيزيقا على طولي الخط؛ ففي رأيه أن الأنطولوجيا العامة من ذلك النوع الذي تجده لدى أفلاطون وأرسطو وأتباعهما مستحيلة تماما. فالأشياء الفردية الجزئية هي وحدها الحقيقية، وهي وحدها التي يمكن أن تكون موضوعا لتجربة تزودنا بمعرفة يقينية مباشرة. ومعنى ذلك أننا إذا أردنا تفسيرا للوجود، فلن يفيدنا ذلك الجهاز الضخم الذي تؤلفه الميتافيزيقا الأرسطية في شيء. وبهذا المعنى ينبغي أن نفسر قول أوكام: «من العبث أن نستخدم الكثير فيما يمكن أن نستخدم فيه القليل»، وهذا هو أساس كلمته الأخرى الأوسع شهرة التي تقول: «لا ينبغي الإكثار من الكيانات إلى حد يتجاوز ما تدعو إليه الحاجة». وعلى الرغم من أن هذه الكلمة لا ترد في كتاباته، فقد أصبحت تعرف باسم «سكين أوكام». وبالطبع فإن الكيانات التي يقصدها هي الصور والجواهر وما شابهها، مما كانت تهتم به الميتافيزيقا التقليدية. ومع ذلك فإن مفكري العصور اللاحقة الذين كانوا يهتمون أساسا بمشكلات المنهج العلمي، قد فسروا هذه الصيغة على نحو أضفى عليها طابعا مختلفا إلى حد ما. فقد أصبح سكين أوكام وفقا لهذا التفسير مظهرا عاما للاقتصاد في عملية حفظ المظاهر (بمعنى تفسير الظواهر). فإذا كان هناك تفسير بسيط كاف، فمن العبث أن نبحث عن تفسير معقد.
ومع تأكيد أوكام أن الوجود إنما ينتمي إلى ما هو فردي، اعترف بأنه يوجد في مجال المنطق، الذي يبحث في الألفاظ نوع من المعرفة العامة بالمعاني. هذه المعرفة ليست مسألة إدراك مباشر، كما هي الحال في الأفراد، وإنما هي تجريد. وفضلا عن ذلك فليس هناك ما يضمن أن ما وصلنا إليه على هذا النحو له وجود بوصفه شيئا. وهكذا كان أوكام اسميا على طول الخط. فلا بد أن يعد المنطق بالمعنى الأرسطي الدقيق أداة لفظية، وهو يختص بمعنى الألفاظ. وهنا نجد أوكام يتوسع في آراء الاسميين السابقين المنتمين إلى القرن الحادي عشر، بل إن بويتيوس كان قد أكد من قبل أن مقولات أرسطو تنصب على الألفاظ.
إن المفاهيم أو الألفاظ المستخدمة في التخاطب نتاج بحت للذهن. وبقدر ما لا تكون قد صيغت في ألفاظ، فإنها تسمى كليات أو علامات طبيعية في مقابل الألفاظ ذاتها التي هي علامات اصطلاحية، ولكي نتجنب الوصول إلى نتائج ممتنعة، هي أن نحرص على عدم الخلط بين العبارات المتعلقة بأشياء والعبارات المتعلقة بكلمات، فعندما نعلم عن الأشياء كما في حالة العلم، تسمى الألفاظ المستخدمة ألفاظا ذات مقصد أول. أما حين نتكلم عن الكلمات كما فالأشياء الحال في المنطق، فإن الألفاظ تكون ذات مقصد ثان. ومن المهم في أي جدال أو حجة أن نتأكد من أن جميع الألفاظ لها نفس المقصد، وباستخدام هذه التعريفات نستطيع أن نعبر عن الموقف الاسمي فنقول: إن اللفظ «كلي» ذو مقصد ثان. أما الواقعيون فيعتقدون أن له مقصدا أول، وهم في ذلك على خطأ. وهنا تتفق التوماوية مع أوكام في رفض فكرة الكليات بوصفها أشياء، كما يتفق الاثنان في الاعتراف بوجود الكليات قبل الأشياء بوصفها أفكارا في العقل الإلهي، وهي صيغة ترجع أصلا إلى ابن سينا، كما رأينا من قبل، ولكن على حين أن توما الأكويني رأى أن هذه حقيقة ميتافيزيقية يمكن تأييدها بالعقل، فإن أوكام رآها قضية لاهوتية بالمعنى الخاص به، وبذلك أبعدها عن الميدان العقلي. أما اللاهوت فكان في نظر أوكام مسألة إيمان فحسب، فوجود الله لا يمكن إثباته بالبرهان العقلي. وهو هنا يسير أبعد من دنز سكوتس، ويرفض أنسلم كما يرفض الأكويني. كذلك لا يمكن أن نعرف ألذ بالتجربة الحسية، ولا يمكن إثبات شيء بشأنه عن طريق جهازنا العقلي، بل إن الاعتقاد بالله وصفاته يعتمد على الإيمان، وكذلك الحال في تلك المجموعة الكاملة من المعتقدات الدينية المتعلقة بالثالوث وخلود النفس والخلق وما شابهها.
وإذن فمن الممكن أن يوصف أوكام بأنه كان شكاكا بهذا المعنى. غير أن من الخطأ الاعتقاد بأنه لم يكن مؤمنا. صحيح أنه بتحديده مجال العقل وتحريره للمنطق من الشوائب الميتافيزيقية واللاهوتية قد عمل الكثير من أجل تشجيع الجهود المتجددة في البحث العلمي، غير أنه في الوقت ذاته ترك ميدان الإيمان مفتوحا على مصراعيه لكل نوع من الخيال المفرط. لذلك لم يكن من المستغرب أن تتطور بناء على أفكاره حركة صوفية ترتد في نواح كثيرة إلى التراث الأفلاطوني الجديد. وكان أشهر ممثليها هو مايستر إكهارت
Meister Eckhart (1260-1327م)، وهو راهب دومنيكي كانت نظرياته تتجاهل تماما حرفية العقيدة. ونظرا إلى أن خطر المتصوف ليس أقل في نظر الكنيسة الرسمية من خطر المفكر المتحرر، إن لم يكن أشد منه، فإن تعاليم إكهارت قد أعلنت تجديفا في عام 1329م.
نامعلوم صفحہ