في الخمسين، مهذارة مرحة طروب، ولكنها لم تنزلق لسوء، وعمل ابنها زكي نجارا في حارتنا فسار بين الناس مرفوع الرأس، وهي تدمن التدخين والقهوة وسماع أسطوانات منيرة المهدية، أرملة، في كل بيت لها صديقة حميمة، لم تشتبك في مشاجرة واحدة في حارتنا الحافلة بالمشاحنات. •••
وتتنهد أمي ذات يوم وتقول: مسكينة يا أم زكي، ربنا يرعاك ويشفيك!
تتوعك صحتها، وتأخذ في التدهور، تهزل بسرعة مذهلة كأنها كرة ثقبت، يترهل جسمها فيغدو طيات من الجلد خاوية، وتخيب في شفائها كافة الوصفات، وتفتي حكمة حارتنا الخالدة بأن مرضها ليس مرضا من الأمراض المعروفة، ولكنه فعل من أفعال «الأسياد» وألا شفاء لها إلا بالزار، ويجيء اليوم المشهود، فيكتظ بيت جارتنا بالنساء، ويعبق بالبخور، وتتسلط عليه جوقة من السودانيات يكتنفهن الغموض والأسرار، وأطل برأسي من المنور فأرى صديقتي في مشهد جديد، تجلس على عرش في عباءة مزركشة بالتلي والترتر، متوجة الرأس بتاج من العاج، تتدلى منه عناقيد الخرز مختلف الألوان، منقوعة القدمين في وعاء من ماء الورد، تستقر في قعره حبات من البن الأخضر. وتدق الدفوف وتهزج الحناجر النحاسية بالأناشيد المرعشة، فتفوح في الجو أنفاس العفاريت، ويدعو كل عفريت صاحبته المختارة من بين المدعوات للرقص، فتموج القاعة بالحركات، وتتوهج بالتأوهات، وتذوب الأجساد في الأرواح، وها هي أم زكي تتلوى بعنف، كأنما ردت إلى جنون الشباب، وعن فيها المزين بالأسنان المذهبة يصدر صفير حاد، ثم تركض دائرة حول العرش، ويتحول ركضها إلى اندفاع رهيب، وتدور حتى تترنح من الإعياء وتتهاوى مغشيا عليها.
وجلجلت زغرودة وارتفع صوت مبتهلا: ليشهدنا خاتم الرسل الكرام. •••
وها هي الأيام تمر.
وصحة صديقتي لا تتحسن.
لا تمزح الآن ولا تضحك، وتتساءل في جزع: ماذا جرى لي؟ .. ماذا جرى لي يا رب؟! أين أنت يا أم زكي؟!
ويضطر المعلم زكي أخيرا إلى نقلها إلى قصر العيني. وتودع عيناي الدامعتان الكارو وهي تتأرجح بها. وتلمحني واقفا فتلوح لي بيدها وتقول: ادع لي فإن الله يستجيب لدعاء الصغار.
فأرفع عيني إلى السماء وأتمتم: «يا رب .. رجع لنا تيزة أم زكي.»
ولكن كأن الكارو حملتها إلى بلاد الواق الواق.
نامعلوم صفحہ