فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ ارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُ وَكَثُرَ اللَّغَطُ وَأُمِرَ بِنَا فَخَرَجْنَا، ثُمَّ أَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ طَلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكَمَ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيَسَ مِنَ الْإِيمَانِ قَالَ: رَدُّوهُمْ عَلَيَّ، فَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ.
فَهَذَا مَلِكُ الرُّومِ - وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ أَيْضًا - عَرَفَ وَأَقَرَّ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّهُ سَيَمْلِكُ مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَأَحَبَّ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ فَوَلَّوْا عَنْهُ مَعْرَضَيْنِ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ فَمَنَعَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ الْخَوْفُ عَلَى مُلْكِهِ وَرِئَاسَتِهِ، وَمَنْعَهُ أَشْبَاهُ الْحَمِيرِ مِمَّا مَنَعَ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ.
وَلَمَّا عَرَفَ النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ أَنَّ عُبَّادَ الصَّلِيبِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ عِبَادَةِ الصَّلِيبِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، أَسْلَمَ وَحْدَهُ سِرًّا، وَكَانَ يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ بَيْنَهُمْ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ مُجَاهَرَتُهُمْ.
ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَرْسَلَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ بِكِتَابِهِ
1 / 278