من جملة الأحداث الجلى التي مرت وأنا مشغول في جسدي، كما قال الحجاج لأهل العراق، هذه الأحلاف العسكرية هنا وهناك، غرب وشرق، وشمال وجنوب، وفوق وتحت، حتى تتم حدود الجهات الست. وهل تتعجب إذا قلنا فوق؟ ففي هذه الأيام صار هذا الفضاء الواسع ساحة النضال. وهل هناك أعظم وأسهل من هذه الساحة العلوية التي لا تحتاج إلى طرق واسعة - أوتستراد - ولا إلى تعبيد، وما هذه هي المرة الأولى التي تدور فيها رحى الحرب في القطاع الفوقاني من هذه الأكوان.
أما كانت السماء ساحة أول عملية عسكرية بل معركة حربية كانت الأرواح السماوية عساكرها؟ فثورة الملائكة أول ثورة عرفها التاريخ البشري. وعرف الوحي الإنسان أن لا بد لكل وطن من عسكر يحميه، سماويا كان أم أرضيا. إن النزاع ملاك كل حياة. ففي كل مجتمع، وفي كل أسرة، بل في كل جسم مشادة بل تطاحن دائم يقوم فيه الجديد على أنقاض القديم.
كان إبليس يرتع في ملكوت الله ونعيمه، فتطاول ببصره إلى العرش الإسني فحدثته نفسه به. وشايعه فريق من إخوانه، خدام العرش، فانشق الملائكة حزبين: حزب الله، وعلى رأسه ميخائيل، وبزات رهطه أجنحة خضراء فتانة، ووجوه فتية طرية ذات ثغور تفيض سحرا علويا، وحزب لوسيفوروس وشاراتهم قرون، ثم أذناب لا بد منها لذوات القرون. وهكذا ثم لكل عسكر ما ينماز بها. أما أعتدة تلك الحروب الأولى، فكانت سيوفا كما زعم لنا المصورون.
كانت حربا صاعقة حقا فاندحر إبليس وجنوده، وكانت الهدنة فأجلوهم عن حدود الملأ الأعلى، وأصبحت الأرض مستعمرة لهم. فإذا جارينا العلماء وقلنا معهم: إن الفردوس الأرضي في الشرق، كان الشرق مهد العسكرية الأولى.
فالعسكرية بذرة وجدت في أول خلية من خلايا الكائنات. تنشق فتصير شجرة، فغابة أشبة كلما مست الأحداث أنانية البشر التي يعبرون عنها بالشرف والكرامة. وما الكرامة والشرف إلا الدفاع عن النفس وتنازع البقاء. فلولا الكرامة والشرف اندحر الإنسان في جبهة الحياة وظل كابن عمه القرد يراشق بالحجارة. بيته الكهف وسراجه القمر، ومصابيحه المعلقة هذه النجوم الحائرة.
لسنا ننكر أن الحرب ويل، ولكنه ويل لا بد منه للتطهير والتنقية. لا بد من نفي الزؤان ليسلم القمح، ولا بد من اختيار الأصلح بذارا لنحصل على الغذاء الأنسب، والغلة المثلى. ولا يظل حصادنا خليطا لا تستلذ النفس رغيفه، ولا تستطيب طعامه.
الحياة الإنسانية منذ نشأتها حتى الساعة التي نحن فيها سلسلة أعمال عسكرية، قصرت وطالت بحسب الأحوال والظروف. وما تقهقرت أمة وقصرت عن تأدية رسالتها إلا عندما ضعفت روحها العسكرية: إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب. (أعلى الممالك ما يبنى على الأسل).
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
لا أحاول سرد أخبار الحروب والأعمال العسكرية، فتاريخ كل أمة هو تاريخ أمجادها العسكرية. كان الناس ولا يزالون يتعسكرون ليدافعوا عن قضية يرون فيها سر بقائهم الأنسب، فسموها تارة الله، وطورا الوطن، وحينا التمدين. وهم في الحقيقة لا يدافعون إلا عن (الأنا)، وفي الأنا كل أسرار البقاء. سخرتنا قوة نجهلها لمشيئتها، فنحن نعمل ما نشاء ولا ندري لماذا نعمل. وتتغير مظاهر أعمالنا في مجرى الزمن فنستقبح اليوم ما استحسنه أسلافنا، ثم لا نلبث أن نأتي شرا منه متوهمين أننا نصنع خيرا.
نامعلوم صفحہ