عفوا إذا شبهنا الموظف بشمشون الجبار. وأي جبار يبلغ السماء طولا مثل الموظف، فهو يرى نفسه فوق الناس، يزار ولا يزور ويعاد ولا يعود، ومن المخطئ يا ترى؟! هو أم نحن الذي نفتقده في كل مناسبة؟ إذا حزن عزيناه، وإذا استوحى طرنا إليه وحشدنا قوانا لتأييده. كان بالأمس أديبا كيسا فما عدا مما بدا حتى نرى منه هذا التزنبر! لقد أصابنا معه ما أصاب ذلك اللبناني مع مشايخ ضيعته. كان في ضيعة من لبنان فلاح مكفي، تعشق مسايرة (المشايخ) حتى الوله، واستطيب مذاكرتهم التي تثير الضحك على ما فيها من العبر. فأخذ يتعشى قبل الغروب ليأتي بيوتهم ملس الظلام، ثم لا يعود منها حتى يتدهور الليل.
وكثيرا ما كان المشايخ يزأرونه ولا يحس، ويقابلونه بفجاجة ولا يشعر. يستحلي حديثهم، ولو تماجنوا به وتنادروا عليه، وما كان يهتم في حضرتهم إلا بأن يقول كلمة جرت العادة في قولها عندنا للشاربين: هنيئا يا سيدي، أو هنيئا لمن شرب، أو صحة وعافية، بحسب مراتب الناس.
وأخيرا تعود المشايخ رؤية هذا الضيف، فألفوه، وتغير نظرهم فيه حتى صار في عين نفسه كأنه واحد منهم، فطيف بالشراب عليهم جملة، ذات ليلة، فأدى صاحبنا مهمة: هنيئا يا سيدي، لكل واحد منهم. ثم جاءت نوبته فشرب وأجال نظره فيهم فإذا هم في شغل عنه. ورأى أن يتنحنح ففعل، ثم أح، ثم سعل. وما من يلتفت، فانشق صدره من الغيظ حتى عدا طوره وقال لهم: محسوبكم شرب يا مشايخ! فأجابه أحضرهم نكتة وألذعهم نادرة: (كل عمره يشرب). فكركروا جميعا في الضحك، ولم يفز صاحبنا منهم بكلمة (صحة) حتى بعد استجدائها.
فمن الملوم يا ترى؟ ألسنا نحن الملومين لأننا أعطينا هؤلاء الناس أكثر مما لهم. ألم يكن سامي بك الصلح على حق حين قال: (إنه سيقترح على الحكومة تغيير اسم الموظف باسم خادم الشعب حتى تسير قضايا الدولة والشعب في الطريق المستقيم).
فما معنى كلمة الوظيفة التي اشتق منها اسم الموظف؟ هي طعام ورزق محددان يتناولهما المستعمل ممن استعمله، ومن يأكل طعامك وجبت عليه خدمتك. إذن الموظف خادم أمين شريف يأخذ الجراية في حينها فيأكل رغيفه بعرق جبينه، وعليه أن يتم الأعمال في مواقيتها. أما الموظف الذي يريد أن يسميه سامي بك خادما فقد سماه المعري، منذ ألف سنة، أجيرا.
الملبوس لا يعمل القسوس. فالبابا كان يوقع فيما مضى عبد عبيد الله ، والبطاركة والأحبار وغيرهم يوقعون الحقير والفقير، والكردينال مري دلفال، وزير الفاتيكان على عهد بيوس العاشر، وقع لي: خادمكم المطيع.
كأن سامي بك، وهو أستاذ الشرق اللبناني الأعظم، يريد أن يحد من أرستقراطية الموظف وغطرسته حين فكر بهذا الاسم، ولكن أي موظف؟ ذاك الذي يتغطرس ويتفرعن، ويتسلطن كديك الحبش؟!
أليس هذاك الذي قذفته سخرية القدر إلى دور الحكومة فجلس على طنافسها، بعدما كانت قوائم كرسيه من خشب الحور الخام، ومقعدها حبال قش فتلت فتل شزر!
ومن ينتفخ كضفدع لافونتين؟ أليس ذاك الذي جاء السراي ببنطلون كأن قفاه خريطة جغرافية للخطوط الحديدية، ثم صار حين امتدت يده إلى المال السائب يبدل كل يوم حلة؟!!
أليس ذاك الذي جاء منتعلا بوطا مفلطحا كأنه خف جمل، مرقعا كمداس أبي القاسم الطنبوري، ثم صار اليوم من زبائن النجار وباتا، وأشهر الماركات المسجلة؟!!
نامعلوم صفحہ