1
ومن ناحية أخرى، فإن التسلط على الإنسان لم يكن حتى عهد قريب، بل حتى ما قبل الحرب العالمية الثانية على وجه التحديد، يمتد بحيث يهدد حرية الإنسان الداخلية، بل كانت هذه الحرية تعد أساسية لدى الفرد ولا يحاول المجتمع المساس بها. «فلم تكن القوى الإنتاجية قد بلغت بعد مرحلة التطور التي أصبح فيها بيع نواتج العمل الاجتماعي يقتضي تنظيما للحاجات والرغبات، حتى العقلية منها، فعندما كان المجتمع البورجوازي على مستوى منخفض من حيث قواه الإنتاجية، لم تكن توافرت لديه بعد الوسائل التي تتيح له التحكم في الروح والعقل إلا إذا شوه هذا التحكم ووصمه عن طريق العنف الإرهابي. أما اليوم فإن التحكم التام ضروري، ووسائله متوافرة: الإرضاء الشامل للجماهير، وأبحاث التسويق، وعلم النفس الصناعي، ورياضيات العقول الإلكترونية، وما يسمى بعلم العلاقات الإنسانية. وبفضل هذه الوسائل كلها يتم تحقيق الانسجام والتناسق بين الفرد والرغبات الضرورية للمجتمع؛ أي بين الاستقلال والخضوع، بطريقة غير إرهابية، ديمقراطية، تلقائية آلية.»
2
الجديد، إذن، في نوع القهر الذي يمارس على الإنسان في مجتمعنا أنه أولا قهر عقلي منطقي، يندمج تماما مع المقومات الأساسية للتنظيم الاجتماعي، وليس عقبة في وجه هذا التنظيم أو حالة انحراف انفعالي عابرة، وأنه ثانيا قهر يمارس على الإنسان كله، على حياته الباطنة وعلى تفكيره وعقله وعواطفه بقدر ما يمارس على مظاهر حياته الخارجية وظروف عمله وإنتاجه وعلاقاته الاجتماعية، وتلك هي قصة القضاء على إنسانية الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث. فلنتابع من خلال كتابات ماركيوز، وخاصة كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد»، بعض تفاصيل هذه القصة.
إن المجتمع الصناعي الحديث، الذي يقتضي تنظيما إداريا بالغ الدقة والإحكام، يسيطر على الإنسان بنفس أساليب الإدارة المحكمة التي يسيطر بها على عملية الإنتاج، وتترتب على هذه السيطرة أنواع من الاغتراب العقلي والثقافي، تشكل دعامة أساسية للسيطرة الاقتصادية في نفس الوقت الذي تعد فيه نتيجة لها.
فالإنسان الحديث يستعبد باسم العقل - نفس العقل الذي يقوم بتنظيم الإنتاج وتوزيعه في العالم الرأسمالي. ولما كان هذا الاستعباد قائما على العقل، ومرتبطا بالازدهار الاقتصادي الذي تتمتع به المجتمعات الصناعية المتقدمة، فقد غدا - لأول مرة في تاريخ البشرية - استعبادا مقبولا، بل استعبادا يحرص عليه، ويدافع عنه، ضحاياه أنفسهم؛ ذلك لأن هؤلاء الضحايا هم الذين يستهلكون منتجات المجتمع الصناعي ومن ثم فإنهم هم الذين يحافظون عليه، ويعملون على ضمان استمراره.
والواقع أن الإدارة، التي تتحكم في العمليات الاقتصادية، أصبحت في عصرنا الحاضر أكمل وسائل السيطرة على البشر والتحكم فيهم، بحيث غدت أفضل المجتمعات إدارة هي أكثرها عبودية. ولقد أصبح من الضروري في عصرنا هذا أن ترتبط عملية الترشيد المتزايد للإنتاج باستعباد متزايد للإنسان، ويزداد هذا الاستعباد فظاعة حين لا يتخذ صورة إدارة منظمة فحسب؛ ذلك لأنه يطالب لنفسه عندئذ، باسم السعي إلى مزيد من التنظيم، وباسم العقل والترشيد، بسلطة أعظم وبمجال أوسع للقهر والتسلط.
وهكذا يرتبط القهر المتزايد بالارتفاع الكبير في مستوى المعيشة - في المجتمع الصناعي المتقدم - بعد أن كان من قبل يرتبط بالفقر والعجز عن تلبية الحاجات الضرورية. كما يرتبط ذلك القهر بسيادة العقلانية، بل وبالسعي إلى الحرية، وكأننا هنا إزاء مظهر من مظاهر «دهاء العقل» وخداعه، على نحو ما تحدث عنه هيجل؛ فالعقل يخدع ذاته، ويقع في شراك نصبها لنفسه، حين يجعل من التنظيم العقلاني وسيلة لممارسة الاضطهاد على ضحايا يقبلون اغترابهم عن طيب خاطر، ويعملون بإخلاص على دعم الظروف التي تزيد من اضطهادهم، وحين ينظم حكم الحرية على نحو يقضي فيه تماما على أي احتمال لظهور الحرية.
3
ولنضرب مثلا لهذا الخداع الذاتي الذي يمارسه العقل في المجتمع الصناعي المتقدم؛ فالتهديد بالفناء الذري. في عصرنا الحالي يستخدم في المحافظة على نفس القوى التي تسبب هذا التهديد، بحيث تنصرف الجهود كلها إلى درء الخطر والإقلال من التهديد، لا إلى إزالة الأسباب المؤدية إليه. وتقوم الدول سلميا بإنتاج وسائل الدمار، ويثري المجتمع ويزداد قوة وضخامة بفضل محافظته على الخطر، والحياة على حافة الهاوية. ولا جدال في أن هناك لا معقولية واضحة في هذا السلم الذي يحافظ عليه بالتهديد المستمر بالحرب.
نامعلوم صفحہ